الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

تاريخ الأندلس ( 2 )

تحدثنا في المرة السابقة عن مقدمة في فتح الأندلس وسنبدأ الآن إن شاء الله في الحديث عن عهد الفتح الإسلامي للأندلس وقبل أن ندخل في تلك التفاصيل نريد أن نعرف كيف كان الوضع في البلاد الملاصقة لبلاد الأندلس مثل المغرب والشمال الإفريقي التي دخلها الإسلام من سنة 23هـ ويسكن هذه المناطق قبائل تسمى البربر وكانت تسلم وترتد إلى أن استقرت على الإسلام في أواخر سنة 85 أو 86 من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله لذلك نأخذ فكرة عن موسى بن نصير ذلك القائد البارع التقي الورع.

فموسى بن نصير هو واحد من التابعين وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبوه نصير وكان نصير غلاما نصرانيا أُسر على يد خالد بن الوليد في معركة عين التمر وكان يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس وخالد بن الوليد ومن معه كانوا يعلموه الإسلام فقبل أن يدخل الإسلام وكان صغيرا عمره 13 أو 14 سنة وأعجب بالإسلام وكان معه سيرين الذي هو المفسر المعروف للأحلام والذي هو أبو محمد بن سيرين ثم انظر لنصير الذي أسلم ماذا لو لم يكن أسلم كان سيكون راهبا وينتهي أمره على هذا ولكن الله منّ عليه بالإسلام ثم جاء ابنه موسى وفتح الشمال الإفريقي وكذلك الأندلس وكل ذلك يشاركهم خالد بن الوليد رضي الله عنه في الأجر فقد قال الله عز وجل { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت .

فهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي ونصير عندما أسلم أخذ يدرس الإسلام ويتدرج فيه إلى أن أصبح عالما من علماء الإسلام ومجاهدا أيضا وكان فارسا مغوارا حتى أصبح في الدولة الأموية قائدا لجيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه حتى أن ابنه موسى كان يتربى مع أولاد الأمراء والخلفاء فتربى على حياة الجهاد في سبيل الله والدين ونشر الإسلام ثم كبر موسى وأصبح يترقى في المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في مصر ثم والي إفريقيا بعد ذلك سنة 85 ومنذ أن أصبح واليا لأفريقيا ثبت الإسلام في شمال إفريقيا وكان يتساءل لماذا يدخل البربر الإسلام في شمال إفريقيا ثم يرتدوا عن الإسلام وأدى هذا إلى اغتيال عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر ولماذا يحدث هذا بصورة متكررة ؟ .

وجد موسى بن نصير أن هناك سببين لهذا :

أولا : أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحا سريعا جدا لا يستطيعوا فيه أن يحموا ظهورهم مما يؤدي إلى انقلاب الناس عليهم بعد ذلك فبدأ يفتح البلاد بتأني شديد وخطوة خطوة كما كان يفعل خالد بن الوليد رضي الله عنه فأتم فتح البلاد في سبع أو ست سنين .

ثانيا: وجد موسى بن نصير أن هناك تعليما ضعيفا للدين الإسلامي بين تلك البلاد فهم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة فأخذ يأتي بالتابعين من الحجاز والشام ليعلموا الناس الإسلام فأحب الناس الإسلام وأقبلوا عليه بل وانضموا لجيش موسى بن نصير .

بعد أن استتب الأمر لموسى بن نصير فكر في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (123) سورة التوبة. وكان موسى بن نصير قد فتح بلاد شمال إفريقيا إلا مدينة سبتة وهي الآن مدينة من المدن المغربية ويفصل بينها وبين مضيق جبل طارق والذي يصل عرضه في بعض المناطق 13 كيلو متر وفي مناطق أخرى 37 كيلو متر وعلى حدودها ميناءين كبيرين هما ميناء طنجة وميناء سبتة فميناء طنجة فتح ولكن ميناء سبتة لم يفتح بعد في هذا الوقت وتولى أمر ميناء طنجة رجل من القواد المهرة وهو طارق بن زياد وهو من قبائل البربر وهو ليس بعربي ونحن نظن أن البربر هم أناس وجوههم سوداء أو أنهم من الزنوج ولكن الحقيقة أن شعورهم شقراء وعيونهم زرقاء ولونهم أبيض حتى إن بعض المحليين يقولوا إنهم من أصول أوروبية فكان طارق بن زياد بنفس تلك المواصفات ولكنه كان ضخم الجثة وشعره أشقر وكان رجلا وسيما ولكن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده .

ولما أراد موسى بن نصير فتح الأندلس واجهته عدة مشاكل وهي:

أولا: المسافة بين المغرب والأندلس 13 كيلو متر على الأقل ولا يملكون الكثير من السفن لتحمل جيشا وتنقله إلى الأندلس .

ثانيا: هناك جزر تسمى جزر البليار وهي قريبة جدا من أسبانيا وهذه الجزر مملوكة من الروم ولو موسى بن نصير فتح الأندلس وترك هذه الجزر فلن يكون ظهره محميا وقد تعلم ألا يترك ظهره وأن يؤمن ما يفتحه .

ثالثا: هناك ميناء اسمه سبته وهذا الميناء لم يفتح ويحكمه رجل نصراني يسمى يوليان أو جوليان وكانت له علاقات طيبة مع ملك أسبانيا الأسبق غَيطَشه والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم بعده رجل يسمى لوزريق كما كانت تسميه العرب أو رودريكو فكان من الصعب أن يتجه موسى بن نصير إلى الأندلس حيث لوزريق ويترك في ظهره جوليان فربما عقد اتفاق مع لوزريق على الرغم من وجود خلافات بينهما إلا أن الأمر غير آمن .

رابعا: قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من الشام وبلاد الحجاز واليمن قوات محدودة العدد ومنتشرة على الشمال الإفريقي كله وإذا قام بجمعها قد تنتقد عليه بعض دول شمال أفريقيا وقد لا يستطيع هذا العدد المحدود أيضا فتح الأندلس .

خامسا: جيوش الأندلس كبيرة جدا وضخمة جدا في العدد والعتاد وكان لوزريق هذا رجل قوي ومتكبر وله قلاع كثيرة وحصون .

سادسا: موسى بن نصير والمسلمون لا يعلمون شيئا عن طبيعة الأندلس فهم لا يعرفون جغرافية هذه البلد ولم تطأ أقدامهم هذه البلد من قبل .

ولعل هناك مشاكل أكثر من هذا ولكن لا نعلمها وإن كان هناك بعض الأنباء عن أن هذه الأراضي مليئة بالجبال وهذا صعب على الجيوش بصفة عامة لأنهم كانوا يستعملون حميرا وبغالا في التنقل وإذا قابلهم نهر يكون أمرا شاقا عليهم .

ومع ذلك أصر موسى بن نصير فتح بلاد الأندلس ولم يكسل عن فتح بلاد الأندلس فأول ما فعله بدأ في بناء المواني وأشهرها ميناء القيروان وبنا فيه سفن للمسلمين ومع أن هذا كان يستلزم وقتا طويلا إلا أنه كان عنده همة عالية .

وبدأ أيضا يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة ثم كون منهم فرقا لتجاهد في سبيل الله عز وجل ومن العجيب أن تجد البلد الذي تُفتح يدخل أهلها في الجيش وتتغير طبائعهم وكذلك ولائهم بل يحارب البربر مع المسلمين العرب بكل استماتة وحب في الشهادة ويصبح كل همه نصرة هذا الدين وهذا الأمر لم يحدث قط إلا مع المسلمين .

ففرنسا على سبيل المثال دخلت الجزائر 130 سنة وخرجت والناس مازالوا مسلمين ومتحمسين للإسلام لكن الإسلام انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله عز وجل وبذل النفس لله سبحانه وتعالى وهذا أمر عجيب لا يتكرر إلا مع المسلمين فزاد عدد المسلمين وزاد عدد الجيش الإسلامي في شمال أفريقيا وأصبح معظم هذا الجيش من البربر الذي كانوا يحاربون المسلمين أصبحوا الآن معظم هذا الجيش الإسلامي .

وأيضا قام موسى بن نصير بتولية طارق بن زياد قائدا للجيش الإسلامي المتجه لفتح الأندلس وعلى الرغم من أن طارق بن زياد بربري إلا أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى ذلك لأن دعوة الإسلام ليست دعوة عربية بل هي دعوة عالمية فطارق بن زياد رجل جمع بين الورع والتقوى والكفاءة الحربية والرغبة في أن يموت في سبيل الله عز وجل وطارق بن زياد رجل يعرف التحدث مع البربر بطلاقة ولن تكون هناك حساسية في الجيش لأن معظم الجيش بربري ويستطيع أيضا التحدث بالعربية بطلاقة فيعرف التفاهم معهم .

والأمر الرابع أنه قام بفتح جزر البليار التي هي في شرق بلاد الأندلس وبالتالي حمى ظهره من ناحية الشرق .

ولكن تبقت مشكلة واحدة ألا وهي ميناء سبتة والذي لا يعرف كيف يحل مشكلته فهو قدم ما عليه وكذلك مازال لا يعرف طبيعة أرض الأندلس ويأتي قول الله عز وجل { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور ٍ} (38) سورة الحـج فتأتي فكرة ليوليان ولم يكن للمسلمين أي دخل بها فكان هذا تدبير من الله عز وجل وهذه الفكرة هي أن الأرض تتناقص من حول يوليان وإن صبر على حرب المسلمين الآن لن يصبر على حربهم بعد ذلك أيضا يوليان بداخله حقد كبير على لوزريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت وذلك لأن لوزريق قتل غيطشه حاكم الأندلس الأسبق وكانت هناك علاقات طيبة جدا بين غيطشه ويوليان .

أولاد غيطشه استنجدوا بيوليان ويوليان لا يستطيع مواجهة لوزريق وإذا دخل المسلمون ميناء سبتة وفتحوها إلى أين سيذهب يوليان فهو لا يستطيع الذهاب الأندلس وهو مؤيدا لحاكم الأندلس الأسبق وكذلك أولاد الحاكم الأسبق للأندلس والأمر الآخر أن أولاد غيطشه كان لهم الكثير من الضياع في الأندلس وقد صودرت وأخذها لوزريق الذي أذاق شعبه الأمرين وعذب شعبه وكان يفرض عليهم الضرائب الباهظة فكان شعبه يكرهه وكان متنعما وشعبه في بؤس شديد .

فيوم من الأيام كان والي طنجة طارق بن زياد رحمه الله يجلس في بلده على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة يجد أن هناك رسلا من ملك ميناء سبتة جاءت تتفاوض معه وقال له الملك أنه سيعرض عليه ثلاثة أمور في مقابل معين:

الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة الذي صعب على المسلمين فتحه .

الأمر الثاني: أنه سيمده ببعض السفن التي تساعده على عبور مضيق جبل طارق فموسى بن نصير أقام بعض السفن ولكن ليست كافية لجيش المسلمين وقد كان استنفذ جهده .

الأمر الثالث: سيعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس حتى تعرف كيف تسير فيها .

أما المقابل الذي كان يريده يوليان هو أن يأخذ ثلاثة آلاف ضيعة كانت لغيطشه وقد صودرت من قبل الحاكم الظالم لوزريق والضيعة هي بستان أو حديقة أو جنة من جنات الأرض ولما سمع طارق بن زياد هذا سعد سعادة بالغة لأنه لا يهمه أرض ولكن يهمه أن يبلغ الناس الدين فهكذا المسلمين يهمهم أن يبلغوا دينهم للناس وليس أن يمتلكوا ما ملك الناس بل لو أن الناس دفعوا الجزية يترك لهم كل ما ملكوا وإن دخلوا في الإسلام فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين فلم يأتي المسلمون من أقصى البلاد حتى يجمعوا مالا أو يجمعوا ثروة .

فيذهب طارق بن زياد إلى موسى بن نصير ويخبره بما حدث فيسر سرورا عظيما ولكن يسير في الترتيب الصحيح للأمراء فيقوم بإرسال رسالة إلى الوليد بن عبد الملك رحمه الله ويقول له إنه جاءنا عرض فيه كذا وكذا فوافق عليه الوليد بن عبد الملك ولكن أمره بشيء كان يفكر فيه موسى بن نصير وهو ألا يعتمد على ما أعطاه له يوليان من شرح لجغرافية الأندلس وذلك لأنه قد يتفق مع لوزريق ضدك فأمره أن يرسل بسرية لاكتشاف الجزء الجنوبي من هذه البلد .

فجهز موسى بن نصير سرية من خمسمائة رجل على رأسهم طريف بن مالك أو طريف بن مُلُوك حسب اختلاف الروايات وهو من البربر أيضا وتم عبور طريف مضيق جبل طارق إلى الأندلس في رمضان سنة 91 من الهجرة ثم بدأ يدرس منطقة الأندلس الجنوبية وعاد بنجاح إلى موسى بن نصير وأخبره بطبيعة الأندلس الجغرافية وبدأ موسى بن نصير عام كامل يجهز فيه جيش المسلمين ويعد العدة حتى أعد سبعة آلاف جندي مع أن جيوش النصارى أكبر بكثير من هذا العدد ولكن هذا ما قدر عليه ثم ولى على هذا الجيش طارق بن زياد .

بدأ جيش المسلمين العبور إلى الأندلس في شعبان سنة 92 من الهجرة وذلك بقيادة طارق بن زياد والذي نزل على جبل سمُِي بعد ذلك بجبل طارق وهو إلى الآن بهذا الاسم حتى في اللغة الأسبانية ثم اتجه منه على منطقة واسعة تسمى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي ولم يكن هذا الجيش هو جيش النصارى الضخم وإنما هو مجرد حامية ثم عرض عليهم أمور وقال لهم ( إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله عز وجل وإما أن تدفعوا الجزية ونترك لكم ما في أيديكم أيضا أو أنكم تدخلون معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاث (أي ثلاثة أيام) ) .

طبعا النصارى القوط الموجودين في هذه المنطقة أخذتهم العزة وبدأوا يقاتلوا المسلمين فهزمهم طارق بن زياد وكانت المعركة سجالا بين الجيشين وزعيم القوط في هذه المنطقة أرسل رسالة سريعة جدا إلى لوزريق في طليطلة والتي كانت عاصمة الأندلس والتي تقع في منتصف الأندلس تقريبا ويقول له : ( أدركنا يا لوزريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء) فهؤلاء القوط تعجبوا لما في المسلمين من صفات فهم قد تعودوا على أن الفاتحين يأخذون خيرات البلاد ويقتلون ويذبحون ولكنهم وجدوا المسلمين يقولون لهم لو دخلتم ديننا تركنا لكم كل شيء وأصبحتم منا وإن لم توافقوا على الدخول في الدين تدفعوا الجزية ولن نأخذ من أرضكم شيئا ووجدوا هؤلاء القوط المسلمين يصلون في الليل وكأنهم رهبانا ويقاتلون في النهار وكأنهم أمهر المقاتلين فلهذا لم يدروا أمن الأرض نحن أم من أهل السماء .

وصلت الرسالة للوزريق وجن جنونه فجهز جيشا قوامه مئة ألف رجل من الفرسان وكان جيش طارق بن زياد أغلبه من الرجالة أي الذين يمشون على أقدامهم وليس معهم خيل يركبوه واتجه لوزريق بجيشه من الشمال إلى الجنوب وطارق بن زياد وجد أن الأمر هكذا لا يستقيم كيف يقف سبعة آلاف فقط أمام مئة ألف فمن المؤكد أن هذا أمر غاية في الصعوبة .

فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد فأرسل إليه جيشا قوامه خمسة آلاف وأيضا رجالة وليسوا فرسانا وكان على رأس هؤلاء الخمسة هو طريف بن مالك الذي اكتشف الأندلس .

أصبح الآن جيش المسلمين قوامه اثنتا عشر رجلا أغلبهم رجالة وبدأ طارق بن زياد يبحث عن أرض مناسبة يقابل فيها جيش لوزريق حتى وصل إلى منطقة تسمى وادي برباط أو وادي لكة واستقر رأيه على هذه المنطقة وللنظر لفكر طارق بن زياد العسكري فهذه المنطقة من خلفها جبل وعن يمينها جبل حتى يحمي خلفه ويحمي ميمنته وعن شمال هذا الوادي بحيرة عظيمة جدا فلا يستطيع أحد أن يلتف من يساره فيباغته ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل عليه أحد من ظهره فيباغته ويصبح فقط جهة الشمال أو الجهة الأمامية له هي الجهة المفتوحة ليواجه النصارى .

ظهر الجيش النصراني وكان قوامه مئة ألف فارس وكان فيه بغالا عليها حبال لظن لوزريق أن بهذه الحبال سيقيد المسلمين ويجعلهم عبيدا فالمعركة الآن تعتبر لمن ينظر إليها منتهية ولصالح لوزريق والذي جاء هذه المعركة وهو جالس على سرير محلى بالذهب ويحمله بغلين ويرتدي التاج فلم يستطع التخلي عن دنياه حتى وهو في لحظات الحرب .

ويتم اللقاء بين الجيشين في 28 من رمضان في سنة 92 من الهجرة والعجيب أن شهر رمضان هو شهر فتوحات وانتصارات وقيام لليل وصيام وقرآن ولا ندري لماذا تحول لشهر مسلسلات جديدة وأفلام جديدة وفوازير وسهر للفجر ونوم بالنهار وهروب من العمل ومشاجرات بين الناس وإن سألت أحدهم لماذا تتشاجر يقول لك لأني صائم ولكن انظر للمسلمين في هذه المعركة الصعبة وفي رمضان أيضا .

الناظر لجيش المسلمين يشفق عليهم ويقول كيف يواجه اثنتا عشر ألفا من المسلمين هذا الجيش الجرار ولكن الناظر لهذا الأمر بعين التفكر والتحليل يشفق على جيش النصارى لماذا؟ .

فهذان خصمان اختصموا في ربهم فشتان بين الفريقين شتان بين فريق خرج طائعا راغبا في الجهاد وبين فريق خرج مضطرا مجبرا على الجهاد شتان بين فريق أسمى أمانيه أن يموت في سبيل الله وفريق أسمى أمانيه أن يعود لأهله وماله وهذا فريق يقف فيه الجميع صفا واحدا عند الصلاة الغني بجوار الفقير والوزير بجوار الغفير والحاكم بجوار المحكوم بينما هذا فريق يملك فيه بعض الناس الآخرين ويستعبد بعضهم بعضا وهذا فريق له قائد رباني طارق بن زياد رحمه الله جمع بين التقوى والحكمة وجمع بين الرحمة والقوة وهذا فريق له قائد متسلط مغرور ألهب ظهر شعبه بالسياط وعاش منعما وشعبه في بؤس شديد وهذا جيش يأخذ أربعة أخماس الغنائم وهذا جيش كل ما يغنمه يذهب إلى الحاكم المتسلط المغرور .

وهذا فريق يؤيده الله عز وجل وهذا فريق حارب ربه وشرعه هذا فريق الآخرة وهذا فريق الدنيا فعلى من تكون الشفقة ؟ .

قال الله تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (21) سورة المجادلة. وقال أيضا { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } (141) سورة النساء. ودارت الموقعة في 28 رمضان واستمرت ثمانية أيام متصلة تخللها يوم العيد وهو عيد الفطر وكانت أفواجا من النصارى تأتي على المسلمين ولكن المسلمين صابرون ثمانية أيام حتى انتهت المعركة في اليوم الثامن ومن الله على المسلمين بالنصر بعد أن علم صدقهم وعلم صبرهم على هذا القتال وقُتل لوزريق أو هرب إلى الشمال في رواية أخرى واختفى ذكره من الوجود وغنم المسلمون مغانم كثيرة كان أهمها الفرسان بعد أن كان معظمهم رجالة لكن هل كان هذا بلا ثمن؟ لا فقد استشهد من المسلمين ثلاثة آلاف مسلم دماء غالية روت أرض الأندلس فلم يصل هذا الدين بتضحيات بسيطة بل بدماء غالية .

ترى هل قضية حرق السفن حقيقة أم خيال ؟ حيث يقول البعض إن طارق بن زياد حرق سفنه ليحمس جنوده وقال لجنوده البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم إلا السيوف. فهذه الرواية اختلف المؤرخون فيها فمنهم من قال أنها باطلة ومنهم من وافق عليها ولكن هذه الرواية لم يصح لها سندا فنحن عندنا علم الرجال ويجب أن يكونوا رجال صِدق وعدل حتى نأخذ منهم رواية وهذه الرواية لم ترد في كتب المسلمين الذين نثق فيهم وفيما كتبوه عن التاريخ وإنما وردت في الكتب الأوروبية التي تحدثت عن هذه الموقعة .

ولو حدث هذا بالفعل لكان هناك تعليق من موسى بن نصير على هذه الفعلة ولكان هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك على هذه الفعلة ولكان هناك تعليق من الفقهاء على هذه الفعلة أيضا كيف يحرق قائد جيش سفنه وهل هذا جائز أم لا؟ والكتب جميعا لم يرد فيها أي رد فعل على هذه الفعلة مما يشكك في حدوثها أصلا .

الأمر الثالث
أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الأمر لأمر واضح جدا وهو أن الأوروبيون والمحللون لا يستطيعون أن يفسروا كيف انتصر اثنتا عشر ألفا من الرجالة على مئة ألف من الفرسان وفي بلادهم أيضا وفي أرض عرفوها وأرض ألفوها فقالوا إن طارق بن زياد حرق السفن ليستميت الجنود في القتال ولهذا هُزم جيش النصارى ولو كانت الأمور طبيعية لأخذ المسلمون جيشهم وعادوا إلى بلادهم ولكن نقول إن النصارى هؤلاء لا يدرون شيئا عن القاعدة الإسلامية التي هي مسجلة في كتابه الكريم وهي قوله تبارك وتعالى { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (249) سورة البقرة. فالناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جدا أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على أعدائهم بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون قلة والكافرين كثرة وينتصر المسلمون عليهم بل إنه من العجب العجاب لو زاد المسلمون في العدد هُزم المسلمين كما حدث في حنين فقد قال الله عز وجل { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } (25) سورة التوبة فالأوروبيون يحاولون أن يدخلوا في أذهان الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا في ظروف خاصة جدا وليس من الطبيعي أن ينتصروا .

الأمر الرابع
في هذه الرواية أن المسلمين في هذه ليسوا بحاجة إلا حرق للسفن فالمسلمين جاءوا لهذه الأماكن راغبين الشهادة في سبيل الله طالبين للموت في سبيل الله فلا حاجة للقائد لأن يحرق السفن وبعض الناس يقول إن مثل هذه الأمور تحدث بالفعل كما قام القائد الفارسي بربط جنوده بالسلاسل حتى يجبرهم على القتال كما حدث في معركة ذات السلاسل المشهورة ولكن هذا الأمر يتم مع جيوش الدنيا وليس مع جيوش الآخرة .

الأمر الخامس
في هذه الرواية كيف لقائد محنك مثل طارق بن زياد رحمه الله أن يحرق سفنه ويقطع خط الرجعة عليه ماذا لو هُزم في هذه المعركة وهذا أمر وارد جدا فالله عز وجل يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار َ } (15) سورة الأنفال ثم قال { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (16) سورة الأنفال. إذن بالنظر للاستثناء فقد يُهزم طارق بن زياد وينسحب ويتجه لفئة المسلمين التي هي في الشمال الإفريقي فكيف يحرق سفنه فيقطع على نفسه الانحياد إلى فئة المسلمين والاستعداد إلى قتال جديد ؟ .

فما نرى هذا الحرق إلا تجاوزا شرعيا لا يقدم عليه رجل ذو تقوى وورع وعلم وجهاد طارق بن زياد رحمه لله وما كان المسلمون حكامهم وعلمائهم ليسكتوا على مثل هذه الفعلة إن كانت قد حدثت .

الأمر السادس أن ليست كل السفن ملك المسلمين فبعضها مؤجرة من يوليان وستعود إليه بعد العبور وليس من حق طارق بن زياد حرقها لأنها ليست ملكه .

وما نرى هذه الرواية إلا رواية مختلقة وكذب حتى تهون من فتح الأندلس وتجعله أمرا محتما لأن ليس لهم ظهر أو طريق للعودة .

طارق بن زياد الآن يعلم أن عنده فرصة عظيمة للفتح لأن معنويات جنده مرتفعة جدا ومعنويات النصارى القوط في الحضيض وأيضا قُتل لوزريق أو فر هاربا وكل من في بلده يكره هذا الرجل والجيش القوطي هُزم وتفرق منه الكثير وقتل منه الكثير فأصبحت أمامه فرصة عظيمة لتعليم الناس أمر دينهم ويوليان على عهد معه ولا يعلم أحدا هل سيوفي بعهده أم يخالفه فأراد أن يستغل هذه الفرصة ليفتح الأندلس .

اتجه طارق بن زياد من وادي برباط إلى أشبيلية وهي أعظم مدن الجنوب على الإطلاق ولما اقترب منها تحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في البخاري ومسلم ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) . ففتحت المدينة أبوابها للمسلمين ورضي أهلها بدفع الجزية على الرغم من قوة الحامية في هذه المدينة وحصونها وقلاعها وأسوارها العالية إلا أنها استسلمت للمسلمين فلله الحمد والمنة .

وقبل أن نكمل الفتوح التي أكملها طارق بن زياد نريد أن نقف وقفة على الجزية التي يدفعها الناس في العالم الإسلامي المفتوح في هذا الوقت.

فالجزية هي ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة أو حتى يدفعها المجوس أو يدفعها المشركون في رأي بعض الفقهاء وإن كان هذا هو الرأي الغالب وهم يدفعون الجزية نظير أن يدافع عنهم المسلمون فلا يحمل الذين يدفعون الجزية سلاحا ليحموا أنفسهم ولكن على المسلمين أن يدافعوا عنهم نظير هذه الجزية بل إن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ردت إليهم الجزية وقد تكرر ذلك في بعض المواقف من التاريخ الإسلامي وسنتعرض لهذا الأمر بعد ذلك والجزية تؤخذ فقط من الرجال ولا تؤخذ على النساء وهي تؤخذ أيضا على الرجال البالغين ولا تؤخذ على الأطفال وتؤخذ فقط من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى ولا تؤخذ من الأعمى ولا تؤخذ من الكسيح ولا تؤخذ من الرجل الذي وهب نفسه للعبادة ولا تؤخذ إلا من القادرين على القتال ولا تؤخذ إلا من الغني ولا تؤخذ من الفقير بل إن الفقير قد يأخذ من بيت مال المسلمين سواء كان نصراني و يهودي أو مشرك والجزية في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون وهي أقل بكثير مما يدفعه المسلمون أيضا فكان الذي يدفع الجزية في هذا الزمن يدفع دينارا واحدا في السنة بينما المسلم يدفع 2,5 بالمئة من رأس ماله إن حال عليه الحول وبلغ النصاب وإن أسلم سقطت عنه الجزية وإن حارب مع المسلمين دفعوا له أجرة على حربه مع المسلمين فالجزية كانت أقل بكثير من الضرائب التي كان يفرضها أصحاب الحكم على شعوب البلاد التي يفتحها المسلمين والجزية كانت أقل ضريبة في العالم بل إن الزكاة أيضا أقل ضريبة وهي 2.5 في المئة فقط ولا يجب أن يكلف من يدفعون الجزية بأكثر من طاقتهم وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتناول كيف تم فتح بلاد الأندلس وكيف كان رد فعل موسى بن نصير لهذه الانتصارات المتتالية لطارق بن زياد وكيف دخل المسلمون بلاد فرنسا وكانت لهم فيها صولات وجولات وكيف كانوا على بعد ثلاثين كيلو مترا من باريس التي هي أقصى الشمال وكيف تأسس ما يسمى في التاريخ بعد الولاة وهذا ما سنتحدث عنه في المرة القادة إن شاء الله.

هذا تلخيص لأحد دروس الشيخ راغب السرجاني عن الأندلس

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك