لعله من اللافت للنظر أن الكثير من مراكز الحد من الإنجاب في البلاد الإسلامية تكون تحت الرعاية المادية والعلمية للدول الغربية، وفي مقدمتها أمريكا. وقد يتساءل بعض المسلمين: ما الدافع وراء هذه الشفقة الغربية على التضخم السكاني في بلاد المسلمين؟ ، وهل تتقطع قلوب الأمريكيين والأوربيين على المسلمين الذين يعانون من مشاكل في الصحة والتعليم والغذاء ، وغير ذلك نتيجة زيادة السكان ؟ وهل الأمريكان الذين يدفعون الأموال الطائلة لتقليل أعداد المسلمين ، غير الأمريكان الذين يحتلون العراق وأفغانستان ، ويساعدون اليهود في احتلال فلسطين؟! .
إنها أسئلة تدور في أذهان الناس ، وليس لها إلا إجابة واحدة وهي إن تقليل أعداد المسلمين يصبُّ في المصلحة العامة للغربيين بصفة عامَّة ، والأمريكان بصفة خاصَّة ! .
إنه ما من شك أن العدد قوة ، وأن البلد الأكثر سكانًا يُحسب له حسابٌ أكبر بكثير من البلد قليل السكان ، وقبل أن ينطلق المعترضون ويقولون أن الكيف أهم من الكم ، وأن الأعداد الكبيرة غير المؤهلة هي مجرد غثاء لا وزن له ؛ فقبل أن يقولوا هذا الكلام ، فإني أقول: إنني لا أعني أبدًا أن العدد الكثير مطلوب حتى بدون تأهيل ، ولكن ما أقصده هو التأهيل الجيد والمتميز للأعداد الكبيرة حتى تصبح هذه الأعداد إضافةً للبلد ، وليست إرهاقًا لها .
إن الحكومات المفسدة دأبت على تعليق مشاكلها وأخطائها وفسادها على شماعة التضخم السكاني ، ويخرج لنا وزير الصحة في أحد البلاد الإسلامية ويقول: إن تحديد طفلين لكل أسرة سوف يوفِّر للبلاد في غضون عشرين سنة مبلغ 35 مليار دولار في مجال الصحة والتعليم . وينسى المسئول الحكومي أن أضعاف هذا المبلغ تضيع على البلاد نتيجة الفساد الحكومي ، والاختلاسات والصفقات المشبوهة ، والعمولات الهائلة ، كما تضيع أضعاف هذا المبلغ في شراء ما لا ينبغي شراؤه ، بدءًا من الأمور الترفيهية والحفلات الساهرة ، وانتهاءً بصفقات السلاح الذي لا يعمل ، أو انتهت موضته ! ، ولا ننسى أن كميات هائلة من الأموال تضيع كذلك بسبب سوء الإدارة حتى إذا صلحت النوايا ، وبسبب سوء التخطيط حتى لو توفرت الأمانة ! .
الزيادة السكانية في العالم
إن مشكلتنا ليست في العدد أبدًا.. إن مشكلتنا في الفساد الذي حطم المنظومة التعليمية على سبيل المثال ، فما عادت تقوم بمعشار دورها. وانظروا إلى المدارس التي من المفترض أنها مكدسة بالتضخم السكاني ، فإذا بها خاوية على عروشها ، وقد هجرها مدرسوها وطلابها إلى مراكز الدروس الخصوصية ، وما ذكرناه في حق المنظومة التعليمية ينسحب على كل المؤسسات في بلاد العالم الإسلامي .
إننا نحتاج إلى العدد الكُفُؤ ليستصلح الأراضي البور الهائلة في بلاد المسلمين ، ونحتاج إلى العدد الكفؤ ليستخرج كنوز وخيرات الأرض هنا وهناك ، ونحتاج إلى العدد الكفؤ لتشغيل المصانع والشركات والمشروعات الإنتاجية ، ونحتاج إلى العدد الكفؤ الذي يعمل في البحار الهائلة التي يتمتع بها عالمنا الإسلامي ، ونحتاج إلى العدد الكفؤ الذي يتعلم ويبدع ويبتكر ويخترع ، ونحتاج إلى العدد الكفؤ الذي يدافع عن البلاد ، ويكوِّن جيشًا قويًّا قادرًا على ردِّ أطماع الغزاة .
إن العدد إذا كان مدربًا ومؤهلاً يصبح نعمةً كبيرة، يجب أن نحمد الله عليها ؛ لذلك يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: " تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ " رواه أبو داود والنسائي .
ولا شك أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد الأعداد الكبيرة التي لا وزن لها ولا قيمة ، ولكنه كان يقصد أن يضاعف المسلمون أعدادهم ، وفي نفس الوقت أن يرتفعوا بمستواهم ، ويرتقوا بأدائهم .
لقد عدَّ الله عز وجل الكثرة نعمة عندما قال في كتابه: "وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ" (الأعراف: 86). فلا مجال أن يتفلسف أحد ، وينسى كل المتغيرات ، ويتذكر ثابتًا واحدًا ، هو أن الكثرة تحتاج إلى طعام أكثر ، ومدارس أكبر ، وهكذا.....
أيها المغرضون الذين يريدون إضعاف المسلمين ، راجعوا تعداد السكان في الدول المتقدمة عالميًّا : أمريكا ( 303.9 مليوناً ) ، الصين (1.331 مليار ) ، اليابان ( 127مليونًا ) ، ألمانيا ( 82.7 مليونًا ) ، فرنسا ( 60.9 مليونًا ) ، إنجلترا ( 60 مليونًا ) .
ونتساءل: هل أضعفت الأعداد الكبيرة هذه البلاد أم أن هذه الأعداد تحولت إلى قوة إنتاجية تدفع البلاد إلى الأمام ؟ .
ونتساءل أيضًا: لماذا تشجِّع الحكومات في فرنسا وألمانيا المواطنين على كثرة الإنجاب ؟ ونتساءل كذلك: لماذا يفتح الأمريكان باب الهجرة لأبناء العالم من كل مكان ليذهبوا إلى أمريكا ، بل ويحملوا الجنسية الأمريكية ؟ ولماذا يعطون الجنسية الأمريكية لمن وُلد على أرضهم ؟! .
أيها المسلمون، أنا لا أدعوكم إلى الكثرة المجردة ، ولكن أدعوكم إلى كثرة في العدد مصحوبة بحسن تربية ، ودقة تعليم ، وإتقان توجيه ، ونية صالحة تهدف إلى إعلاء كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها . وأختم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " متفق عليه .
وأسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.
هذه مقالة للدكتور راغب السرجاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك