تبين لنا من خلال المقالات السابقة أن استقلال كوسوفا كان مطلبًا دائمًا من مسلمي كوسوفا على مدار القرن الماضي، وأن هذا المطلب دفعهم إليه الاضطهاد العنيف الذي لاقوه من الصرب على خلفيَّة عداوتهم للإسلام، والتواطؤ المستمر من الأوربيين رغبةً في الثأر من المسلمين - خاصةً العثمانيين - نتيجة انتصار المسلمين في معركة قوصوه (كوسوفا) على جيش الصرب بقيادة ملكهم لازار.
وقد تبين لنا أيضًا أنهم بذلوا من أجل هذا الاستقلال الكثير من الأرواح والأموال والأمان والاستقرار، ولكن هذا الاستقلال قد حدث بدعم أمريكي غربي واضح؛ وذلك من أجل مقاومة رغبة روسيا في العودة لسابق قوتها، وبسط سيطرتها على جزء من أوربا، كما أنَّ أمريكا ترغب من خلال هذا الدعم لاستقلال كوسوفا المشروط بالمظلة الأمريكية الأوربية أن تُضعِف الحليف الأخير لروسيا في أوربا، والذي يرتبط مع روسيا بروابط الدين المسيحي والمذهب الأرثوذكسي، وكذلك برابط العِرق السلافي.
في الوقت ذاته تسعى أمريكا لبسط سيطرتها على أوربا من خلال التدخل في شئونها الداخلية، وجعل الأوراق الخاصة بها في يدها.
أثناء كل هذا نجد أنَّ أوربا الغربية تسير في رِكابِ الولايات المتحدة، وتنفِّذ ما تأمر الأخيرة به؛ لذا اعترفت أوربا بدولة كوسوفا عقب إعلان استقلالها، مع الأخذ في الاعتبار عداوة أوربا المتأصلة للإسلام؛ مما يزيد من تركيزها على قضايا البلاد المسلمة داخل أوربا، وعلى الجبهة الأخرى وجدنا قليلاً من الدول الأوربية يقف في المعسكر الروسي، كاليونان وقبرص اليونانية وبلغاريا.
كوسوفو كما تبدو من السماء
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: أين المسلمون مما يحدث ؟ .
وأين الاعتراف الإسلامي بدولة كوسوفا ؟ .
لقد جاءت ردود الأفعال الرسمية للدول الإسلامية مخيبة للآمال في مجملها فيما عدا الموقف التركي، الذي قام بالاعتراف باستقلال كوسوفا مرحِّبًا بعد وقت قصير من إعلان الاستقلال، كما قام أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي التركي أكمل الدين إحسان أوغلو بدعوة الدول الإسلامية إلى الاعتراف بكوسوفا؛ وذلك خلال إحدى القمم الخاصة بدول المؤتمر، ولعلَّ هذا الاعتراف التركي نابع - إضافةً للأخوة الإسلامية - من أن كوسوفا هو أحد الأقاليم التي قام العثمانيون بفتحها، والانتصار على الصرب فيها، وأنه من الأجزاء القليلة التي ما زال المسلمون يشكلون فيها أغلبية، بعدما قامت أوربا - زمن الضعف العثماني، وبعد سقوط الخلافة - بقمع المسلمين واضطهادهم .
ولكن بخلاف الموقف التركي لم يكن ردُّ الفعل العربي والإسلامي على قدر الأحداث؛ ورغم أن الشارع الإسلامي في كافة بلاد العالم الإسلامي قد تفاعل بقوة مع أحداث البوسنة وكوسوفا في التسعينيات، وتولَّد تعاطف كبير مع مأساة المسلمين فيهما إلا أن رد الفعل عند إعلان الاستقلال لم يكن بالشكل المنتظر؛ فغالب الدول الإسلامية لم تعترف باستقلال كوسوفا بما فيها مصر، التي أعلن أحد مسئولي وزارة خارجيتها أن مصر ترفض استقلال كوسوفا، وتفضِّل أن لو كانت قد حصلت على حُكم ذاتي في إطار صربيا.
ومصر دولة مهمَّة - لا في القرار العربي والإسلامي فحسب، بل بالنسبة للشعب الكوسوفي نفسه - وذلك لأن أكبر الجاليات العربية في كوسوفا هي الجالية المصرية، ويُرْمَز إليها بنجمة ضمن النجوم الست الممثلة للأقليات الموضوعة على العلم الكوسوفي، ولها مقعد وجوبي في مجلس النواب الكوسوفي، بخلاف ما تحصل عليه من خلال الانتخابات.
كما تعود أهمية مصر إلى التعاطف الشعبي الجارف مع الشعب الكوسوفي المسلم إبَّان الاعتداءات الصربية الغاشمة أواخر التسعينيات.
والموقف الإندونيسي أيضًا كان مخيبًا لآمال الكوسوفيين والمسلمين كافة؛ إذ رفضت إندونيسيا - وعلى وجه العَجَلَة - الاعتراف بالاستقلال.
ونستطيع أن نتبين أن أسباب رفض كثير من الدول الإسلامية الاعتراف بكوسوفا يتمثل في سببين، هما:
الأول: الخشية من تنامي نزعات الاستقلال داخل إطار هذه الدول نفسها، خاصة لو كانت أمريكا وحلفاؤها تسعى لتمزيق هذه الدول من خلال دعم الخارجين عليها، والمنشقين عنها؛ ومن ثَمَّ يصبح تأييدها لاستقلال كوسوفا حُجَّة عليها؛ فمصر - مثلاً - تخشى من ظهور دعوات لانفصال النوبة، أو دعوة لإقامة دولة مسيحية مستقلة في صعيد مصر، وتخشى كذلك من تقسيم العراق، أو انفصال جنوب السودان عن شماله؛ لإقامة دولة مسيحية.
كما تخشى إندونيسيا من انفصال إقليم آتشيه بعدما دعَّم الغرب انفصال تيمور الشرقية، وإقامة دولة مسيحية فيه بعد إقامة مذابح للمسلمين في تيمور.
السبب الثاني لرفض تلك الدول الاعتراف باستقلال كوسوفا ، هو عدم رغبة هذه الدول في إغضاب روسيا وصربيا وشرق أوربا؛ حفاظًا على مصالح هذه الدول العربية.
ولكن قد يقول قائل: إن المصالح العربية مع أمريكا أكبر، والخشية من النفوذ الأمريكي لدى الدول العربية لا تُقارَن بأية دولة أخرى؛ لذا فإن وقوف تلك الدول العربية في وجه رغبتها باستقلال كوسوفا قد يجلب عليها الغضب الأمريكي.
وهذا القول صحيح، ولكن الواضح أن أمريكا لا تعتبر استقلال كوسوفا قضية كرامة شخصية، على عكس روسيا وصربيا؛ لذا فإنها قد تتجاوز مع من يعارضها فيها، بعكس روسيا التي لن تتسامح مع من يؤيدون الاستقلال.
كما أن موازنات المصالح قد تدفع بعض الأنظمة الضعيفة إلى محاولة الوقوف في منطقة وسطى بين أمريكا وروسيا؛ فتوافق هذه مرةً، مقابل أنها تسير مع تلك مرات ومرات؛ مما يظهر مواقفها بلون باهت غير مفهوم أو مُبَرَّر أحيانًا.
اللافت للنظر في الموقف أن هناك دولاً أوربية أعلنت رفضها لاستقلال كوسوفا في حين تبدو لا ناقة لها ولا جمل في المسألة؛ فإذا كانت صربيا وروسيا معنيتين بالمقام الأول، فما مبرر بلغاريا واليونان وقبرص اليونانية لرفض الاستقلال، وعدم اللحاق بقطار التأييد الأمريكي الأوربي؟
الواضح من أحداث التاريخ أن هذه الدول ما زالت تعتبر كوسوفا امتدادًا للخلافة الإسلامية العثمانية التي قهرت أوربا زمنًا طويلاً، وفتحت بلغاريا والمجر واليونان حتى وصلت إلى فيينا عاصمة النمسا حاليًا.
لقد عاشت تلك الدول تقتات من مرارة حقدها وكراهيتها للإسلام وممثلته: الخلافة العثمانية، وعلى حين استقر الإسلام في البوسنة ومقدونيا وكوسوفا؛ فإن بقية الدول قامت بجهد كبير لاستئصال الإسلام، واضطهاد المسلمين؛ حتى أخرجتهم من أوربا، وظلَّ الإسلام محصورًا في تلك الدول الثلاث، إضافةً إلى ألبانيا.
إن رُوح العداء للإسلام وللخلافة العثمانية هي التي دفعت تلك الدول إلى رفض استقلال كوسوفا، وستدفعها لتأييد روسيا وصربيا في كل خطواتهما لتقويض ذلك الاستقلال.
وهكذا تختلف الأسباب، ولكن تتحد الأفعال في النهاية، ولكننا في نهاية القصة نقول:
إن خوف الدول العربية من شبح التقسيم والانفصال إن هي أيدت استقلال كوسوفا لا بد أن يزول؛ لأنه ليس مبرِّرًا لعدم الاعتراف؛ وذلك لسببين:
الأول: أن الحال مختلفة؛ فكوسوفا في الأصل بلد مسلم كان تابعًا للخلافة العثمانية، وبعد سقوطها صار مستقلاًّ، إلا أنه تم اغتصاب حريته، وضمه قسرًا ليوغسلافيا الشيوعية؛ لِيُحكَم بالحديد والنار من أجل اقتلاع الإسلام منه، وعانى المسلمون فيه من الاضطهاد، والتعذيب، والتغييب عن دينهم، ومن استلاب حرياتهم في العبادة، وفي كل شأن من شئون الحياة؛ لذا هناك فارق مهم للغاية بينها وبين الدول العربية والمسلمة التي تعيش وحدة واحدة منذ تحررها من الاحتلال، وأية محاولة للانفصال لا تعني إلا تمزيق البلد، وينبغي مقاومتها.
الثاني: أن ظهور الرغبة في الانفصال عن الدولة ينشأ في غالب الأحوال نتيجة الظلم، وعدم حصول المواطنين على حرياتهم، ورغبتهم في العيش بكرامة واحترام؛ لذا ينبغي على تلك الدول - بدلاً من أن ترفض استقلال كوسوفا - أن تحسِّن من حياة مواطنيها، ومن سجلها في مجال حقوق الإنسان، وأن تحرص على إعطاء الشعب حقوقه كاملة غير منقوصة؛ حتى يشعر أنه في بلده، وليس في بلد حكامه؛ ومن ثَمَّ يحاول إنشاء بلدٍ آخر له يسترد فيه كرامته، ويحصل فيه على حقوقه. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ كوسوفا وسائر بلاد المسلمين.
هذه مقالة للدكتور راغب السرجاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك