الخميس، 30 أكتوبر 2008

ما بعد نصر حطين

من الجدير بالذكر أن أفكار التسامح والعفو عند المقدرة هى أفكار بنيت عليها شريعة الإسلام وقد ظهر ذلك واضحا عندما عفى صلاح الدين الأيوبى عن الجنود الصليبيين وكان هذا التسامح بمثابة الرسالة المبعوثة إلى القارة الأوروبية بأسرها عن قيمة هذا الدين العظيم الذى عفى عن الجنود الصليبيين بعد قتلهم آلاف الأبرياء وإغتصاب العديد من الأراضى الإسلامية وكان ذلك العفو دليلا على سماحة الإسلام مع أبناء الديانات الأخرى وبالتالى القضية ليست دينية وإنما القضية تكمن فى إغتصاب أرض إسلامية .

والغريب رغم أن العفو الذى منحه صلاح الدين لآلاف الجند الصليبيين الأسرى هو عمل فى غاية الإنسانية إلا أن أمراءهم قابلوا الإحسان بالإساءة فأمروا نفس هؤلاء الجنود بالتجمع فى ثلاث مناطق هم صور وصيدا وأنطاكيا وتلك المناطق التى لم يستطع صلاح الدين فتحها أبدا .

دخل صلاح الدين المسجد الأقصى ليلة 27 رجب سنة 583 وأدرك عدم إمكانية الصلاة فى المسجد بسبب الحالة التى كان عليها حيث كان الصليبيون قد حولوه إلى حظيرة خنازير ولذا لم تعقد بالمسجد الأقصى صلاة أول جمعة بعد فتح بيت المقدس وأنما جاءت خطبة الجمعة الأولى بعد ذلك بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين يوم 4 شعبان سنة 583 وقد ألقى الخطبة فى ذلك اليوم محيى الدين بن الزكى وهو أحد الأئمة الكبار وأقدم صلاح الدين على إظهار ما كان يتمتع به من وفاء عندما أمر بإحضار المنبر من دمشق الذى كان نور الين محمود قد أمر بصنعه وذلك حتى يصعد عليه الخطيب عند إلقائه لأول خطبة جمعة بالمسجد الأقصى بعد تحريره ويا ليت الوفاء والعرفان بالجميل ينتشران بيننا كما كانا يثريان العلاقة بين المسلمين فى عهد صلاح الدين .

وفى موقف آخر جدير بالذكر أمر صلاح الدين بعد انقضاء صلاة الجمعة بأن يقوم زين الدين بن نجا المصرى بإعطاء درس دين للحاضرين فرغم مشاعر السرور والبهجة التى كانت تعم الجميع إلا أن صلاح الدين أراد أن يذكر المسلمين بضرورة الاستزادة من تعاليم دينهم وتطبيقها لصالح الأمة .

تلبيس الحق بالباطل .

وفى تلك اللحظة كانت كل ديار الإسلام فيما عدا صور وصيدا وأنطاكيا قد خضعت لصلاح الدين الأيوبى وعلى الجانب الآخر كانت الحسرة قد أصابت الغرب الأوروبى حتى مات البابا الكاثوليكى من شدة الحزن على إستعادة المسلمين لبيت المقدس وما كان من البابا الذى خلفه إلا أن يحاول إشعال الحماس فى الأفراد من خلال وعده لهم بدخول الجنة إذا ما صاموا يوم الجمعة وامتنعوا عن أكل اللحوم يومى السبت والأربعاء وبالإضافة إلى ذلك فرضت ضرائب جديدة سميت ب" عشور صلاح الدين " وكانت عبارة عن عشر الدخل الأوروبى المخصص للقضاء على صلاح الدين وبدأ الإعلام الأوروبى يستفز مشاعر الشعوب ضد صلاح الدين والمسلمين إذ شرعوا فى رسم لوحات كبيرة تصور السيد المسيح على أنه رجل ضعيف يضربه رجل غليظ بمطرقة وما أشبه الأمس باليوم حيث يصور العالم الغربى حاليا المسلمين بالإرهابيين .

وفى الحقيقة الإسلام ليس بحاجة لأن يدافع عنه أحد لأنه أكثر الرسالات السماوية سماحة على الإطلاق ويقول الحق تبارك و تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " ] آل عمران 3 : 19 [ .

والمطلوب من كل مسلم أن يفتخر بانتمائه للإسلام ورغم الهجمة الشرسة التى قام بها الأوروبيون بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر إلا أن عدد المعتنقين للإسلام من الملل الأخرى قد تزايد بعد ذلك التاريخ نتيجة إقبال الأوروبيون على دراسة تعاليم الإسلام واكتشاف مدى سموه .

وعودة إلى عصر صلاح الدين الأيوبى نجد أن التحفيز الإعلامى أدى إلى تحريك الحملة الصليبية الثالثة التى إتسمت بالقسوة والضراوة وقد وصلت الأخبار أن الأمير الألمانى فريديريك باربا روسا قادم إلى الشرق على رأس ثلثمائة ألف جندى وبالفعل عبرت تلك القوات قارة أوروبا واستعدت للوصول إلى الشام من الشمال كما أفادت الإستطلاعات أن الأسطول الإنجليزى بقيادة ريتشارد قلب الأسد وصل إلى صقلية فى طريقه إلى قبرص ثم إلى عكا هذا بالإضافة إلى تحرك ملك فرنسا فيليب أغسطس بأسطوله في اتجاه الشرق .

وإقتربت الأساطيل الأوروبية من عكا وشرع صلاح الدين فى إعادة تجميع القوات الإسلامية ولم يتوقف عدد الجند الغربيون القادمون إلى الشرق عند المائة وعشرون ألفا الذين حضروا فى الحملة السابقة وإنما كانت أوروبا بأسرها قد لفظت بفلذات أكبادها كما أن قادة الجيوش لم يكونوا مجرد أمراء عاديون مثل من سبقوهم فى الحملات السالفة وإنما كانوا ملوك وحكام إنجلترا وفرنسا وألمانيا وعند وصول الأسطولين الإنجليزى والفرنسى بأعداد غفيرة إلى عكا دار الحوار التالى بين صلاح الدين وابن شداد :

( ابن شداد ) : فيم شرودك يا صلاح الدين ؟ .

( صلاح الدين ) : إنى أفكر بعد أن نقضى على هذه الجموع القادمة أن أعبر البحر وأرفع راية الإسلام فى بلاد الفرنج حتى يقضى الله أمرا كان مفعول .

وإن دل كلام صلاح الدين على أمر ما إنما يدل على أنه كان ينظر للأمور بنظرة مستقبلية تملؤها الثقة بالتمكن من القضاء على الحملة الآتية إلى الشرق بقوات غير مسبقة ثم الخروج فى أرض الله عبر البحار لنشر الإسلام فإنه لم يعد يشغل باله بمجرد التفكير فى معركة من المعارك وإنما كان همه فى العمل على إعلاء راية الإسلام فى كافة أنحاء المعمورة .

وبدأ حصار الصليبيين لميناء عكا فى عام 585 هجرية بعد أقل من سنتين من فتح بيت المقدس وكانت هذه الحملة قد تم إعدادها إعدادا قويا حتى أن حصار عكا إستمر لمدة أربع وعشرين شهرا وهكذا ظلت عكا صامدة أمام الأسطولين الإنجليزى والفرنسى لمدة عامين كاملين دون أن تستسلم للقوات الصليبية وطيلة هذه المدة كانت قوات صلاح الدين متواجدة خارج أسوار عكا فيما كانت هذه القوات تقوم بهجمات برية متتالية .

وبعد ستة أشهر من حصار عكا وبالتحديد فى مطلع شهر شعبان قام بهاء الدين قراقوش وهو المسئول عن التموين بميناء عكا بإبلاغ صلاح الدين أن المؤن المتاحة سوف تنفذ بمضى أسبوعين وبناءا على ذلك كلف صلاح الدين مجموعة من سفن الأسطول المصرى بإختراق الأسطولين الإنجليزى و الفرنسى وبالفعل وأثناء تأدية الأسطول المصرى للمهمة البحرية التى تم تكليفه بها تدخلت القدرة الإلهية فيأمر الله تبارك وتعالى الرياح بتغيير إتجاهها بما يساعد الأسطول المصرى على بلوغ ميناء عكا بالمؤن اللازمة ولم يستطع الصليبيون إصابة الأسطول المصرى إلا بعد أن وصلت المؤن إلى داخل عكا وكان هذا الحدث أحد الأمثلة العديدة التى تنطبق عليها الآية الكريمة : " وما يعلم جنود ربك إلا هو " ] المدثر 74 : 31 [ .

ولقد أكرم الله عز و جل جنده لأنهم توكلوا عليه حق توكله فهم أولا قد تحروا تقواه سبحانه وتعالى ثم توجهوا إليه سائلين العون والتوفيق وأخيرا إنطلقوا ليؤدوا ما كتب عليهم من جهاد فى سبيله ومن ضمن هؤلاء الجند المخلصين كان عيسى العوام الذى أجاد السباحة حتى أنه كلف بهمة توصيل أربعة آلاف دينارا ذهبية إلى عكا وسبح عيسى العوام بين السفن الصليبية غير عابئ بما قد يحدث له فى سبيل إنجاز المهمة التى كلف بها وأصيب عيسى بأحد السهام وتوفى فى الحال فغرق ولكن يشاء السميع العليم أن يصل جثمانه طافيا على شاطئ عكا ليحصل أهلها على ما كانوا ينتظرونه من دنانير وبهذا يكون الله جل علاه قد أكرم هذا المؤمن بالشهادة إن شاء الله بما فى ذلك من جزاء ونعيم لا يعلم مداه إلا الله العلى القدير وفى نفس الوقت عززه بين الناس بأن جعله يؤدى أمانته حتى بعد وفاته .

وتلك الأمثلة للإخلاص والإيمان بالله الواحد القهار جاءت من أناس كان مسلكهم مختلفا عما نحن عليه الآن فلم يكن هؤلاء المؤمنون يخشون إلا بارئهم تبارك وتعالى ومن أمثلة ذلك ما فعله شاب دمشقى لم يهب أو يستسلم لمناعة وضخامة الأبراج التى أحضرها معهم الصليبيون والتى كانت تقل على سطحها خمسمائة جندى وكان هذا الشاب قد لاحظ أن المادة المصنوعة منها الأبراج مادة لا تؤثر فيها النيران ولذلك فقد عنى بدراستها بهدف التوصل إلى تركيب كيميائى يستطيع أن يقضى عليها وقد ظل هذا الكيميائى عاكفا فى معمله طيلة ثمانية أشهر بذل فيها ما استطاع من جهد ومال وفكر حتى وفقه الله تعالى إلى إكتشاف مادة تبيد الأسوار الصليبية ولما كان من الضرورى أن يصل هذا الدمشقى إلى داخل عكا ليسلم المادة المكتشفة حتى يتم تصنيع منها كميات كبيرة تستخدم فى القضاء على الأبراج أمر صلاح الدين ابنه الأفضل بقيادة بعض الجند لتأمين وصول الدمشقى خلف أسوار عكا وبالفعل وصل الشاب إلى عكا وسلّم التركيب الكيميائى المؤثر الذى كان سببا فى تدمير الأبراج الصليبية وجاءت المفاجأة عندما أراد صلاح الدين مكافأة هذا الدمشقى الأمين دار بينهما ما يلى من حوار قصير :

( صلاح الدين ) : لقد أديت أيها الرجل واجبك بأمانة وتكبدت فى سبيل ذلك ما تكبدت وقد وجب علينا حسن جزاؤك فما تطلبه يكون لك بإذن الله .

( الشاب الدمشقى ) : والله ما فعلت ذلك من أجلك وإنما فعلته لله رب العالمين وإنى أنتظر جزائى يوم القيامة من الله العفو الكريم .

وبذلك أصبح الشاب الدمشقى مثالا عمليا للإخلاص لله عز وجل فقد رفض كل ما كان من الممكن أن ينعم به جزاء ما صنعه من عمل أفاد به الأمة و قضى به على سلاح عدوها وما كان ذلك ليبدر إلا من عبد عرف الله ووثق فى خير جزاءه فاستعوض به عن إحسان من سواه .

والجدير بالملاحظة أيضا أن تلك النوعية من الأفراد قد إقتدت بخير قدوة حيث ضرب صلاح الدين مثالا للقائد الذى لا يتوارى أن يقدم ابنه فداء لإعلاء كلمة الله عز وجل وقد تجلى ذلك عندما جعل صلاح الدين ابنه الأفضل على رأس الجند المرافقين للدمشقى حتى إخترقوا أسوار عكا ونفذوا إلى داخلها بما فى ذلك من خطر يحيق بإبن السلطان ولكن صلاح الدين لم يشغل باله بكونه سلطان المسلمين ولا أبا لولده وإنما أقدم على ما فعله إبتغاءا لمرضاة الله جل علاه .

وما كان سلوك صلاح الدين إلا إتباعا لأحكام الشريعة الغراء التى نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وإقتداءا بصحابته عليه أفضل الصلاة والسلام ولقد جاء رجلا إلى النبى الكريم صبيحة غزوة خيبر وأشهر إسلامه فأشركه الرسول صلى الله عليه وسلم فى قتال اليهود وبعد إنتهاء المعركة وعند لحظة توزيع الغنائم قال الصحابى مخاطبا خاتم المرسلين : " ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة " وقال النبى صلوات الله وسلامه عليه : " إن تصدق الله يصدقك " ولم يمض على ذلك الحدث إلا قليلا حتى إستشهد الصحابى فى معركة تالية وعندما أحضره الصحابة أمام النبى وجدوا سهما مخترقا رقبته فى نفس الموضع الذى كان قد أشار إليه فسأل الرسول : " أهو هو ؟ " قالوا : " نعم " فقال النبى : " صدق الله فصدقه " . رواه النسائي .

والغرض من إستعراض تلك الأمثلة العملية للإخلاص لرب العالمين هو تحفيز كل منا على محاكاة تلك النوعية من المؤمنين المخلصين الذين نفتقدهم حاليأ مما أدى إلى إنحدار أحوالنا إلى أدنى المستويات .

ومن أهم السلوكيات التى كانت ذات أثر بليغ على نفوس المسلمين وإستتبعتها رحمة الله لهم أثناء حصار ميناء عكا كان سلوك التوجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء والابتهال وبالنظر إلى الحال التى آلت إليها أمور أمتنا من تدهور فما أقل من أن يتوجه كل فرد منا بالدعاء إلى المولى عز وجل سائلا العون والإرشاد والتثبيت للنفس وللأمة بأسرها لعل الله جل علاه يستجيب لدعاء أحد الصالحين فيفرج عنا ما نحن فيه من كرب .

هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك