الأقدام حين تطأ (سايكس - بيكو) و (أنابوليس):
عندما سقطت الخلافة الإسلامية قامت بريطانيا وفرنسا بتقسيم أقاليمها بينهما في اتفاقية عُرفت باسم (سايكس - بيكو). وفي ثورات صنعها الاحتلال نالت هذه الأقاليم استقلالها، ولكنها بقيت مقسَّمة، وحصل للغرب مراده بذلك؛ فلم يعد هناك خطر يدهمه من الشرق؛ فهو مجرد دول صغيرة وضعيفة متناحرة فيما بينها، ونجحت القاعدة الشهيرة (فرِّق تَسُدْ)، وها هو بوش يسعى مجدداً لبعث هذه القاعدة في مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وبعد أن كان الجار يحل ضيفاً بمجرد دخوله أيَّ مدينة إسلامية؛ أصبح ينتظر أياماً ليحصل على تأشيرة دخول، ثم بعد ذلك عليه أن ينتظر في صف طويل على الحدود ويكون محظوظاً إذا لم يُسْتضف في الغرف الخلفية وسُمح له بالدخول. هذه حال الذاهب بنفسه؛ فكيف الأمر بالنسبة للتاجر وبضائعه أو المريض ومرافقه وغيرهم؟
كل هذا وغيره سقط بمجرد سقوط الجدار الحديدي بين غزة ومصر، فالتأشيرة والجواز والجمارك والأمن كلها مختصرة في ثانية واحدة هي زمن خطوة اجتياز الجدار؛ فبقدم تكون في غزة وبأخرى تكون في مصر، إنها معادلة أشبه بالخيال ولكنها كانت حقيقة عندما وطئت أقدامنا حدود (سايكس - بيكو).
لقد قام الأمريكان واليهود ومن يسارعون فيهم منذ فوز حماس بالانتخابات ووصولها إلى الحكم؛ بوضع العراقيل أمامها؛ بدءاً بمقاطعتها بمجرد إعلان فوزها، ثم بافتعال الفـلتان الأمنـي وإذكاء ناره، ثم بمقاطعة أزلامهم حكومة الوحدة الوطنية، ثم جاءت خطة ( دايتون ) التي كانت تقضي بإنهاء حماس عسكرياً.
وكانت حماس - بتوفيق من الله - تجتاز هذه العقبات واحدة تلو الأخرى، مضيفة إلى رصيدها المزيد من النقاط وفرض وجودها على المشهد السياسي. وآخر هذه العراقيل مؤتمر (أنابوليس) المتقرر فيه إحكام الحصار على قـطاع غزة بقـطع الوقود والكـهرباء وإغلاق المعابر، ولكـن - بحمد الله - جرى إحداث فجوة في هذا الحصار عندما سقط الجدار فكانت فرصة لزيارة هذه البقعة الصغيرة التي ملأ صيـتُها الدنيـا وشغـلت النـاس، وتسجـيل بعـض المشاهدات عنها.
أمن وأمان:
لما وقفنا أمام الجدار المنهار شاهدنا مجموعة من عناصر القوة التنفيذية التابعة لحماس منتشرة على طوله تنظِّم سير الأفواج المندفعة باتجاه مصر بالتنسيق مع الأمن المصري، وتقوم بتمهيد طريق ترابي بجرَّاف كبير لمرور السيارات من خلاله إلى مصر. بعد ذلك اجتزنا رفح الفلسطينية إلى خان يونس ثم غزة ثم المخيمات في الشمال، ولقد كان واضحاً انتشار الأمن واستقراره، فلم نجد أي شكل من أشكال الفلتان الأمني، ولم نشاهد مسلَّحين منتشرين في الشوارع ولا كمائن وهمية، ووجدنا عناصر المرور ينظمون سير السيارات، والقوةُ التنفيذية موجودة أيضاً في الميدان.
رافـقنا في السيارة من العريش إلى رفح شبان فلسطينيون علمنا منهم أن سبب دخولهم إلى مصر من أجل البحث عن المخدرات والسلاح؛ فبعد الحسم من قِبَل حماس أصبح القطاع فارغاً من ذلك. وشاهدنا بعض المقارِّ الأمنية - التي كان مجرد المرور بجوارها سابقاً يعني الهلاك - أصبحت الآن مركزاً تنطلق منه القوة التنفيذية لتأمين أهالي القطاع. ثم زرنا بعض المؤسسات الحكومية والأماكن العامة فوجدنا كل شيء يشير إلى أنك في دولة حديثة ومنظمة؛ من توافد الناس على المؤسسات وقضاء مصالحهم بشكل سريع وميـسر، ووجـود الاحـترام المـتبادل بين الموظف والمراجِع، لقد كـان الأمر خـيراً من مراجعة الجهات الحكومية في دولنا العربية.
البضائع نفاد وغلاء:
لما دخلنا العريش خُيِّل إلينا أننا نمر بمدينة مرَّ بها جيش عرمرم أو سرب من الجراد؛ فالمدينة خالية تماماً من أي بضاعة، والمحال مغلقة فلا يوجد فيها ما تعرضه، ومحطات البنزين مغلقة لنفاد الوقود. هكذا بدا الأمر في العريش التي تبعد 50 كم عن قطاع غزة؛ فكيف سيكون الوضع في غزة؟! .
مررنا بمشفى ( كمال عدوان ) في القطاع فوجدناه خالياً من المرضى، فسألنا الناس عن سبب ذلك فقيل لنا: هو مشفى بلا دواء؛ فلماذا يأتيه المرضى؟! ومن الملفت للنظر مشاهدة عدد كبير من العربات تجرها الحمير وكأنك عدت آلاف السنين إلى الوراء؛ حيث إن انقطاع الوقود عطَّل حركة السيارات فاستعيض عنها بالحمير.
وفـي مقـابـل نـفاد البـضـائـع والمـؤن يـأتـي الغـلاء، وللأسـف فـإن بعـض الأشخاص استـغلَّ حـاجـة الـناس وقام برفع الأسعار بشكل جـنوني، حـتى إنـنا سمعنا أن بعض الغزاويـين عـاد إلى القـطاع ولم يشترِ شيئاً لكون الأسعار فوق طاقـته، وكان مما وقفنا عليه بلوغ سعر جالون - 20 لتراً - السولار (الديزل) 65 دولاراً، وارتفاع سعر كيس الإسمنت ليصل إلى200 دولار، وبلـغ سعر نـقل الفلسطيني من العريش إلى القاهرة خمسة آلاف جنيه؛ لكونه ممنوعاً من السفر إلى هناك بينما كانت أجرة السفر في السابق لا تتجاوز 50 جنيهاً.
حماس والعناية بالعلم:
لعله مما تُغبَط عليه حركة حماس أن كثيراً من قيادات الحركة هم من خريجي الجامعات الإسلامية، وفيهم أساتذة جامعات، وبعضهم حاصل على أكثر من شهادة علمية، وهذا كان له أثر في اهتمام الحركة بالعلم وتعليمه.
في مخيم جباليا تكثر دُور الشهداء، ويُعَدُّ المخيم من أكبر قواعد الحركة، وقد زرنا في هذا المخيم ( المكتبة العامرة ) في منزل الدكتور نزار ريان -عضو المكتب السياسي في حركة حماس - ووجدنا فيها الكثير من العناوين وهي مجهزة بشكل ممتاز. وعند مجيئنا كان الدكتور منشغلاً بإخراج كتاب بعنوان : ( إتمام المنعم/ شرح صحيح مسلم ) أنهى منه ستة مجلدات.
ويجري داخل الحركة تدريس الطلاب الفقه في كراسات تشمل جميع أبواب الفقه، ويُلزَم الطلاب بدراستها، وتخصَّص أيام لشرحها ومدارستها. وبالنسبة لعناصر القسام فإنه يُقدَّم لهم دروس موسعة في أحكام الجهاد، وكذا المساجد فإنها مليئة بإعلانات الكلمات والدروس اليومية.
حماس .. تربية وجهاد:
أوْلَت الحركة عنصر التربية جزءاً كبيراً من اهتمامها، مما جعل له أثراً واضحاً في ثبات عناصرها والتزامهم أمام المكائد والضربات التي نالت الحركة، والتزام أفراد الحركة بالواجبات والسنن الشرعية بشكل كبير دفع بعض الباحثين إلى عدِّ حماس أكثر التزاماً من باقي فروع الإخوان في العالم، فالشاب في حركة حماس إذا تخلَّف عن جلسة (درس) مع أسرته أكثر من مرة تجري محاسبته، والمتخلف عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة يستحيل التحاقه بكتائب القسام، والقسامي إذا فعل ذلك ثلاث مرات يجمَّد بسحب سلاحه منه، لذا فإن كثيراً ممن قضوا في مواجهات مع اليهود هم من رواد المساجد، وإن مسجد الدكتور نزار (الخلفاء الراشدون) أحدُها فقد تخرَّج منه 73 شهيداً.
كثير من عناصر الحركة هم من حفظة كتاب الله؛ فقد اعتنت الحركة بتدريس القرآن وتحفيظه لطلابها وخرَّجت في الصيف الماضي ما يقارب 70 حافظة من قطاع غزة، ومن يرغب في الالتحاق بكتائب القسام فإن فرصة التحاقه بها تتعلق بقدر ما يحفظ من القرآن.
وفي فترة بقائنا كنا نسمع دائماً من يذكِّرنا بالأذكار الشرعية وصيام النافلة. والشاب القسامي مظهره يدلُّك عليه؛ حيث إطلاق اللحية وتقصير البنطال ووضع السواك والمصحف في الجيب سمة مميزة لهم.
أما الجــهـاد فحـدِّث ولا تـتـوقف؛ فــإن كل من التقيناهم - من مقدِّم الشاي في مراكز الحركة إلى أعضاء المكتب السياسي - يلهج لسانهم بذكره، ولا يوجد شيء يجتمعون على الاهتمام به كاهتمامهم بالجهاد، وكلما دخلنا شارعاً أو دلفنا إلى ممرٍّ نرى شاهداً على الجهاد؛ فالشيخ أحمد ياسين استُشهد هنا، والدكتور الرنتيسي هناك، وشحاتة عند هذه الدار، وفلان وفلان، والبنايات عليها ملصقات وشعارات تحث على الجهاد وتعدُّه خياراً رئيساً لحلِّ القضية، وبعض الدُّور مكتوب عليها (هذه دار الشهيد فلان.. هنا يقام عرس الشهيد فلان.. هنا تستقبل التهنئة في استشهاد فلان..)، والطفل الصغير إذا عرَّف بنفسه أعقب اسمه بقوله: أخي الشهيد فلان. ولم يعد الجهاد خياراً فقط، وإنما أصبح مفخرة يتسابقون إليها، ومن الشعارات التي لا يتوقفون عن ترديدها:
حمساوي ما يهاب الموت حمساوي
حمساوي كرمال الدين حمساوي
إن عناية الحركة بعنصر التربية ضبط استخدام عناصر القسام للسلاح، فلم نشاهد تلك الانحرافات الموجودة خارج فلسطين أو داخلها لدى بعض الحركات الجهادية التي تعطي السلاح كـل مـن رغـب بالالتـحاق بها؛ دون نظر إلى سلوكه أو التزامه مما ولَّد خروجاً عن خط الجهاد.
حماس.. مصنع يصنع نفسه:
تعاني الحركات الإسلامية من نقص في قيادات وعناصر خبيرة بالتخصصات الدنيوية المتعلقة بالدعوة إلى الله؛ كالإعلام والأمن والهندسة وغيرها من التخصصات، يضاف إلى هذا عدم توفر عناصر تتولى إنجاز شتى المشاريع، مما يؤدي إلى الاعتماد على أشخاص لا يتحمسون للفكرة الإسلامية، وهذا يؤدي بشكل طردي إلى قلة الإنجاز والخلل في الإنتاج؛ فالفرد كلما كان أقل إيماناً بفكرةٍ مّا فإنه لن يقدِّم لها أو يضحي من أجلها، والحال تتغير لو كان مؤمناً بتلك الفكرة.
لكن يبدو أن الإخوة في حماس تجاوزوا تلك المشكلة، فلم نذهب إلى مؤسسة أو مركز يتبع الحركة إلا وجدنا أمامنا حمساويين حتى النخاع؛ من الحارس إلى مدير المؤسسة.. وإليك مثالاً بسيطاً على ذلك: فأحد الإخوة العاملين في مؤسسة إعلامية هو قسامي يرابط في الليل حاملاً سلاحه، وبالنهار يباشر عمله في هذه المؤسسة، ومن الطريف أن الشاب الذي يهتم بنظافة هذه المؤسسة هو حمساوي أيضاً.
نساء غزة.. رجال خارجها:
عندما حاصرت قوات الاحتلال مجموعة من شباب الفصائل في أحد مساجد بيت حانون – شـمال القطاع – أخــرجــت أم عبد الله [ إحدى الداعيات في القطاع، ومكانتها بين النساء تعادل مكانة (هنية) بين الرجال] مجموعة من النسوة وقادتهنَّ لفكِّ الحصار عن هؤلاء الشباب، وتمَّ لهن ذلك بعد أن سقط منهن قتيلات وجريحات. بهذه القصة بدأ محدِّثنا عندما سألناه عن نساء غزة، وثنَّى بأم محمد فرحات؛ خنساء فلسطين، وتحدث عن القسم النسائي داخل كتائب القسام، وذكر فتيات أقدمْنَ على عمليات استشهادية، وأخذ يعدِّد ويعدِّد إلى أن طأطأنا الرؤوس خجلاً مما سمعنا ورأينا كم نحن صغار أمام هؤلاء النسوة !!.
الفصل بين الرجال والنساء في المؤسسات والأماكن العامة وانتشار النقاب مظاهر لا تنفك عن مشاهدتها داخل القطاع، حتى إننا لم نشاهد أي امرأة غير محجبة، وذُكر لنا أنه يندر مشاهدة امرأة غير محجبة في القطاع.
ولحظة دخولنا القطاع شاهدنا العديد من الفتيات في مجموعات يسرْنَ بالشوارع وبأيديهن كراسات، سألنا عن ذلك، فقيل لنا: إنهن منصرفات من إحدى مدارس تحفيظ القرآن النسائية، عندها أدركنا لماذا نساء غزة رجال خارجها !!.
حماس.. ومذهب الرافضة:
( الوشيعة في كشف شنائع وضلالات الشيعة ) هذا عنوان كتاب من تأليف الشيخ ( صالح الرقب ) وزير الأوقاف في حكومة ( إسماعيل هنية ) نقل فيه جملة من عقائد القوم وتكفيرهم لأهل السنة، وتكفير علماء الإسلام لهم وحقيقة علاقتهم بأمريكا ودورهم في احتلال العراق وأفغانستان.
في إحدى جلساتنا مع شباب حمساويين ذُكر هذا الموضوع، فسمعنا من تحقير الرافضة وازدرائهم الشيء الكثـير، ولم يبـق أحـد في ذلك المجـلس إلا نال منهم، وعاب بعض الحاضرين على إحدى الفصائل في القطاع سيرهم في ركاب الرافضة، وذكر آخر دور الشيخ أحمد ياسين أثناء ثورة الخميني عندما لخص كتاب محب الدين الخطيب ( الخطوط العريضة ) وألزم طلابه قراءته، وذكر آخر أن الحركة قامت بفصل أحد عناصرها عندما ألَّف كتاباً أسماه ( الخميني والحل الإسلامي )، وذكر آخر دورهم في قتل فلسطينيي العراق.
شيء عن أيتام ( دايتون ):
إن أولئك الأيتام المرتزقة بعد فشل خطة والدهم الأمريكي ( دايتون ) تركوا كل شيء وراءهم بعد الحسم الذي قامت به حماس، ويظهر من منازلهم أنهم كانوا يقبضون ثمن عمالة مثالي؛ فدارُ الرجل الذي كان سبباً في مقتل ( شحاتة ) تُعدّ من أعلى وأكبر البنايات في القطاع، ويبدو منزل دحلان كأنه منزل لأصحاب رؤوس الأموال بمصر، أما كبيرهم ( المنغولي ) كما يحلو لأطفال غزة مناداته بذلك عُثِرَ داخل داره على (البانجو) [ نوع من أنواع المخدرات ] فصدق وصف الغزاويين لداره بـ (الغرزة) [ مصطلح عامي يطلق على أوكار تعاطي المخدرات والمسكرات ] ، أما بائع إسمنت جدار الفصل في الضفة لليهود فإنه يملك منتجعاً على شاطئ غزة كان مرتعاً للغواني والسكارى، وقد انتهى ذلك بمجرد الحسم ولله الحمد.
وقد شاهدنا الدمار الذي ألحقه أولئك القتلة بالجامعة الإسلامية التي أضحى بعض قاعاتها كأنها فرن من آثار الحريق، أما المساجد فلم تسلم منهم فقد أسقطوا قذيفة على أحدها لتقتل من فيه، وتجد دار هذا وذاك قد ملئت بفتحات الرصاص.
ومررنا بموقف كان له دلالة على حجم هؤلاء الأيتام بعد الحسم، حيث توقفنا إلى جانب أحد منازل المرتزقة، وراح أحد مرافقينا يشرح لنا كيف كان يتم تعذيب شباب حماس والفصائل الأخرى داخله، وكيف خلصهم الله منه ومن صاحبه بعد أن قتله القساميون الأبطال؛ لأنه أقدم على قتل شاب قسامي داخله، وأثناء شرحه خرج أخو المرتزق من المنزل المدمَّر فانهال عليه سائق السيارة العامي بالسباب والشتائم له ولأخيه، ولم ينبس ذلك الرجل ببنت شفة، ومع هذا فإن حماس أبقت على ممتلكات الفتحاويين؛ فشعاراتهم ومراكزهم وصور رموزهم وأعلامهم.. كل هذا كان له وجود في شوارع غزة، ولا يكلف الإنسان نفسه جهداً ليجده .
هذه مقالة لعبد المعطي بساطي في مجلة البيان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك