الخميس، 30 أكتوبر 2008

تاريخ الأندلس ( 11 )

ذكرنا في المقالة السابقة كيف قامت دولة الموحدين على أكتاف دولة المرابطين وذكرنا أيضا عوامل سقوط هذه الدولة ومنهج التغيير في جماعة الموحدين وكان أول حكام هذه الدولة هو عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومر الذي أسس جماعة الموحدين وكان محمد بن تومر غزير العلم ولكن أسلوبه كان فظا في معاملة الناس وكذلك ربى أصحابه وربى من معه من قادة الموحدين ومن أتباع الموحدين على الزهد في الدنيا والتقشف فيها وعلى القتال الشديد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن كانت هناك حدة كبيرة جدا في تعاملهم مع الناس .

عبد المؤمن بن علي كانت له صولات وجولات وأقام دولة قوية جدا في بلاد المغرب وكذلك الأندلس ولكن لنرى وصف الإمام الذهبي رحمه الله لعبد المؤمن بن علي في كتابه العبر وكيف يصفه بن العماد أيضا في شذرات الذهب فيقول ( كان ملكا عادلا سائسا ( سياسي ) عظيم الهيبة عالي الهمة كثير المحاسن متين الديانة قليل المثل وكان يقرأ كل يوم سُبْعا من القرآن العظيم ويجتنب لبس الحرير ( لأن عموم الناس في هذا العصر كانوا يلبسوه ) وكان يصوم الاثنين والخميس وكان يهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق له وكان سفاكا لدماء من خالفه ) وهذا الوصف تقريبا وصفه به الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية فكان يضيف أيضا في النهاية أنه كان يسفك الدماء لمن عارضه من أتباعه أو غير أتباعه وكان ذلك ناتجا من تعليم محمد بن تومر له .

وقد كان محمد بن تومر إذا وجد أحدا من أتباعه ينظر إلى الغنائم فإنه يأخذ الغنائم كلها ويحرقها حتى لا تتعلق قلوب الناس بهذه الغنائم وكان محمد بن تومر إذا علم أن أحدا من جماعته فاتته صلاة قيام الليل يعزره ويأدبه بالضرب وبهذا نشأت جماعة من المتقين والورعين ولكن بأسلوب ينافي تماما ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرق الغنائم أو يضرب من لم يصل قيام الليل .

كان عبد المؤمن بن علي يسير على نفس طريقة محمد بن تومر ولكن يبدوا أنه لم يكن مقتنعا بفكرة عصمة محمد بن تومر ولا إلى مهديته ولا إلى فكر الخوارج الذي ظهر في كلام محمد بن تومر ولكنه أيضا لم ينفي هذه الأفكار صراحة لأن معظم شيوخ وقواد الموحدين على هذا الفكر فخاف عبد المؤمن بن علي أن يعلن أن أفكار محمد بن تومر كانت مخالفة للشرع وضالة حتى لا يحدث انقلاب في دولة الموحدين وانفرط للعقد في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين وقد قامت دولة الموحدين في 541 هـ .

فما هي تداعيات قيام دولة الموحدين وسقوط دولة المرابطين ومقتل حوالي 80 ألف مسلم :

أولا :
في سنة 542 هـ أي بعد سنة من قيام دولة الموحدين سقطت المرية في يد النصارى وهي مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في الجنوب فقد كانت بعيدة عن ممالك النصارى ولكنها سقطت عن طريق البحر وبمساعدة فرنسا وفي المرية استشهد آلاف من المسلمين وسبيت 14 ألف فتاة مسلمة .

ثانيا :
في سنة 543 هـ سقطت طرطوشة ثم لارده وهي مملكة سرقسطة وهي في الشمال الشرقي وفي نفس السنة أيضا توسعت مملكة البرتغال في الجنوب وكانت من أشد أماكن النصارى ضراوة على المسلمين وفي ذات السنة احتلت تونس من قبل النصارى .

وكانت هذه الأحداث متوقعة نتيجة الفتنة الشديدة التي كانت بين المسلمين ولكن عبد المؤمن بن علي شخصية قوية جدا ولها عقل سياسي عالي جدا وله إدارة في منتهى القوة لبلاد المغرب العربي وأسس دولة قوية هي دولة الموحدين بطريقة منظمة ومرتبة فأطلق عبد المؤمن بن علي حرية العلوم والمعارف وأنشأ كثيرا من المجالس وهذا على خلاف طريقة محمد بن تومر وكانت لعبد المؤمن بن علي فردية في الحكم أي أنه كان ديكتاتورا كما نقول في هذا العصر وهو لا يأخذ كثيرا بالشورى وهذا أيضا كان فكر محمد بن تومر .

أنشأ عبد المؤمن بن علي كثيرا من المدارس والكثير من المدارس وقَرَنَ الخدمة العسكرية بالعلوم وأنشأ مدارس كثيرة لتخريج رجال السياسة والحكم وكان يمتحن الطلاب بنفسه فأخرج جيلا كبيرا من قواد الحروب والسياسيين البارعين في دولة الموحدين وكان يدربهم على كل فنون الحرب حتى أنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة جدا في بلاد المغرب لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء وكيف تكون الحروب البحرية وكان يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه أيضا وأقام مصانع كثيرة جدا للسلاح وكذلك مخازن كثيرة جدا للسلاح وأصبحت دولة الموحدين من أقوى الدول الموجودة في المنطقة من الناحية العسكرية وكان كل هذا يجري في بلاد المغرب ولم تكن الأندلس في حساب عبد المؤمن بن علي في ذلك الوقت لأنه كان يحاول أن يستتب له الأمر في بلاد المغرب العربي .

وبعد ما شهدته الأندلس من سقوط لعدة مدن على يد النصارى قَدِم من الأندلس القاضي ابن العربي وهو من أكبر علماء المسلمين وصاحب كتاب العواصم من القواسم وبايع عبد المؤمن بن علي وطلب النجدة لأهل الأندلس وهذه المبايعة يُفهم منها أن عبد المؤمن بن علي لا يدعوا إلى أفكار ضالة وإلا لم يكن ليأتي القاضي ابن العربي إلى الأندلس ويبايع عبد المؤمن بن علي .

سمع عبد المؤمن بن علي من القاضي كلامه وانطلق إلى الأندلس حتى أنه ضم معظم بلاد الأندلس الإسلامية التي كانت في يد المرابطين إلى دولة الموحدين وممن قاتلهم هناك بعض المناصرين لدولة الموحدين ولكنه قاتلهم وانتصر عليهم واستعاد هذه البلاد في سنة 545 هـ وفي سنة 552 هـ استعاد المَرِية التي كانت على البحر الأبيض المتوسط وفي سنة 555 هـ استعاد تونس من يد النصارى وبعدها بقليل ضم ليبيا إلى حدود الموحدين وكانت هذه أول مرة يحدث هذا فلم تكن ليبيا في حدود دولة المرابطين وكان يفكر عبد المؤمن بن علي في أن يوحد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين .

في سنة 558 هـ توفي عبد المؤمن بن علي وخلفه في الحكم يوسف بن عبد المؤمن بن علي وكان يبلغ من العمر 22 سنة وكان مجاهدا شهما كريما ولكنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية وظل يحكم من سنة 558 هـ إلى سنة 580 هـ أي حوالي 22 سنة متصلة ونظم الأمور في كل بلاد الأندلس والمغرب العربي وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضد النصارى ولكن كان يعيبه شيء خطير أنه لا يأخذ بالشورى أبدا وكان منفردا برأيه تماما وأدى هذا الانفراد بالرأي إلى بعض الأخطاء في موقعة من المواقع حول قلعة من قلاع البرتغال وكان يقاتل فيها بنفسه وقتل 6 من النصارى ثم طُعن واستشهد رحمه الله في هذه الموقعة في سنة 580 هـ .

تولى الحكم من بعد يوسف بن عبد المؤمن بن علي ابنه يعقوب ولُقب في التاريخ بالمنصور وكان عنده ابن اسمه يوسف أيضا فلقُب بأبي يوسف المنصور الموحدي وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا الرجل الذي تولى الحكم من سنة 580 هـ إلى سنة 595 هـ أي خمسة عشر سنة .

هذا الرجل يعد عصره هو العصر الذهبي لدولة الموحدين وهو أكبر شخصية في تاريخ الموحدين ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين ولابد من التفرقة بين أبو يوسف المنصور الموحدي وأبو يوسف المنصور الماريني الذي سنعرفه في المقالات القادمة .

تولى أبو يوسف المنصور الموحدي الخلافة وعنده من العمر 25 سنة وفي الواقع شباب الأندلس يفعلون مالا يستطيع كثيرا من الرجال فعله فهذا أبو يوسف المنصور الموحدي ومن قبله عبد الرحمن الداخل ومن قبله عبد الرحمن الناصر فأين أنت أيها الشاب وماذا تفعل ؟ .

ونجد أن أبو يوسف المنصور الموحدي قام بالأمر أحسن قيام ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن وغير كثيرا من أسلوب السابقين وبدأ يأمر بشيء من الهدوء وشيء من السكينة الكبيرة حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة في الطريق وحاجة الضعيف في الطريق وكان يَأُمُ الناس في الصلوات الخمس وكان زاهدا جدا يلبس الصوف الخشن من الثياب وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات وكان عادلا وحليما وحارب الخمور بشدة وأحرق كتب الفلاسفة واهتم بالطب والهندسة وألغى المناظرات العقيمة التي كانت موجودة في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين وأسقط أبو يوسف المنصور الموحدي الديون عن الأفراد وزاد بشدة في عطايا العلماء ومال إلى مذهب ابن حزم الظاهري ولكن لم يفرضه على الناس وحرق الكثير من كتب الفروع وأمر بالاعتماد على كتاب الله وعلى كتب السنة الصحيحة واهتم بالعمران وأنشأ مدينة الرباط وسماها رباط الفتح وأنشأ المستشفيات وغرس فيها الكثير من الأشجار وخصص أموالا ثابتة لكل مريض لشراء الأدوية وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة وكان يجمع الزكاة بنفسه ويفرقها على الناس وكان كريما جدا مع الفقراء ووزع في أحد الأعياد أكثر من 70 ألف شاة وهو أول من أعلن صراحة فساد أقول محمد بن تومر في قضية العصمة والمهدية وقال أن هذا ضلال من الضلالات وأنه لا عصمة لأحد إلى للأنبياء وكان مجلسه دائما عامرا بالعلماء وأهل الخير .

ذكر الذهبي رحمه الله في كتابه العبر أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث ويتكلم في الفقه ويناظر وكان فصيحا مهيبا يرتدي زي العلماء والزهاد ومع ذلك عليه جلالة الملوك ونحن نعلم أنه تولى وهو يبلغ 25 سنة فقط .

ماذا فعل أيضا في بلاد الأندلس ؟ .

وطد الأوضاع في بلاد الأندلس وقوى الثغور وكان يقاتل بنفسه وكانت أشد الممالك عليه ضراوة هي مملكة البرتغال ثم من بعدها مملكة قشتالة وفي سنة 585 هـ تحدث ثورة في بلاد الأندلس في جزر البليار وهذه الثورة كانت لأتباع المرابطين ولقبيلة اسمها بني غانية وكانت لهم ثورات على عبد المؤمن بن علي وعلى ابنه أيضا فقاموا بثورة في جزر البليار وقاموا بثورة في تونس فعاد أبو يوسف المنصور الموحدي إلى جزر البليار وقمع الثورة ثم إلى تونس وقمع الثورة أيضا فضعفت بذلك قوة الموحدين في الأندلس للإنشغال بقمع تلك الثورات .

استغل ملك البرتغال هذا الأمر واستعان بجيوش ألمانيا وفرنسا البرية والبحرية وحاصر أحد مدن المسلمين هناك واحتلها وأخرج المسلمين منها وفعل بعض الموبقات في هذه المنطقة ووصل في تقدمه إلى غرب مدينة أشبيلية في جنوب الأندلس وأصبح الوضع في منتهى الخطورة .

ولنا هنا وقفة إذ أن بني غانية كان لهم عذر أن يثوروا على من سبقوا أبو يوسف المنصور الموحدي لأنهم خرجوا عن منهج الله تبارك وتعالى وكانت لهم أفكار ضالة لكن لماذا يقومون على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام والذي أعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح وكان من المفروض لبني غانية أن يساعدوا أبو يوسف المنصور الموحدي وأن يضعوا أيديهم معه ويضموا قوتهم إلى قوته ليحاربوا العدو الرئيسي في هذه المنطقة وهو العدو الصليبي الممثل في دول الشمال الأندلس سواء كانت قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى التي ضعفت شوكتها .

هذه الثورات أدت إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة والأمير أبو يوسف المنصور الموحدي بعد أن قضى على هذه الثورات فكر في الأمر وماذا يفعل في بلاد الأندلس حتى يعيد الأمر إلى نصابه وعلم أن أكبر قوتين هما قوة قشتالة والبرتغال ولكن قوة البرتغال أشد وأعنف فأقام اتفاقية مع قشتالة فعاهدهم فيها على عدم الحرب لمدة عشر سنوات واتجه لمنطقة البرتغال وهناك حارب منطقة البرتغال حروبا شديدة وانتصر عليهم في أكثر من موقعة وحرر هناك هذه المنطقة وعادت مرة أخرى للمسلمين ولكن قبل أن يكتمل له تحريرها نقض ملك قشتالة العهد معه وبدأ يعيث في الأرض فسادا وينطلق على أرض المسلمين مخالفا الهدنة التي عقدها مع أبو يوسف المنصور الموحدي .

وأرسل ألفنسو الثامن وهو حفيد لألفنسو السادس ( الذي هُزم في موقعة الزلاقة الشهيرة ) إلى الأمير أبو يوسف المنصور الموحدي يستفزه فيها للقتال ويهدده ومزق أبو يوسف المنصور الموحدي خطاب ألفنسو الثامن وكتب على جزء منه ردا أعاده مع رسولهم وقال فيه ارجع إليهم ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) وأعلن الجهاد والاستنفار العام في كل ربوع المغرب والصحراء ونشر ما جاء في كتاب ألفنسو الثامن ليحمس الناس وتسابق الناس للجهاد وفي هذا الوقت وقبله بسنوات جاءت أخبار من المشرق جعلت الناس متحمسين جدا للجهاد فنحن الآن نتحدث عن سنة 590 هـ وقبلا بسبع سنوات أي سنة 583 هـ انتصر صلاح الدين الأيوبي المشهور في التاريخ على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة وهنا في الأندلس يحفز أبو يوسف المنصور الموحدي الناس للجهاد فالناس تريد أن تكرر ما حدث في المشرق وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

يبدأ هذا الاستنفار في سنة 590 هـ وفي سنة 591 هـ تنطلق الجيوش من المغرب العربي والصحراء وتعبر مضيق جبل طارق وتنطلق إلى الأندلس لتلتقي مع جيش الصليبيين في موقعة مشهورة في التاريخ الإسلامي واسمها موقعة الأرك وكانت في التاسع من شعبان سنة 591 هـ والأرك هذا هو حصن كبير موجود في جنوب طليطلة وهي الحدود بين قشتالة والمسلمين في الأندلس في ذلك الوقت وألفنسو الثامن أعد جيشا واستعان بمملكتي ليون ونافار وجيوش ألمانيا وانجلترا وهولندا وكان يبلغ جيش الصليبيين في هذه الموقعة 225 ألف صليبي وكان معهم جماعات كبيرة جدا من اليهود في الجيش ترى لماذا ؟ حتى يشتروا من الصليبيين أسرى المسلمين فكان مع اليهود أموال كثيرة في هذه الفترة أيضا .

أعد أبو يوسف المنصور الموحدي جيشا قوامه 200 ألف مسلم وهو جيش كبير وهذا بسبب الحمية التي كانت في قلوب أهل المغرب للقتال في أرض الأندلس لما سمعوا بأخبار الجهاد وانتصار المسلمين في حطين .

وعندما دخل أبو يوسف المنصور الموحدي منطقة الأرك يقوم بعمل اجتماع كبير جدا فأقام مجلس استشاري وأخذ فيه كل آراء الحضور وهذا نسق جديد في القيادة فقد كانت هناك فردية في قيادة دولة الموحدين ولكن هذا الرجل غيّر من سمت دولة الموحدين وقد استعان أبو يوسف المنصور الموحدي برأي أبي عبد الله بن صناديد وهو زعيم الأندلسيين وليس من قبائل المغرب البربرية وكان هذا شيء جديدا في دولة الموحدين لأنها لم تكن تعتمد على جيش إلا من أرض المغرب فقط .

وهنا بدأ أبو يوسف المنصور الموحدي في ضم قوة الأندلسيين وقوة البربر الموجودة في صحراء المغرب وبدأ يستعين بآرائهم ووضع خطة شبيهة جدا بموقعة الزلاقة وقسم الجيش نصفين فجعل نصف للقتال في المقدمة وأخفى جزءا كبيرا من الجيش خلف التلال وكان هو على رأس هذا الجيش المختفي خلف التلال واختار أميرا عاما للجيش هو أبا يحي بن أبي حفص وولى قيادة الأندلسيين لأبي عبد الله بن صناديد وذلك حتى لا يوغر صدور الأندلسيين إذا تولى عليهم بربري أو مغربي ثم قسم المقدمة إلى مقدمة أولى تواجه جيش النصارى وجعلها من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين وهي تنقسم إلى ميمنة من الأندلسيين والقلب من الموحدين والميسرة من العرب ثم جعل من خلفهم مجموعة المتطوعين غير النظاميين فهو يريد أن يضع في المقدمة الجيوش النظامية حتى تتلقى الصدمة الأولى والضربة الأولى فيقوموا بصدهم ويرفع الروح المعنوية للجيش الإسلامي وأما المتطوعين غير النظاميين الذين ليست لهم كفاءة في القتال وضعهم خلف الجيوش ووقف هو في المجموعة الأخيرة خلف التلال ووزع الخطباء على أطراف الجيش يحمسون الناس على الجهاد وعند اكتمال الحشد والاستعداد للقتال أرسل الأمير أبو يوسف المنصور الموحدي رسالة إلى كل المسلمين يقول فيها ( إن الأمير يقول لكم اغفروا له فإن هذا موضع غفران وتغافروا فيما بينكم وطيبوا نفوسكم وأخلصوا لله نياتكم ) فبكى الناس جميعا وأعظم ما سمعوه من أميرهم أبو يوسف المنصور الموحدي أنهم علموا أن هذا موقف وداع فالتقى المسلمون مع بعضهم البعض وعانقوا بعضهم البعض وودعوا الدنيا وأقبلوا على الآخرة في موقعة الأرك الكبيرة .

كان موقع النصارى في أعلى تل وعلى المسلمين أن يقاتلوا من أسفل ولكن هذا لم يرد المسلمين أبدا عن القتال ونزل القشتاليون كالسيل الجارف المندفع من الأعلى أسرابا تتلوها أسراب وكانت الصدمة كبيرة جدا على المسلمين ووقع الكثير من المسلمين شهداء وثبت المسلمون ثم رجعوا ولما رأى أمير المسلمين ذلك نزل بنفسه دون جيشه في شجاعة نادرة يمر على كل الفرق ويقول بنفسه جددوا نياتكم وأحضروا قلوبكم وفعل ذلك مع كل القبائل والصفوف ثم عاد إلى مكانه من جديد واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يردوا النصارى في الهجوم الأول ثم حدث هجوم آخر للصليبيين وانكسار للمسلمين ثم ثبات من جديد ورد الهجوم للمرة الثانية ثم الهجوم الثالث للنصارى وكان هجوما شرسا وكان مركزا على القلب من الموحدين وسقط آلاف من المسلمين شهداء واستشهد القائد العام للجيش أبو يحي بن أبي حفص وظن الصليبيون أن الدائرة قد دارت على المسلمين ونزل ملك قشتالة إلى الموقعة يحوطه عشرة آلاف فارس وعندئذ تحركت ميمنة المسلمين من الأندلسيين لإنقاذ القلب وهجمت بشدة على النصارى واستطاعت حصار العشرة آلاف جندي بما فيهم ألفنسو الثامن وحدث اضطراب كبير جدا في الجيش القشتالي واستمرت الموقعة طويلا وارتفعت سحب الغبار الكثيف وأصبح لا يسمع إلا صوت الحديد وقرع الطبول وصيحات التكبير من جيش المؤمنين وبدأت بالتدريج الدائرة تدور على النصارى والتفوا حول ملكهم وقد تزعزعت قلوبهم ورأى ذلك الأمير يعقوب المنصور الموحدي فأمر جيشه الكامن خلف التلال بالتحرك وانطلق معهم وفي مقدمة جيشه العلم الأبيض الكبير علم الموحدين ومنقوشا عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله لا غالب إلا الله وارتفعت بشدة معنويات المسلمين وأسلم الصليبيون رقابهم لسيوف المسلمين وانتصر المسلمون انتصارا باهرا في يوم الأرك وأصبح يوما من أيام الإسلام المشهودة وقالوا أنه مثل الزلاقة وقالوا بل فاق الزلاقة وهرب ألفنسو الثامن في فرقة من جنوده إلى طليطلة وطارت أخبار النصر في كل مكان وأعلنت أخبار النصر العظيم في كل منابر المساجد في أطراف دولة الموحدين الشاسعة بل وصلت الأخبار إلى المشرق الإسلامي وكانت السعادة لا توصف وتحديدا بعد 8 سنوات من نصر حطين العظيم .

كانت لهذه الموقعة نتائج كثيرة فكان منها :

أولا :
النصر المادي كان كبيرا فقد كان أقل تقدير لقتلى الصليبيين في اليوم الأول للأَرَكْ هو 30 ألف مقاتل لكن المسلمين بعد موقعة الأرك تتبعوا جيش النصارى وذكر في كتاب نفح الطِيب للمقري وفي وصيات الأعيان لابن خِلّكَان أن عدد قتلى الصليبيين وصل إلى 146 ألف قتيل من أصل 225 ألف مقاتل وكان عدد الأسرى بين عشرين وثلاثين ألفا وقد أكرم المنصور هؤلاء الأسرى بأن أطلقهم بغير فداء إظهارا لعظم الإسلام ورأفته بهم وعدم اكتراثه بهم والغنائم كانت لا تحصى وكانت الغنائم من الخيول كما جاء في نفح الطيب بأنهم ثمانين ألفا ومئة ألف من البغال ومالا يحصى من الخيام وكل هذه الغنائم وزع منها المنصور على الجيش أربعة أخماسها وجعل الخمس الباقي لبناء مسجد كبير في أشبيلية وذلك تخليدا لذكرى الأرك وأنشأ فيه مإذنة طويلة يبلغ طولها 200 متر وكانت من أعظم المآذن في ذلك الوقت حتى أنه لما سقطت أشبيلية في يد النصارى بعد ذلك تحول المسجد إلى كنيسة وهو موجود إلى الآن ككنيسة في يد الصليبيين .

ثانيا :
النصر المعنوي العظيم فقد ارتفعت بشدة معنويات الأندلسيين وهانت عليهم قوة الصليبيين وارتفعت معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي حتى أعتقت رقاب كثيرة فرحا بهذا الانتصار وارتفعت معنويات الموحدين بشدة حتى أنهم فكروا بجدية في عهد أبو يوسف المنصور الموحدي في ضم كل بلاد المسلمين تحت راية واحدة وبالذات أن المعاصر لأبي يوسف المنصور الموحدي هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ولكن مات المنصور قبل أن يُتم ما يحلم به .

ثالثا:
حدثت صراعات شتى بين ليون ونافار من ناحية وبين قشتالة من ناحية أخرى وألقى عليهم ألفنسو الثامن مسؤولية الهزيمة وحدث لهم هزيمة نفسية شديدة جدا وأتت سفارات من بلاد أوروبا تطلب العهد والصداقة مع المنصور الموحدي رحمه الله ومن أشهرها سفارة انجلترا التي أتت للمنصور الموحدي في أواخر أيامه .

رابعا:
تم تحرير الجزء الخاص بالشمال الشرقي ورجع للمسلمين كما كان في عهد المرابطين وحاصروا طليطلة سنوات عديدة ولكن طليطلة كانت أحصن المدن الأندلسية فلم تُفتح .

خامسا:
تمت معاهدة جديدة بين المسلمين وبين قشتالة وكانت الهدنة على أن تكون من سنة 595 هـ إلى سنة 605 هـ أي عشر سنوات من عدم القتال يحاول فيها المنصور أن يرتب فيها الأمور في بلاد الموحدين من جديد .

وفي سنة 595 هـ يموت أبو يوسف المنصور الموحدي فجأة وكان عمره ساعتها 40 سنة وتولى الحكم من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو محمد بن عبد الله وكان عمره 18 سنة ولكن العمر لم يكن قضية لأنه كان هناك قواد من المسلمين في مثل هذا العمر ولكن المشكلة أن الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه .

نلتمس العذر للمنصور الموحدي فهو لم يكن متوقعا أن يموت في مثل هذا السن ولعل ابنه كان سيكتسب الخبرات من أبيه في حال حياته ولكن أبيه قد مات فجأة ولم يكن الناصر لدين الله على أحسن استعداد للحكم .

كان من المفترض أن يقوم الموحدين بانتخاب من يصلح للخلافة بدلا من الناصر لدين الله الذي كان شابا مجاهدا قويا وطموحا ولكن لم يكن في كفاءة أبيه والبلد محاصر بالأعداء في كل مكان والصليبييون هزموا في موقعة الأرك منذ أربع سنوات فنحن الآن نتحدث في سنة 595 هـ ويريدون أن يعيدوا الكرة على بلاد المسلمين .

وبعد وفاة المنصور قامت من جديد ثورات بني غانية والمؤيدة لدولة المرابطين السابقة وما كان لهم أن يفعلون هذا وكان من الناصر لدين الله أن وجهة أغلب قوته للقضاء على هذه الثورات وبدأ يحاربهم في صولات وجولات كثيرة حتى أخمدها تماما في سنة 604 هـ أي أنها استمرت 9 سنوات كاملة من حكمه وفي هذه الأثناء تجدد الأمل من جديد عند ألفنسو الثامن وحرص على تجهيز العدة لرد الاعتبار وأقسم ألا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا بغلا وأن ينكس الصليب حتى يأخذ بثأره من المسلمين وأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش والحصون تمهيدا لحرب جديدة مع المسلمين ثم خالف العهد والهدنة وهجم على بلاد المسلمين قبل انتهاء الهدنة التي عقدها مع المنصور قبل موته وقام بحرق الزروع ونهب القرى وقتل العزل من المسلمين .

كانت هذا هو بداية حرب جديدة مع المسلمين ولكن المسلمين أنهكوا بسبب هذه الحروب التي كانت على بني غانية أضف على ذلك أن القيادة لم تكن بكفاءة السابقين من قادة الموحدين وكان هناك عيبا شديدا جدا في الناصر لدين الله وهذا العيب كان في أجداده وأشياخه من الموحدين وهو مخالفة الشورى وكان الوحيد الذي أخذ بالشورى هو المنصور الموحدي ولذلك أفلح وتمكن ونصره الله .

كان الناصر لدين الله معتدا برأيه تماما ولم يكن ليأخذ بالشورى أبدا وأيضا هناك عيب آخر كان في الناصر لدين الله وهو أنه استعان بوزير ذميم الخلق واسمه أبو سعيد بن جامع وقد شك الكثير من المؤرخين في نواياه والكثير من المعاصرين له من الأندلسيين والمغاربة في اقتراحاته وهكذا بطانة السوء وهو من أصل أسباني وكثير من الناس قالوا أن له اتصالات مع النصارى أدت إلى أمور خطيرة في دولة الموحدين وهذا الرجل هو الذي كان يأمن له الناصر لدين الله ولم يكن يستعن بآراء مشايخه أو قواد الأندلسيين من حوله ويكتفي بهذا الوزير .

وللنظر للجانب الآخر من النصارى فقد حدثت تعبئة روحية كبيرة لجيش النصارى وقادها البابا بنفسه في روما وقالوا إنها حرب صليبية مقدسة ورفعوا صور المسيح وقال البابا أن من يشارك في هذه الموقعة سيمنح له الغفران التام وهذا كما حدث في موقعة الزلاقة .

أيضا حدث استنفار عام في معظم بلاد أوروبا اشتركت فيه معظم الدول الأوروبية حتى وصل الاستنفار إلى القسطنطينية في شرق أوروبا وتولت فرنسا الإنفاق على الجيوش ومن المعلوم أن فرنسا يهمهما القضاء على دولة الموحدين لأنها لو لم تنته وكانت دولة الموحدين قوية فإن الدائرة ستدور عليها بعد الأندلس .

أيضا كانت مملكة نافار معاهدة للمنصور قبل أن يموت ومع ذلك أرسل لها البابا رسالة يحضها فيها على نبذ معاهدة الموحدين وعلى إرجاع العلاقة مع القشتاليين وسمع ملك نافار لكلام البابا وأطاعه وتوحدت جيوش أوروبا وبلغ الجيش الأوروبي في تلك الموقعة التي ستحدث بين الصليبيين والمسلمين حوالي 200 ألف صليبي ويتقدمهم الملوك والرهبان .

أما على الجانب الإسلامي فإن الناصر لدين الله لما أعلن الجهاد وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس بلغ عدد المسلمين 500 ألف مقاتل أي أكثر من ضعف عدد النصارى وأقل رواية ذكرت عدد المسلمين قالت أنهم بلغوا 260 ألف وحتى هذه الراوية ذكرت أن النصارى لم يزيدوا عن 160 ألف نصراني وكان في كل الروايات أن الجيش الإسلامي يزيد على جيش النصارى حوالي مرة ونصف على الأقل .

وانطلق الناصر لدين الله وعبر البحر متجها إلى الأندلس واتجه إلى منطقة عرفت باسم العقاب لأن هناك قصرا يسمى العقاب وهو قصر قديم دارت حوله الموقعة ومع أنها سميت باسم القصر إلا أنها كانت اسما على مسمى فكانت عقابا للمسلمين على مخالفاتهم وكانت عقابا للناصر على اعتداده برأيه وكانت عقابا لهم على انغماسهم في الأموال والغنائم التي فتحت عليهم بعد عهد المنصور الموحدي رحمه الله وكانت عقابا لهم للثورات المتكررة التي دارت في دولة الموحدين على دولة الموحدين بعد أن انصلحت حالة الدولة ولماذا قامت ثورات بني غانية بعد أن انصلح حال الموحدين .

دخل الناصر لدين الله أرض الأندلس بهذا العدد الكبير من المسلمين وأول ما دخل حاصر قلعة كبيرة جدا للنصارى اسمها سَلْبَترا وكانت هذه القلعة حصينة جدا وكانت جنوب طليطلة وكان الصليبيون في داخل هذا الحصن قليلين ولكن من حصانة القلعة لم يستطع المسلمون فتحها واجتمع قادة الموحدين وقادة الأندلسيين على الناصر لدين الله وأشاروا عليه أن يترك هذه القلعة ويتجه إلى جيش النصارى في الشمال حتى يحاربهم لأنه سوف ينهك قوته في حصار هذه القلعة الحصينة فعليه أن يترك حامية عليها ولكن الناصر لدين الله رفض هذا واستمع لرأي وزيره الذي قال له أنه لا يجب أن يجوِّز هذه القلعة أي يتعداها فظل يحاول حصار هذه القلعة حوالي 8 شهور كاملة وانظر جراء هذا الأمر :

أولا :
أضاع على نفسه 8 شهور وكان من الممكن أن ينتصر على النصارى قبل أن يعدوا عدتهم .

ثانيا :
أكمل النصارى عدتهم في هذه الفترة الطويلة واستجلبوا أعدادا أخرى من أوروبا .

ثالثا :
هلك الآلاف من المسلمين في سقيع جبال الأندلس في ذلك الوقت وكان الناصر لدين الله قد دخل الأندلس في شهر يناير أي وقت مناسب جدا للحرب ولكن تأخيره ومحاصرته للقلعة جعلوه يمر بشهور البرد والشتاء القارص وهذا ما جعل المسلمين يهلكون في هذه الشهور .

قسم الجيش النصراني نفسه إلى ثلاثة جيوش كبيرة :

الجيش الأول هو الجيش الأوروبي .

والثاني هو جيش إمارة أراجون .

والثالث هو أضخم هذه الجيوش فكان يحتوي جيش قشتالة والبرتغال وليون ونافار .

وقامت هذه الجيوش بمحاصرة قلعة رباح وهذه القلعة امتلكها المسلمون بعد موقعة الأرك وكان على رأس هذه القلعة القائد الأندلسي البارع الشهير أبي الحجاج يوسف بن قادس رحمه الله وهو من أشهر قواد الأندلس في تاريخ الأندلس وطال حصار القلعة أياما كثيرة حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يستطيع أن يفلت من هذا الحصار وأيضا بدأت بعض حوائط هذا الحصن تتهاوى أمام جيش أراجون وهنا أبو الحجاج يوسف بن قادس يأخذ قرارا يريد منه أن يحقق الأمن والأمان إلى جيشه ويريد أن يتحيز إلى فئة وينضم إلى جيش المسلمين فعقد معاهدة مع النصارى على أن يترك لهم القلعة بكل المؤن التي فيها والسلاح على أن يخرج هو من القلعة بغير مؤن ولا سلاح ووافق على هذا ألفنسو الثامن وبالفعل خرج القائد أبو الحجاج واتجه لجيش الناصر لدين الله .

حدث خلاف بين الأوربيون وألفنسو الثامن لأنهم جاءوا لقتل المسلمين وليس للسماح لهم بالهروب ولكن كانت فكرة ألفنسو الثامن هو أن يجعل المسلمون يثقون فيه ويفتحوا له مدنهم ليدخلها وأدى هذا الخلاف إلى انسحاب جيش النصارى الذي بلغ 50 ألف من الصليبيين وذلك كان قبل الموقعة مباشرة وهذا كان نصرا كبيرا للمسلمين وهزة شديدة لجيش النصارى .

عاد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر لدين الله وعندما يصل إليه ويعلم أنه قد ترك قلعة رباح وسلمها بالمؤن والسلاح إلى النصارى أشار عليه وزيره السيئ أبو سعيد بن جامع بقتل القائد المسلم البارع أبو الحجاج بتهمة التقاعس عن حماية القلعة وهذا خطأ كبير من الناصر لدين الله وهذا غير الخطأ الآخر وهو حصار قلعة سلبترا ولكن لماذا أخطأ الناصر في هذا ؟ .

ذلك لأن القائد أبو الحجاج لم يهرب وإنما كان متحرفا لقتال ولو مكث لهلك ولو لم يهلك لحيدت قوته عن الاشتراك في الموقعة بسبب الحصار وأيضا على فرض أن القائد قد أخطأ فليس جزاءه القتل أبدا ولكن الناصر لدين الله قتله على الملأ من الناس وفي ساحة المعركة وبقتله فقد قوة كبيرة جدا في جيشه وأيضا فقد أيضا قوة الأندلسيين فقد شعر الأندلسيين أن هناك فارقا كبيرا بين المغاربة والأندلسيين مما كان له أثرا كبيرا على قلوبهم .

بدأ الناصر لدين الله في تجهيز الجيش في اللحظات الأخيرة فقسم جيشه إلى فرقة أمامية وأخرى خلفية ولكنه يضع الفرقة الأمامية من المتطوعين فمن الواضح أنه لم يكن يقرأ التاريخ ليعرف كيف كان يفعل أجداده من المسلمين وكانت الفرقة الأمامية هي 160 ألف متطوع ومن خلف هذه الفرقة الجيش النظامي الموحدي .

وعلى الرغم من أن الفرقة الأمامية من المتطوعين كانت متحمسة للقتال ولكن ليست لهم خبرة ودراية بالقتال كالفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي الصليبيين التي وضعت في مقدمة الجيش الصليبي وكان من الواجب على الناصر لدين الله أن يضع في المقدمة ذوي الخبرة من المسلمين في القتال من الجيش النظامي حتى يرفع من الروح المعنوية للجيش ويحط من معنويات النصارى ولكنه لم يفعل .

وضع الناصر لدين الله في ميمنة جيشه الأندلسيين وجيش الأندلسيين فيه أسى وحزن لقتل القائد الأندلسي المغوار أبي الحجاج يوسف بن قادس ولم يكن من الصحيح وضعهم في المقدمة ليتلقوا الضربة الأولى من جيش النصارى .

أيضا نذكر أنه كانت هناك بطانة سوء حول الناصر لدين الله والمتمثلة في الوزير السيئ وأخيرا الاعتقاد لدى جيش المسلمين أنه لا محالة سينتصر لأن جيشه أضعاف جيش النصارى ولكننا نذكر قول الله عز وجل { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } (25) سورة التوبة .

فلقد أعجب المسلمون بعددهم ولكنه لم ينفعهم ونحن رأينا حنين في موقعة بلاط الشهداء وكذلك في موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر والآن نرى حنين جديدة مع الناصر لدين الله وهو في أعظم قوة للموحدين وقد كان أكبر جيش للمسلمين منذ أن فتحها الله للمسلمين سنة 92 هـ ومن الطبيعي جدا أن تحدث هزيمة نتيجة لتلك الأخطاء المتكررة .

وبدأت المعركة وهجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة الجيش النصراني وارتطم المتطوعون من الجيش المسلم مع مقدمة الجيش النصراني من القشتاليين وصدهم صدا كبيرا ومزق مقدمة المسلمين وقتل الآلاف من المسلمين في الضربة الأولى واخترق النصارى فرقة المتطوعة كلها أي أنهم اخترقوا 160 ألف مقاتل ووصل إلى قلب الجيش الموحدي النظامي واستطاع المغاربة أن يصدوا الهجمة ولكن بعد أن هبطت معنويات الجيش الإسلامي نتيجة قتل الآلاف وارتفعت معنويات الجيش النصراني ورأى ألفنسو الثامن هذا الأمر فأطلق قوات المدد المدربة لإنقاذ قوة الصليبيين وكان لها أثر كبير وعادت الكرة للصليبيين من جديد ، وفي هذه الأثناء حدث أمر خطير في جيش المسلمين لما رأى المسلمون الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين وآلاف الشهداء وكانوا يقاتلون مرغمين في جيش الموحدين لما قتل قائدهم وكانوا يشعرون بالسند إلى العدد وليس بالسند إلى الله ، أدى ذلك إلى فرارهم من القتال وفرت ميمنة المسلمين من أرض موقعة العقاب والتف النصارى حول ميمنة جيش المسلمين وبدأت الهلاك يدب في جيش المسلمين وقتل من المسلمين 70 ألفا على يد النصارى وفر الناصر لدين الله من أرض الموقعة ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر .

وقال الناصر لدين الله وهو يفر ( صدق الرحمن وكذب الشيطان ) لأنه كان قد دخل المعركة وهو يعلم أنه منصور لا محالة وارتكب خطأ آخر وهو أنه لم يبق في مدينة بيَّاسا والتي تلي مدينة العقاب وفر أيضا من مدينة أُوبَدا وانطلق إلى مدينة أشبيلية وترك بياسا وأوبدا بلا حامية وقوة الصليبيين مازالت في قوتها فانطلق الصليبيين في لمحاصرتها وكانت مكانا للمرضى والنساء والأطفال وقتلوا جميعا بالسيف بعد أن جمعوا في المسجد الكبير الجامع في مدينة بياسا وانطلقوا على أوبدا وحاصروها ثلاثة عشر يوما كاملة وأعطوا لأهلها الأمان على أن يخرجوا ولما خرج أهلها منها قام القساوسة وأمروا الملوك بعدم تركهم وقتلهم فقتلوا من المسلمين في أوبدا ستين ألف مسلم في يوم واحد وذلك بعد موقعة العقاب تماما .

تدهور حال المسلمون في بلاد الأندلس والمغرب ويقول المؤرخون أنه بعد موقعة العقاب ما كنت تجد شابا صالحا للقتال في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس والعجيب أن موقعة واحدة تسقط دولة كبيرة في اتساع دولة الموحدين وعاد الناصر لدين الله من أشبيلية منسحبا أكثر وأكثر إلى بلاد المغرب العربي واعتكف في قصره واستخلف ابنه وهو يبلغ من العمر 10 سنوات وسبحان الله الذي لا يرضى عن هذه الأفعال فيموت الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد وذلك في سنة 610 هـ وهو يبلغ من العمر 34 سنة ويتولى الحكم ابنه المستنصر بالله ويبلغ من العمر 11 سنة فقط .

ومن جديد يوسد الأمر لغير أهله وتضيع الأمانة وتتوالى الهزائم للمسلمين بعد سنوات من التمكين لهم وهذه هي سنة الله في خلقه فكلما ارتفع المسلمون وكثرت الأموال وأهمل المسلمون الشرع واعتدوا بآرائهم ونبذوا الشورى وتركوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظهرت الهزائم والمكائد إلى أجل بعيد .

بعد موقعة العقاب ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية فاضطروا إلى العودة وهذا مد في عمر الأندلس بضع سنوات أخرى ففي سنة 614 هـ وتولي المستنصر أمور الدولة وهو طفل ظهرت حركة جديدة للاستقلال عن الموحدين وأنشأت دولة سنية جديدة من قبيلة زناتة في بلاد المغرب وهذه الدولة سيكون لها شأن كبير في الأندلس بعد ذلك وهذه دولة بني مارين في سنة 614 هـ .

وفي سنة 620 هـ سقطت جزر البليار على يد ملك أراجون بمساعدة إيطاليا وقتل في هذه الجزر عشرون ألفا من المسلمين وفي نفس السنة استقل بنو حفص في تونس وانفصلوا بها عن دولة الموحدين وفي نفس السنة مات أمير الموحدين المستنصر وهو يبلغ من العمر 21 سنة ودار صراع شديد على السلطة وهو لم يستخلف أحدا ثم كانت ولاية عبد الواحد عم أبيه من بعده ثم خُلع وقُتل ثم تولى آخر وهكذا كلما تولى أحد يقتل بعد حوالي أربع سنوات ثم يأتي غيره وسارت الدولة إلى هاوية سحيقة .
وفي سنة 625 هـ استقل رجل اسمه ابن هود بشرق وجنوب الأندلس وكان كما يصفه المؤرخون مفرطا في الجهل ضعيف الرأي لم يُنصر على النصارى له جيش .

وفي سنة 633 هـ استقل بنو زيان في الجزائر وفي نفس السنة حدث أمر خطير ومروع وهو سقوط قرطبة فقد حُوصرت عدة شهور واستغاث أهلها بابن هود الذي استقل بشرق وجنوب الأندلس ولكنه لم يعر لها اهتماما وكان ابن هود مشغولا بحرب رجل آخر اسمه ابن الأحمر الذي استقل هو الآخر بجزء من الأندلس حتى اضطر أهل قرطبة للتسليم وكان الرهبان يصرون على قتلهم لكن رفض فرناندو الثالث ملك قشتالة خشية أن يدمر أهل المدينة كنوزها وآثارها الفاخرة وبالفعل خرج أهلها تاركين كل شيء فخرجوا متجهين جنوبا تاركين المجد العظيم خلفهم وسقطت قرطبة التي كانت من أعظم مدن الإسلام في هذا التاريخ والتي أفاضت على العالم خيرا وعلما ونورا سقطت المدينة صاحبة الثلاثة آلاف مسجد وصاحبة الثلاثة عشر ألف دار سقطت عاصمة الخلافة التي دامت أكثر من 500 عام وسقطت المدينة التي هي صاحبة أكبر مسجد في العالم وهي صاحبة ثغر من ثغور الإسلام فسقطت هذه المدينة في 23 شوال سنة 633 هـ وفي ذات اليوم تحول مسجدها الجامع الكبير إلى كنيسة ومازال كنيسة إلى اليوم .

في سنة 635 هـ استقل بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود .

وفي سنة 636 هـ بعد استقلال بنو الأحمر بغرناطة بسنة واحدة سقطت فالنسيا بعد حصار خمس سنوات متصلة على يد ملك أراجون بمساعدة فرنسا وكان حصارا شديدا فقد كاد الناس أن يهلكوا جوعا وكان خلاله عدة مواقع أشهرها موقعة أميشة سنة 634 هـ وهلك فيها كثير من المسلمين ومنهم الكثير من العلماء وحاول بنو حفص في تونس مساعدة فالنسيا بالمؤن والسلاح ولكن الحصار كان شديدا حتى اضطروا لترك البلد تماما في سنة 636 هـ وهُجر خمسون ألفا من المسلمين إلى تونس وتحولت كل مساجد المسلمين إلى كنائس وكانت سياسة مشهورة للنصارى في كل الأراضي التي يسيطرون عليها إما القتل وإما التهجير .

وفي سنة 641 هـ سقطت دانية وهي بالقرب من فالنسيا وفي سنة 643 هـ سقطت جيان وهكذا لم يبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط وهي ولاية غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد وولاية أشبيلية في الجنوب الغربي من البلاد وهما يمثلان حوالي ربع بلاد الأندلس وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن كل ولايات أفريقيا قد استقلت عن بلاد الموحدين وسقطت بذلك الدولة العظيمة المهيبة المترامية الأطراف ولابد لنا من وقفة فلماذا يسقط هذا الكيان الكبير هذا السقوط المفاجئ ؟ .

في الواقع هو ليس مفاجأ ولكن لنا أن نذكر عوامل الضعف وهي كما يلي :

أولا :
تعاملها بالظلم مع دولة المرابطين وقتلها الآلاف ممن لا يستحقون القتل وطريق الدم لا يمكن أن يثمر عدلا ويقول ابن تيمية ( إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ) .

ثانيا :
العقائد الفاسدة التي أدخلوها على منهج أهل السنة وعلى الرغم من أن أبو يعقوب المنصور لموحدي قاوم هذه المعقدات بشدة إلا أن شيوخ الموحدين وفي آخر لحظات دولة الموحدين كانوا يعتقدون في عصمة محمد بن تومر وفي صدق ما قاله .

ثالثا :
الثورات الداخلية الكثيرة التي قامت في دولة الموحدين وعلى الموحدين والتي كان من أشهرها ثورة بني غانية والتي كانت في بلاد الأندلس وجزر البليار وتونس .

رابعا :
الإعداد الجيد من قبل النصارى في مقابل الإعداد غير المدروس من قبل الناصر لدين الله ومن تبعه بعد ذلك .

خامسا :
كثرة الأموال بعد انفتاح الدنيا على دولة الموحدين والترف الشديد الكثير الذي أدى إلى التصارع على الحكم وإلى الحركات الانفصالية .

سادسا :
بطانة السوء والتي كان من أبرز علامتها الوزير أبو سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله ومن كان على شاكلته بعد ذلك .

سابعا :
إهمال الشورى من قبل الناصر ومن بعده من الخلفاء .

وهناك الكثير من العوامل التي اجتمعت بعد ذلك ولابد أن يدرس المسلمون كيف سقطت دولة الموحدين والآن لم يبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط غرناطة وأشبيلية ومع ذلك بقي الإسلام في الأندلس أكثر من 250 بعد هذا السقوط المروع لدولة الموحدين فكيف بقي المسلمون فترة طويلة في بلاد الأندلس وكيف استطاعوا أن يمكثوا على إسلامهم مع حرب النصارى الشديدة فهذا ما سنتداوله إن شاء الله في المقالة القادمة .

هذا تلخيص لأحد دروس الشيخ راغب السرجاني عن الأندلس

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك