من أهم ما يميز نور الدين محمود عدم انشغاله عن الله عز وجل حتى ولو بالسلطة والجاه وهذا لا يمنع أن كانت له طموحات بل إن المرء يعرف من خلاله ما يتمنى أن يحققه على أن يقرن هذه الطموحات بالعمل على تحقيقها هذا وكان حال نور الدين فما حال من هم حاليا فى مواقع قيادية ؟ ما هى أقصى طموحاتهم فى الحياة ؟ وبالنسبة لنور الدين كانت إحدى أمنياته الغالية تكمن فى استعادة فلسطين وبيت المقدس والصلاة فى المسجد الأقصى ورغم أن هذا الطموح كان صعب المنال ويتطلب بعضا من الوقت لتحقيقه إلا أنه لم يركن إلى أية معوقات مادية أو زمنية بل حرص على بناء منبر خاص يوضع فى المسجد الأقصى بعد فتحه لفلسطين ولبيت المقدس وعلى قدرعلو شأن المسجد الأقصى فى نفوس المسلمين على قدر الحسرة على ما فعله به من يدعون المحبة والسماحة والإحترام الدينى المتبادل حتى أن حقدهم على الإسلام والمسلمين جعلهم يحولوه إلى حظيرة للخنازير وكان إنشاء المنبر قبل تحرير الأراضى من الصليبيين دلالة على صدق وعزم نور الدين محمود على تحقيق طموحاته وكان الصليبيون يضجرون من ذلك القائد المسلم الذى ما إن وضع نصب عينيه هدفا إلا وسعى إلى تحقيقه بكل ما أوتى من قوة وبالفعل فإن ابن الأثير يذكر أنه ما كان أحد أشجع من نور الدين محمود فى التصدى لأعداء الإسلام ولا من صلاح الدين الأيوبى فوق فرسه ! .
ومن لطائف الأمور أن نور الين محمود لم يكن ليشرع فى أمر من الأمور قبل أن يحدد نيته من الإقدام على إتيان ذلك الأمر وما أطيب أن يتحرى الإنسان شرعية أفعاله من خلال إخلاصها لله تعالى وعلى سبيل المثال فأثناء لعب نور الدين الكرة جاءه أحد الشيوخ وتبادلا بضعة كلمات فيما يلى :
(الشيخ) : ما أراك تفعل يا نور الدين ؟ هل تقدم على هذا اللهو وأنت قائدنا والمجاهد فى سبيل الله ؟ .
(نور الدين) : والله إنما الأعمال بالنيات وإنما أنا اقوم بهذا للتدريب على الفروسية وزيادة قوتى البدنية .
وبناءا عليه فمن الطبيعى أن يتملك الفرد شعور بالشفافية عند تحدثه على شخصية نور الدين محمود فكأنه يعود بنا إلى عصر الصحابة رضى الله عنهم لما كان يتمتع به من روحانية وتحرى مرضاة الله تبارك وتعالى .
وفى مرة أخرى كان يلعب فيها نور الدين محمود الكرة بصحبة صلاح الدين الأيوبى فإذا بشيخ هرم ينزل إلى ميدان اللعب ويستوقف نور الدين قائلا له :
(الشيخ الهرم) : بينى وبينك يا نور الدين مظلمة .
(نور الدين) : هيا بنا إذن للقاضى الشهرزولى (قاضى دمشق فى ذلك الوقت) .
وبالفعل اصطحب نور الدين الرجل إلى القاضى الذى خاطبه سائلا إياه :" ماذا تقول يا محمود فى دعوى الرجل ؟ " و لنتوقف عند موقف القاضى هل بدت عليه الخشية من شخصية نور الدين أو المحاباة له ؟ كلا بل على العكس لم يرهب القاضى منصب نور الدين وخاطبه باسمه " محمود " كأنه يخاطب رجلا من عامة الشعب فهذه والله هى العدالة بعينها وثبت للقاضى أن ذلك الرجل لم يكن له ثمة حق عند نور الدين وهنا دار بين صلاح الدين و نور الدين ما يلى :
(صلاح الدين) : ألم يكن أولى بنا الانتظار حتى نفرغ مما كنا فيه ؟ .
(نور الدين) : إنما نحن خدام الشريعة وخدام الناس .
فهذا مثال آخر لرؤية الأمور على حقيقتها وبالوجه الذى يرضى المولى العلى القدير فالقيادة فى الإسلام هى إلتزام ومسئولية وقضاء حاجة الرعية و ليست فرصة لجلب المصالح إلى صاحبها فإذا تعددت المواكب مثلا فلمن ينبغى أن تكون ؟ للرئيس أو الوزير حتى يتم التباهى بهم ؟ أم لأفراد الأمة ليعرضوا مطالبهم ويحصلوا عليها ؟ ثم لنقارن بين موقف نور الدين الذى استجاب فى الحال لأحد الرعية وبين موقف الوزير أو المسئول فى أيامنا هذه إذا ما تم استدعاؤه أمام القضاء فهل يستجيب للإستدعاء ؟ وكم من الوقت يمر قبل أن يمتثل أمام الجهة التى استدعته ؟ وعن هذه المقارنه إنما هى بين الحاكم العامل لهذا الدين وبين المنتفع من منصبه وفى الحالتين فهى تظهر قيمة كل من الفئتين .
اعتاد صلاح الدين مرافقة نور الدين فى مسابقات الفروسية ومثلما اكتسب صلاح الدين فنون القتال من أسد الدين شيركوه فقد أخذ مهارة الفروسية عن نور الدين محمود وهكذا كان فيض هذين الرجلين على صلاح الدين تربويا إذ غرسا فيه تقوى الله والرجولة منذ السنين الأولى من عمره وما أحوجنا لتربية النشئ على أسس سليمة ولنفس هذا الغرض ما المانع إذن فى إنشاء معهد متخصص فى تدريس علم التربية والسلوك القويم من قرب من الله وعدل و أمانة وتوازن فى الشخصية وفضائل أخرى كثيرة ؟ .
وفى أحد تدريبات الفروسية تسابق نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبى وعند انطلاقهما كانت الشمس تظاهرهما وبالتالى كان ظلهما يسبقهما فطلب نور الدين من صلاح الدين أن يلحق بالظل وبدأ صلاح الدين يطلق العنان لفرسه محاولا الاقتراب من الظل دون جدوى وفى طريق العودة أصبحت الشمس أمامهما والظل خلفهما فطلب نور الدين من صلاح الدين ألا يجعل ظله يلحق به وأسرع صلاح الدين بفرسه تلبية لرغبة رفيقه وعند الفراغ من التدريب أوضح نور الدين غرضه من طلبه لصلاح الدين بملاحقة الظل ثم بالابتعاد عنه من خلال البيتين التاليين :
مثل الرزق الذى تطلبه مثل الظل الذى يمشى معك
أنت لا تدركه مستعجلا فإذا وليت عنه تبعك
فقد أراد نور الدين أن يبين لصلاح الدين أن الدنيا مثل الظل كلما تبعها ابن ادم فرت منه وجعلته يلهث وهذا للأسف حالنا بالفعل فمنا من ينشغل بالمال و منا من يكون همه الزوجة والأولاد ومنا من يسعى سعى الإبل وراء السلطة ومنا من يطمع فى كل ذلك وكل تلك الأشياء إنما تجهد الذى يتبعها دون أن تجعله يتحصل عليها أما عندما يجعل الفرد منا الدنيا وراء ظهره فتجدها هى تسعى إليه و تطلبه .
ورغم السنين الطويلة التى أمضاها نور الدين فى جهاده لتحرير فلسطين وبيت المقدس فلم تكن هذه أغلى أمانيه إنما كان يأمل من أعماق قلبه أن يرزقه الله الشهادة ولذلك فالسؤال المطروح لكل شاب وفتاة لكل رجل وسيدة يتعلق بتحديد أقصى أمانيهم فى الحياة وإذا كانت أقصى أمانى نور الدين هى الشهادة فإن نور الدين ميت ونحن أيضا ميتون وسنقف بين يدى رب العالمين كما سيقف نور الدين فما المانع إذن أن تتحول أمانينا الغالية إلى أمانى سامية المقصود بها وجه الله سبحانه وتعالى ؟ فهذه هى الأمانى الصالحة الوحيدة وكم كان يعيش نور الدين هذه الأمنية ويتمناها ليلا ونهارا حتى يقول ذات مرة للناس : " لقد تعرضت للشهادة غير مرة ولم يكرمنى رب العالمين بها ولو كان لى عند الله مكانة لنالتنى الشهادة " .
وإذا كان الشهادة من أغلى أمنيات نور الدين محمود الذى ظل يطلبها من الله عز وجل فذلك لتوضيح قيمة الرجل وكيف كان قدوة حسنة لصلاح الدين الأيوبى .
وحدث ذات مرة أن دخل رجل من الرعية على نور الدين وسط ديوانه وهو ينوى إبداء النصح إليه وكان ذلك الرجل هو أبو عثمان المنتخب فماذا عساه أن يقول للسلطان وسط حاشيته ؟ فهل يقول له مثلا " اخترناك " أم يقول " بالروح والدم " أو " أنت الأعز فينا " ؟ ، لا والله لم يقل شيئا من هذا القبيل إنما كان خطابه إلى نور الدين محمود ونصحه له من خلال أبيات شعر كسلاسل من ذهب :
مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلما فاحذر بأن تبقى وما لك نور
أنهيت عن شرب الخمور وأنت فى كأس المظالم طائش مخمور
وعطلت كأس المدان تعففا وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى فردا وجاءك منكر ونكير
ماذا تقول إذا وقفت بموقف فردا ذليلا والحساب عسير
تعلقت فيك الخصوم وأنت فى يوم الحساب مسلسل مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت فى ضيق القبور موسد مقبور
وددت أنك ما وليت ولاية يوما ولا قال الأنام أمير
وبقيت بعد العز رهن حفيرة فى عالم الموتى وأنت حقير
مهد لنفسك حجة تنجو بها يوم الميعاد ويوم تبدوا العور
وما أن سمع نور الدين تلك الأبيات حتى اشتد بكاؤه وبعد التمعن فى التفكير أدرك أن الأمور قد ثقلت على الرعايا فأوقف كافة أنواع الضرائب على فقراء المسلمين ومنع إقرار أية ضرائب جديدة فهكذا كانت هذه الأبيات سببا فى تجنب وقوع نور الدين محمود فى المظالم .
يا ترى ما وقع هذه الأبيات على كل منا ؟ ألا نشعر بعد سماعها بالحاجة إلى مراجعة النفس ؟ هل كل منا فى موقعه يتقبل بالفعل النصيحة التى تسدى إليه حتى لو جاءت على لسان شخص عادى غير ذى سلطة ؟ هل الإنشغال بالحياة الدنيا هو الغرض والهدف من الحياة نفسها ؟ أم أنها مجرد معبر إلى الآخرة وبالتالى فالأحرى تقييم ما أعده كل إنسان لآخرته وماذا يحدث لو أراد أى منا توجيه تلك الأبيات إلى أحد المسئولين فى موقع ما فماذا يكون رد فعله ؟ وإذا قيل له مثلا " اتق الله " فهل يراجع نفسه أم تأخذه العزة بالإثم ؟ ... إن مراجعة النفس هى التى جعلت نور الدين فى وضع مميز ووزن بين الناس وهى فى نفس الوقت صفة القائد الحقيقى الذى نحتاج إليه حاليا وصفة الجندى الذى يلزمنا لتحرير فلسطين وبيت المقدس .
هناك جانب آخر من حياة نور الدين محمود يحتاج إلى إلقاء الضوء عليه ألا وهو علاقته الإنسانية بزوجته وفى الواقع كانت تلك العلاقة بها قدر كبير من الإحترام المتبادل بين الزوجين وكذلك كان نور الدين يبدى تفهما كبيرا لوجهات نظر زوجته عصمة الدين خاتون حتى أنه كثيرا ما أخذ برأيها إذا ما نصحته فى أمر ما ووصفها ذات مرة بالقاضى الفاضل وكان قاضيا حكيما ووزيرا من الوزراء فابتسمت عصمة الدين خاتون و قالت لزوجها: " ولكنى أجمل منه " وهو إن دل على شئ فهو يدل على تميز نور الين فى تقبله لوجهات نظر الآخرين وعلى قيمته التى لم تقتصر على حسن التصرف فى ميدان القتال وإنما فى بيته فى المقام الأول .
وتسير بنا الحياة الزوجية لنور الدين محمود إلى تفصيل دقيق ورقيق فى نفس الوقت فأما دقته فهى ترجع إلى أن نور الدين لم يرزق بأطفال طيلة عشرين عاما وأما رقته تكمن فى أن علاقته بالله سبحانه وتعالى لم تتأثر بذلك على الإطلاق وكان الإنجاب بالنسبة لنور الدين يعد أمرا حيويا للغاية أكثر مما هو لأى شخص آخر فمن الطبيعى أن يرغب السلطان فى أن يكون له ولد يعتلى الأسرة النورية ويقود الأمة من بعده وبالتالى كان نور الدين محمود مفتقدا لذلك الولد ومع ذلك فلم يكن ذلك الأمر ليشغله عن الجهاد فى سبيل الله عز وجل وفى الواقع فإن الله تعالى أراد أن يختبر صبر نور الدين محمود و عصمة الدين خاتون فكانا عند محل نظر رب العالمين وقد ظلا الزوجان على قبولهما لقضاء الله وقدره لمدة عشرين عاما حتى ولد لهما إسماعيل وهو الابن الوحيد لنور الدين محمود .
وهذا الموقف يعزز ضرورة أن يتفكر الإنسان دائما فيما أنعم الله تبارك وتعالى عليه من نعم وأن يتدبر قيمتها وعندها سيزداد قربا من الله سبحانه و تعالى أما إذا شغل باله بما ينقصه من متع الدنيا الزائفة والزائلة فيدل ذلك على ضعف إيمانه لأن نعم الله العلى القدير سابغة إذ يقول رب العالمين : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ]النحل 16 : 18[ .
كان هذا جزءا من سيرة نور الين محمود المجاهد العابد الساجد القائد القريب من ربه المتمنى أن يفتح الله سبحانه وتعالى على يديه فلسطين وبيت المقدس وأن يرزقه الشهادة فى سبيله .
وبعد أن عرضنا للربانية التى اتسمت بها شخصية نور الدين محمود لا يسعنى إلا أن أستوقف كل منا أمام نفسه ليتساءل إذا كان محتاجا لإدخال تغييرات جذرية فى حياته أم لا وبناءا على ما جاء من تفصيل عن شخصية نور الدين محمود أجدنى شخصيا أتصاغر أمامها وإذا وجد أغلبنا أنه لا يفعل كل ما ينادى به فهذا ادعى بأن نقبل على إصلاح نفوسنا ولذلك أدعوكم إلى إجراء استبيان شخصى مكون من مجموعة من الأسئلة للإجابة عليها بنعم أو لا و الغرض هنا ليس معرفة أى منا لدقائق أمور شخص آخر ولكن الهدف من ذلك الاستبيان هو محاسبة النفس وليكن ذلك مثلا قبل الخلود إلى النوم فى نهاية اليوم وبعد الفراغ من كل ما يشغل المرء من أنشطة يومية وعند الإنتهاء من هذا الإستقراء فليحكم إذن كل واحد على نفسه من خلال النتيجة التى يكون قد توصل إليها هل هى سليمة أم أن هناك أمور سلبية تحتاج إلى تغيير .
وأول ما يسأل الإنسان نفسه عنه هو رضاها من عدمه عن علاقته بربه جل شأنه وهل هو يحاول دائما أن يحسن تلك العلاقة الأسمى والأهم منذ الميلاد وحتى الموت أم لا ؟ .
أما السؤال الثانى فهو يتعلق بالرضا أو عدمه عما قدم الشخص لحياته بعد تلك الفترة التى عاشها من عمره فهل لديه شعور بالرضا والسعادة بأسلوبه و سلوكه فى الحياة ؟ هل هو راض عن علاقته مع زوجته ؟ عن تربيته لأبنائه ؟ عن عمله ؟ أم أنه لم يصل إلى هذه المرحلة بعد ؟ .
والسؤال الثالث هو بخصوص تقبل الفرد للنقد الموجه له بصرف النظر عن الشخص الذى يوجه النقد .
أليس كل منا معرضا للخطأ ؟ وبالتالى يحق عليه تقبل النقد الموضوعى الصادر عن الآخرين تجاهه فهل فعلا الشخص يقبل نقد الاخرين له أم أنه من النوع الذى يجد صعوبة فى ذلك ؟ .
ورابعا يدور السؤال حول ما إذا كان الواحد منا لديه القدرة على استيعاب الاختلاف فى وجهات النظر أم لا ؟ وهل يتقبل المرء أن يكون من حوله فى المنزل أو العمل أو أى مجال آخر لهم أسلوب مختلف عن أسلوبه أم لا ؟ .
والسؤال الخامس هل اكتشف أحدنا فى وقت من الأوقات أن أكثر من شخص يوجهون إليه النقد بخصوص سمة بعينها من سمات شخصيته ؟ وإن حدث ذلك فهل يقتنع الفرد بتلك السلبية ؟ وهل يحاول فعلا التخلص منها أم لا ؟ .
وسادسا هل الهدف الرئيسى لكل منا فى حياته واضحة تماما له أم لا ؟ هل المحيط الدينى فى وقت من الأوقات يستحثه على أن يكون هدفه الفوز بالجنة ثم سرعان ما يتبدل هذا الهدف عند التواجد فى بيئة مختلفة فيصبح الهدف تربية الأولاد وتخريجهم من الجامعة أو السعى إلى السلطة ؟ .
وأخيرا هناك نوع من الحث يقدم فى صيغة سؤال معروفة إجابته مسبقا ويكمن فى رغبة الفرد أو عدمها فى أن يكون أكثر نجاحا فى الحياة فالإجابة المنطقية هنا إنما هى دعوة للتغيير للأفضل .
فالمطلوب إذن أن يجاوب كل منا على تلك الأسئلة حتى يمكن التوصل من خلال فصول الكتاب القادمة إلى القيمة المفترض الخروج بها من هذا الاستبيان .
هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك