تحدثنا في المقال السابق عن تاريخ كوسوفا حتى عام 1981م، وكيف بدأت المذابح الصربية في هذا العام عقابًا للمسلمين على قيامهم بثورة شعبية للمطالبة بالاستقلال .
ومع كل هذا القمع الشديد استمر المسلمون في المطالبة بحقوقهم إلى بداية انهيار الشيوعية، التي آذنت بتفكك (الاتحاد اليوغسلافي)، وراحت كل جمهورية من جمهورياته تأخذ طريقها نحو الاستقلال التام عن (يوغسلافيا) الفيدرالية، فتوقع المسلمون أنَّ أفول الظلام الماركسي، وظهور نظام جديد في أوروبا الشرقية سوف يسمح بالحريات لشعوب المنطقة، ويعطيها الحق في تقرير مصيرها .
وقد امتدَّ هذا حتى شمل جمهوريات (يوغسلافيا)؛ فأعلنت (البوسنة) استقلالها بعد (سلوفينينا) و(كرواتيا) وهنا قامت قيامة أعداء الله، فأعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، وصرَّحوا على الملأ بأنهم لن يسمحوا بقيام دولة إسلامية في أوروبا ثم حدث بعد ذلك ما حدث من الجرائم الوحشية والمذابح الجماعية التي ارتكبت في حق الشعب البوسني المسلم، والتي شهدها العالم بأسره، ولم يحرِّك لها ساكناً!! .
لقد كان ما جرى في البوسنة من مذابح دموية، واغتصابات بالجملة، وجرائم لم تعرف لها البشرية نظيرًا أو حتى شبيهًا مقدمة لما يجري تخطيطه لإقليم كوسوفا المسلم؛ فلقد بدأت الحكومة الصربية مرحلة جديدة من الاعتقالات والتعذيب، والاضطهاد فاقت سابقتها، وفي هذا الصدد ارتكب (الصرب) جرائم كبيرة ضد هذا الشعب المسلم، في ظل صمت مطبق من العالم الإسلامي!! .
من مذابح المسلمين
وظل (الصرب) يمارسون إجراءاتهم القمعية ضد المسلمين في (كوسوفا) طوال الفترة الماضية، ولم يكن أمام الشعب المسلم خيار إلا المقاومة والانتفاضة أمام التجاوزات والتضييق، وسياسة الإفقار والتجهيل الممارسة ضده من طرف (الصرب) المهيمنين على مقاليد البلاد .لقد بدأت الجرائم الصربية بالتصفيات الجسدية، وتدمير المساجد، والمنازل، واغتصاب المسلمات، وأخذت هذه الجرائم تتوالى على المسلمين؛ فتم إبعاد اللغة الألبانية عن كل تعامل رسمي، ومُنِعَتْ منعاً باتًّا في المدارس والجامعات، وطُرِدَ كل ألباني مسلم من وظيفته العمومية والمراكز الحساسة كالأمن والجيش، وقُتِلَ أكثر من (100) جندي مسلم خلال خدمتهم العسكرية في الجيش اليوغسلافي الصربي، وجرح أكثر من (600) آخرين في حالات اعتداءاتٍ متكررة استهدفت طرد المسلمين من الجيش لمنع المقاومة المسلحة ضد (الصرب) .
ومن هنا عمد مسلمو كوسوفا لأسلوب آخر، هو النَّيْل من المستوطنين الصرب، الذين جِيءَ بهم من (كرواتيا) و(البوسنة) و(صربيا) و(الجبل الأسود)، لتحقيق توازن ديمغرافي مع الألبان في (كوسوفا)؛ ففي عام 1988م تظاهر نحو (6 آلاف) من المستوطنين الصرب ضد ما وصفوه بالمضايقات الألبانية. ولم يتأخر ردُّ ديكتاتور (صربيا) الجديد آنذاك المجرم العتيد (سلوبودان ميلوسيفيتش)، فأعلن في سنة (1989م) إلغاء الحكم الذاتي لـ(كوسوفا)، مُظهرًا وجهًا قوميًّا عنصريًّا سافرًا، ومُعلنًا حمايته للصرب .
وقد كان خطاب (ميلوسيفيتش) نقطة تحول، ليس على مستوى الأوضاع في (كوسوفا) فحسب، بل على مستوى (يوغوسلافيا) السابقة برمتها، وكان قرار إلغاء الحكم الذاتي في (كوسوفا) بمثابة إلغاء لـ(يوغوسلافيا) السابقة، وإعادة ترسيم الخريطة الجغرافية للبلقان بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار (الاتحاد السوفيتي)، وظهور ما سُمِّيَ في ذلك الوقت بالنظام العالمي الجديد .
بعد ذلك تطورت الأوضاع وظهرت حركات تطالب بالاستقلال التام عن (يوغوسلافيا)، في كُلٍّ من (كرواتيا) و(سلوفينيا) و(مقدونيا) و(البوسنة) و(كوسوفا)، وجرت مصادمات جديدة بين الصرب والألبان في سنة (1990م) وأعلنت (كرواتيا) و(سلوفينيا) الاستقلال عن يوغوسلافيا، وطالبت ألبانيا باستقلال كوسوفا .
ولكن الإجرام الصربي بلغ أشده سنة (1990م) عندما قامت السلطات الصربية بوضع السُّمِّ القاتل في خزانات مياه المدارس بمدن (كوسوفا)، فتسمَّم منها أكثر من سبعة آلاف طفلٍ من أطفال المسلمين، وكانت الحادثة من أبشع الجرائم التي ارتكبها الحقد الصليبي الصربي ضد أطفال المسلمين .
وفي الوقت نفسه أغلقت القوات الصربية جميع المدارس الابتدائية والثانوية الألبانية، وأتبعتها بجامعة (بريشتينا) الألبانية، وقامت بطرد جميع طلابها، كما أغلقت المكتبات المركزية في جميع مناطق (كوسوفا)، وصادرت الكتب العلمية النادرة، ونقلتها بواسطة الشاحنات العسكرية إلى مصانع الورق، لإعادة تصنيعها ورقًا عاديًّا!! .
وسط كل هذا برز اسم الزعيم الكوسوفي إبراهيم روجوفا رئيسًا لاتحاد الكتاب الألبان عندما أعلن (ميلوسيفيتش) إلغاء الحكم الذاتي في (كوسوفا)، وفي (1990م) طالب روجوفا بإعادة الحكم الذاتي لـ(كوسوفا)، وأعلن عن تشكيل حزب الرابطة الديمقراطية .
روجوفا
قام الشعب الكوسوفي المسلم بإجراء استفتاء عام حول استقلال الإقليم في سبتمبر 1991م؛ حيث صوَّت لصالح الاستقلال 99% ممن شارك به، وبناء على الاستفتاء انتُخِبَ روجوفا في (1992م) من قِبَلِ شعبه رئيسًا لجمهورية (كوسوفا) التي لم تعترف بها (بلغراد)، وتصاعد الغليان في (كوسوفا) باعتقال عشرات الألبان .
كان روجوفا يعتمد أسلوب الكفاح السلمي في مواجهة الصرب، ولكن هذا الأسلوب أثبت فشله في إنقاذ ألبان كوسوفا، أو حمايتهم؛ مما حدا بالشعب المسلم في (كوسوفا) بالاتجاه إلى العمل المسلح للدفاع عن هويتهم، فتم إنشاء جيش تحرير (كوسوفا)، وهو جيش عسكري يجمع الوطنيين القوميين من أبناء الإقليم، وهو ليس وحده الذي يعمل في ساحة المقاومة، بل هناك حركة الجهاد الإسلامي، وهي حركة إسلامية نشطة أسسها مجموعة من الشباب المسلم الذي تخرج في الجامعات الإسلامية، وشارك بعضهم في الجهاد المسلح ضد (الصرب) في (البوسنة)، وقد قاموا - إلى جانب القيام بأعباء المقاومة المسلحة - بنشاط دعوي وتربوي وتعليمي واسع للحفاظ على هوية الشعب المسلم، وإعداد الشباب المسلم إعدادًا متكاملاً للمشاركة في مقاومة العدوان الصربي الصليبي على بلادهم، وهذه المجموعة المجاهدة انطلقت في جهادها ودعوتها وتعليمها من منهج السُّنَّة الصافي، وواجهت تعتيمًا إعلاميًّا متعمَّدًا؛ لكي لا ينجذب الشباب الكوسوفي إليهم .
في هذا الوقت تم التوصل إلى (اتفاقية دايتون) بين المسلمين في البوسنة والهرسك، وأعدائهم الصرب والكروات في قاعدة دايتون العسكرية بولاية (أوهايو) الأمريكية في (21 من نوفمبر 1995م)، وتوقيعها بضمانات دولية في (14 ديسمبر) من نفس العام في (باريس)؛ مما شجَّع الألبان على المطالبة بالاستقلال .
ولكن صربيا عارضت هذه الاتفاقية؛ لأنها لا ترغب في استقلال كوسوفو الذي يقضي على حلم التوسع الصربي؛ ما دفع بحركة الجهاد الإسلامي الكوسوفية، وجيش تحرير كوسوفو إلى شنِّ حرب عصابات ضد الجيش وقوات الشرطة الصربية المتواجدة في كوسوفو عام 1998/ 1999م، وهو ما ردت عليه صربيا بحملات إبادة شديدة في المناطق التي تنطلق منها الحركتان، ومن ثَمَّ وجدت أمريكا وأوربا الفصة سانحةً للتدخل عسكريًّا ضد صربيا بزعم القضاء على هذه الحملات بعد أن فشلت جهود التفاوض السلمى التى كان آخرها مفاوضات "رامبوييه" مطلع عام 1999م نتيجة لتعنت الجانب الصربي في مقابل قبول ألبان كوسوفو للشروط الدولية لحل هذا النزاع، ولكن الهدف الحقيقي للتدخل الأمريكي الأوربي كان التدخل في البلقان لمنع قيام دولة مسلمة حرة في أوربا على غرار ما نفذته الولايات المتحدة في البوسنة، بالإضافة إلى ذلك كان إضعاف الحليف الرئيسي لروسيا في منطقة البلقان، والقضاء على آخر رمز لقوة الروس في أوربا من الأهداف الرئيسية أيضًا؛ إذ إن هذه الضربات لم تكن بالقوة التي تقضي على الصرب، وإنما وضعت قدمًا لأمريكا وحلف شمال الأطلنطي في كوسوفا؛ لكي تتحكم منه دفة الأمور .
وهو ما تحقق بالضربات الجوية من حلف الناتو لصربيا في مارس 1999 إلى أن دخلت القوات البرية لحلف الناتو إقليم كوسوفو في 9 يونيو 1999م، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ كوسوفا لا يكون الحكم فيها للطرف الصربي أو للجانب الألباني وإنما لإدارة مدنية دولية مؤقتة تابعة للأمم المتحدة .
هذه المقالة للدكتور راغب السرجاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك