الخميس، 30 أكتوبر 2008

تاريخ الأندلس ( 4 )

في المقالة السابقة تحدثنا عن موقعة بلاط الشهداء وكيف انهزم المسلمون فيها وقمنا بتحليل هذه الموقعة وقبل أن ندخل في تفاصيل ما حدث بعد هذه الموقعة سنقوم بالإجابة على بعض الأسئلة التي جاءت عن الأندلس وكانت :

السؤال الأول : لماذا لم يثُر أهل الأندلس على الجيش الإسلامي الذي كان موجود في الأندلس وقوامه حوالي أربعة وعشرين ألفا فقط وهو لا يقارن بالنسبة لعدد السكان الأصليين في الأندلس ؟ .

والإجابة على هذا السؤال أنه من العجب أن يثوروا وليس من العجب ألا يثوروا فقد كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون في ذل عميق وفي ضنك شديد فتنهب أموالهم ولا يتكلمون وتنتهك أعراضهم فلا يتكلمون ويتنعم حكامهم بالقصور والثروات وهم لا يجدون ما يسدون به الرمق ويباعون ويشترون مع الأرض التي زرعوها بكدهم وأكل غيرهم ثمارها فإذا جاءهم أحد يقول لهم إنني سأبدل لكم من ظلمك هذا بعدل ويكون حق لكم ولا فرق بين حاكم ومحكوم فإذا كان لك مظلمة فإن القاضي سيحكم ولا يفرق بين مسلم ويهودي ونصراني فالكل عنده سواء وعندما تجد دينا لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر مالهم أو سلطانهم وإنما يقدر أعمالهم والأعمال مفتوحة للجميع .

فعندما تجد حاكما يقول لك سأرفع عنك كل الضرائب ولن تدفع إلا زكاة إن كنت من المسلمين وهي 2.5 في المائة كل عام هذا إن كنت غنيا أما إن كنت فقيرا معدما فإنك لن تدفع شيئا بل ستأخذ من بيت مال المسلمين .

فالإسلام كان خلاصا للشعوب فالناس في بلاد الأندلس لما رأت الإسلام تمسكت به واعتنقته اعتناقا ولم ترض عنه بديلا فكيف يضحي شعب الأندلس بنعيم الإسلام .

وقد يقول قائل هل من المعقول أن يكون أهل الأندلس جميعا قد أعجبوا بهذا الدين ودخلوا في الإسلام راغبين ولم يوجد فيهم رجلا واحدا يثور ويعترض ؟ .

نعم كان هناك كثير من الرجال أصحاب المصالح الذين كان لهم كثير من الأعوان يريدون أن يثورا على حكم الإسلام ويحققوا المصالح السابقة التي كانت لهم فلماذا لم يثر هؤلاء القوم ؟ .

فالجواب عند الله عز وجل حيث يقول { لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} (13) سورة الحشر .

فالمؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود وفي قلوب المشركين بصفة عامة فالمؤمن يلقي الله عليه جلالا فيخافه القريب والبعيد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) . متفق عليه . ويقول سبحانه وتعالى { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (2) سورة الحشر .

فهذا الرعب لم يكن ناتجا عن بشاعة في الحرب ولا إجرام منقطع النظير ولكنها هبة ربانية لجند الله عز وجل .

ولم تكن حرب الإسلام إلا رحمة للناس فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم لما كان يودع الجيوش في حديث مسلم عن بريدة عن أبيه رضي الله عنه وأرضاه يقول ( اغزوا بسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ) وفي رواية ( ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ) .

فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين ؟ فأين هذا من قتل مائتي ألف رجل من المدنين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وأين هذا مما حدث للمسلمين في الشيشان وفي الهند وفي فلسطين والعراق فقد كانت حرب المسلمين رحمة للناس .

ولذلك اعتنق الناس الإسلام اعتناقا ومن لم يدخل في دين الله من اليهود والنصارى سعدوا بهذا الدين أيضا فإن الله يقول { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة .

فتركت لهم كنائسهم وكان لهم قضاء خاص بهم ولم يفرق بين مسلم ونصراني أو يهودي في مظلمة فلما يثورون ؟ .

السؤال الثاني : كيف يقع الجيش الإسلامي في أخطاء في غزوة بلاط الشهداء في سنة 114هـ وكيف يهتم بالغنائم ويترك المعركة وكيف تظهر العنصرية والقبلية بين المسلمين وهذا الجيل هو تابع التابعين والذي هو قريب جدا من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .

هذا الأمر حدث أيضا في عام ثلاثة من الهجرة وذلك في غزوة أحد فانظر إلى قول الله عز وجل { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (152) سورة آل عمران .

فهذه الآية نزلت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد , ألم يترك الرماة مواقعهم في جبل أحد طلبا للغنيمة ؟ نزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا للغنيمة وهكذا قال عنهم الله عز وجل في كتابه الكريم حتى إن عبد الله بن مسعود كان يقول ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت الآية { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . ويقول ابن كثير في معنى ولقد عفا عنكم أي لم يستأصلكم وأعطاكم الفرصة لتقوموا من جديد .

فهزم المسلمون بعد النصر وهكذا في معركة بلاط الشهداء ففي أول ثلاثة أيام كان النصر حليفا للمسلمين ثم انقلبت الآية لما التف النصارى حول غنائم المسلمين وأخذوها فحدث الانكسار في جيش المسلمين ثم هزموا ثم عاد وانسحب ليقوم المسلمين من جديد .

وكأن بلاط الشهداء هي غزوة أحد بل انظر إلى غزوة بدر التي اختلف فيها المسلمون على الغنائم حتى إن سورة الأنفال التي كانت تعظم من هذا النصر بدأت بقوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (1) سورة الأنفال .

فهذه الآية كانت شديدة على الصحابة رضي الله عنهم ولكن هذا شيء أصيل في النفس البشرية .

ولما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حدث الفرار والهزيمة وكذلك الحال لما قُتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون من غزوة بلاط الشهداء فالتكرار في التاريخ كثير جدا وعلى المسلمين أن يتعظوا منه .

أما عن مسألة القومية والعنصرية التي ظهرت في جيل التابعين وتابعي التابعين في جيل معركة بلاط الشهداء فهذه العنصرية والقبلية ظهرت أيضا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال أبو ذر لبلال رضي الله عنهما عندما غضبا من بعضهما البعض فقال أبو ذر لبلال ( يا ابن السوداء ) فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية ) .

ولننظر لاستجابة أبي ذر لهذا الأمر فقد وضع وجهه على التراب وأصر أن يضع بلال رضي الله عنه قدمه على وجهه حتى يكفر عن ذنبه ولكن بلال رضي الله عنه لم يفعل .

أيضا لما كان الصحابة في غزوة ما فكسع ( ضرب ) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى جاهلية) قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: ( دعوها فإنها منتنة ) . رواه البخاري وغيره .

وانظر إلى القبلية التي حدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنة بني حنيفة واجتماع الناس حول مسيلمة الكذاب ورجل من جُند مسيلمة سئل أتعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق وأن مسيلمة كاذب فقال والله أعلم أن محمدا صادق وأن مسيلمة كاذب ولكن كاذب بني ربيعةأحب إلي من صادق وهكذا كانت القبيلة ولو لمس الإيمان قلبه ما قال هكذا .

وبعد عودة الجيش الإسلامي من معركة بلاط الشهداء قامت للمسلمين قائمة جديدة فقد قام فيهم رجل وهو عقبة بن الحجاج الذي تولى الولاية من سنة 116 هـ إلى سنة 123هـ وكان هذا الرجل آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول .

فهذا الرجل خُيّر بين إمارة شمال أفريقيا كلها وبين الأندلس فاختار الأندلس لأنها أرض جهاد وهي الملاصقة لبلاد النصارى فهذا الرجل كان يقوم بحملات في بلاد فرنسا فقد قاد أكثر من سبع حملات في بلاد فرنسا ثم كان ينزل إلى الأسرى بنفسه ويعلمهم الإسلام حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ( رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) . متفق عليه . فما بالكم بألفي رجل ؟ .

ثم استشهد في سنة 123 هـ وباستشهاده انتهى عهد الولاة الأول وفي النصف الثاني من عهد الولاة من سنة 123 هـ إلى سنة 138 هـ يبدأ عهد جديد .

بذور هذا العهد بدأت في موقعة بلاط الشهداء من حب للغنائم ومن تفضيل للعنصرية والقبلية وفي أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة جدا والغنائم ضخمة جدا وفتحت الدنيا على المسلمين وكثرت الأموال ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) . متفق عليه .

وهكذا فتحت زهرة الدنيا على المسلمين فانخرطوا فيها وتأثر الإيمان وتبعا لتأثر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة جدا وحدثت انقسامات كبيرة جدا في الأندلس فحدثت بين العرب والبربر ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسهم فحدثت انقسامات بين المضريين والحجازيين وحدثت انقسامات بين العدنانيين ( أهل الحجاز ) والقحطانيين ( أهل اليمن ) ثم حدثت انقسامات أخرى بين أهل الحجاز أنفسهم بين السهريين وبين الأمويين وبين بني قيس وبين بني ساعدة وهكذا انقسم أهل الحجاز وكخطوة لاحقة لهذا هو تولي ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط .

ظهر على سبيل المثال رجل يسمى عبد الملك بن قَطَم فهذا الرجل ملأ الأرض ظلما فقسم الناس بحسب العنصرية وبحسب القبلية وأذاق الآخرين ألوانا من العذاب ولم يعطي من الغنائم للبربر ولم يعطي لغير المضريين فانقسم الناس عليه وانقلبوا .

تولى من بعد هذا الرجل يوسف عبد الرحمن الفهري وهذا الرجل تولى الحكم من سنة 130 هـ إلى سنة 138 هـ أي آخر ثمان سنوات في عهد الولاة وهذا الرجل لما تولى الحكم انفصل بالكلية عن الخلافة الأموية وادعى أن إمارة الأندلس إمارة مستقلة وأيضا أذاق الناس العذاب ألوانا .

حدثت انكسارات وثورات عديدة في بلاد الأندلس وتفككت إلى أكثر من عشرين إلى ثلاثين ثورة في داخل بلاد الأندلس وكرد فعل طبيعي جدا ترك الناس الجهاد وتوقفت الفتوحات في فرنسا وتوقفت الحروب في منطقة الشمال الغربي في منطقة الصخرة التي كان فيها مجموعة من النصارى متمركزين فيها منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس وكقاعدة من قواعد الله عز وجل وسنة من سننه ( ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا ) فانظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود .

ويمكن تلخيص ما حدث في نهاية هذا العهد كما يلي :

أولا :
فقدت جميع الأراضي الإسلامية في فرنسا ما عدا مقاطعة سِتمانيا والتي فتحها موسى بن نصير بأحد السرايا .

ثانيا :
ظهرت مملكة نصرانية اسمها مملكة لِيُون في الشمال الغربي من الأندلس .

ثالثا:
أعلن يوسف بن عبد الرحمن الفهري انفصال الأندلس عن الخلافة العباسية القائمة في ذلك الوقت .

رابعا:
انقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة وكلٌ يريد التملك والتقسيم بحسب العنصر والقبيلة .

خامسا:
ظهر فكر للخوارج الذين جاءوا من الشام وانضم إليهم البربر وقد كانوا يعانون من ظلم شديد من يوسف بن عبد الرحمن الفهري وعنصرية بين العرب والبربر فاضطروا إلى الانتماء لهذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح .

فأجمع المؤرخون أن الإسلام بالفعل كاد أن ينتهي من الأندلس وذلك في عام 138 هـ وزاد من خطورة الموقف الحدث الإسلامي الخطير وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية التي كان قيامها قياما دمويا رهيبا وانشغل العباسيون بحرب الأمويين وضاعت قضية الأندلس تماما من الأذهان وهكذا أصبح حال الأندلس يحتاج إلى معجزة حتى ينصلح الحال .

ومن فضل الله عز وجل وكرمه أن حدثت المعجزة في ذي الحجة من سنة 138 هـ وكانت هذه المعجزة هي دخول رجل واحد للأندلس رجل واحد فقط واسمه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رحمه الله ترى ما هي قصة دخوله الأندلس ؟ .

ففي سنة 132هـ حدث سقوط لخلافة بني أمية وحدث قتل لكل المرشحين للخلافة أي كل الأمراء وكل أبناء الأمراء وكل أحفاد الأمراء فجميعهم قتلوا من قبل العباسيين إلا قليلا ومن هؤلاء القليل هو عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك وعبد الرحمن كان عمره في هذا الوقت 19 سنة فقط وكان يعيش في منطقة العراق وكان له أخ صغير عمره 13 سنة واسمه الوليد بن معاوية وكان عبد الرحمن مطلوب الرأي وكذلك أخوه .

وفي يوم من الأيام يجلس عبد الرحمن بن معاوية في بيته في العراق فدخل عليه ابنه الذي كان عمره أربع سنوات دخل يبكي فزعا وكان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد مريض ومعتزل في الظلام في غرفة داخل البيت فأبعد الطفل عنه وأخذ يسكنه فلم يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال ولكنه ظل فزعا مرعوبا فقام معه عبد الرحمن بن معاوية ووجد في خارج البيت الرايات السود وهي رايات الدولة العباسية تعم القرية جميعا فعلم أنه مطلوب فوضع يده على النقود وأخذها وترك أهله وانصرف .

فأخذ معه النقود وأخذ معه أخوه الوليد بن معاوية وترك النساء وترك الأطفال وترك كل شيء لأن العباسيين لم يكونوا يقتلوا نساء أو أطفالا ولكن يقتلوا كل من بلغ وكان مؤهلا للخلافة ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية هو وأخوه حتى وصل إلى نهر الفرات وهناك وجدوا القوات العباسية تحاصر النهر فألقيا بأنفسهما في النهر وأخذا يسبحان ثم من بعيد ناداهما العباسيون أن ارجعا ولكم الأمان فالوليد بن معاوية كان قد تعب من السباحة فعاد وقال له عبد الرحمن بن معاوية ( إن عدت يا أخي يقتلوك ) فقال له أخوه ( قد أعطونا الأمان ) فعاد سابحا راجعا إلى النهر فأمسك به العباسيون وقتلوه أمام أخيه عبد الرحمن بن معاوية وعبر النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من الحزن ثم اتجه للمغرب فلماذا المغرب وبلاد القيروان ؟ .

ذلك بأن أخوال عبد الرحمن بن معاوية كانوا من البربر فقد كانت أمه من قبيلة من قبائل البربر فهرب إلى البربر في قصة هروب طويلة جدا عبر فيها بلاد الحجاز ثم مصر ثم ليبيا ثم القيروان ولما وصل للقيروان وهو يبلغ من العمر 19 عاما فقط وجد هناك ثورة كبيرة جدا للخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب وذلك في الشمال الأفريقي كله وقد استقل بالشمال الأفريقي عن الدولة العباسية التي قامت في سنة 132 هـ وكان عبد الرحمن بن حبيب أيضا يسعى للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية .

فأصل هذا أنه هناك كراهية شديدة جدا بين الخوارج وبين الأمويين فإن أصل ظهور الخوارج خلاف بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سيفيان رضي الله عنهم أجمعين وظهور الخوارج لأن علي بن أبي طالب ارتضى أن يحكم كتاب الله سبحانه وتعالى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين المشهورة فظهر فكر الخوارج من ساعتها .

فالخوارج يكرهون بني أمية بشدة فبمجرد أن وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه فهرب من جديد إلى برقة في ليبيا ومكث هناك أربع سنوات كاملة مختبئا عند بعض أخواله هناك حتى سنة 136 هـ وكان عنده من العمر 23 سنة وجلس يفكر .

ماذا أفعل ؟ هل أختفي طول العمر ؟ أم يعود للظهور من جديد ؟ فإنه إن ظهر في الشمال الأفريقي قتله عبد الرحمن بن حبيب وإن ظهر في بلاد المشرق في الشام قتله العباسيون أيظل هكذا بلا حراك والأمويين يقتلون إذا عرف مكانهم أم يعيد للأمويين مجدهم من جديد فظهر في فكره خاطر وهو أن يذهب للأندلس وهي أصلح الأماكن لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية ولكن لماذا الأندلس ؟ .

أولا:

الأندلس هي أبعد رقعة في بلاد المسلمين .

ثانيا:
الأندلس يفصل بينها وبين العباسيين بحر وهو مضيف جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط فمن الصعب أن يصل إليها العباسيون إلا بعد فترة من الزمان .

ثالثا:
أن الوضع في الأندلس ملتهب جدا فهي الآن في حالة ثورات وانقسامات والناس تكره بشده يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي يحكم هذه البلاد ويستقل بها عن الدولة الأموية ثم الدولة العباسية ثم ظهرت مملكة ليون في الشمال وهي أيضا تحارب المسلمين ثم ظهر الخوارج في الشمال الأفريقي وهم يحاربون الأندلس .

فلو كانت الأندلس تبايع العباسيين ما استطاع أن يدخلها ولو كانت تبايع الخوارج ما استطاع أن يدخلها ولهذا فهي أنسب أراضي المسلمين له .

فبدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس فماذا يفعل ؟ .

أولا:
أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس .

ثانيا:
راسل كل محبي الدولة الأموية في بلاد الأندلس بعد أن علمهم من مولاه بدر والحق إن كثيرا من المسلمين كانوا يحبون بني أمية مما وجدوه فيهم من سخاء وكرم وحسن معاملة للناس والسياسة والجهاد في سبيل الله .

ثالثا:
راسل عبد الرحمن بن معاوية البربر ويطلب معونتهم ويطلب مساعدتهم والبربر على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري لأنه من الأصل فرق بين العرب والبربر فالبربر يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية .

رابعا:
بدأ يراسل كل الأمويين في الأرض فكل ما يعرف أن هناك أمويا موجودا في مصر أو في السودان أو في الحجاز يراسلهم ويعرض عليهم فكرته وأنه يعزم على دخول بلاد الأندلس وبدأ يجمع الأفكار ويجمع الناس لينفذ فكرة عجيبة جدا وهي أن يدخل الأندلس بمفرده وحيدا .

وبالفعل يبدأ في تجميع الأعوان إلى سنة 138 هـ وفي هذه السنة يأتي له رسول من عند مولاه بدر من الأندلس يقول له إن الوضع قد تجهز لاستقبالك في بلاد الأندلس فيقول له ما اسمك فيقول اسمي غالب التميمي فيقول عبد الرحمن بن معاوية ( الحمد لله غلبنا وتم أمرنا ) فبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي تأخذه منفردا إلى بلاد الأندلس .
نزل عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله إلى ساحل الأندلس واستقبله مولاه بدر واتجها إلى قرطبة وكان يوسف بن عبد الرحمن الفهري كالعادة يقمع ثورة هنا وثورة هناك وأذكركم بقول المؤرخين بأن الإسلام كاد ينتهي من الأندلس في سنة 138 هـ .

بدأ عبد الرحمن بن معاوية في تجميع الناس من حوله والمحبين للدولة الأموية مثل البربر والأمويين الذين كانوا في بقاع الأرض المختلفة ومع ذلك لم يكن العدد كافيا ليغير الأوضاع .

فكر عبد الرحمن بن معاوية في اليمنيين ذلك لأن اليمنيين أيضا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري فهو من مضر من الحجاز وعبد الرحمن بن معاوية أيضا من مضر من بني أمية ومع ذلك بدأ يراسل اليمنيين فاليمنيين على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن ولكنهم ليسوا على وفاق مع بني أمية ولكن اليمنيين ليست لهم طاقة بيوسف بن عبد الرحمن الفهري فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية وكان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت رجل يسمى أبو الصُبَاح اليحصبي وكان المقر الرئيسي لهم أشبيلية وكانت مدينة كبيرة جدا فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى أشبيلية واجتمع طويلا مع أبو الصباح واتفقا على أن يقاتلا سويا ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري .

قبل أن يقاتل عبد الرحمن بن معاوية والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسالة للوالي يطلب فيها وده ويطلب منه أن يسلم له الإمارة فيقول له أنه عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن معاوية ويريد منه أن يسلمه الإمارة ويكون رجلا من رجاله في الأندلس .

رفض يوسف بن عبد الرحمن الفهري هذا وجهز الجيش لقتال عبد الرحمن بن معاوية واجتمع عبد الرحمن بن معاوية هو واليمنيون ومن معه من القبائل المختلفة في حرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري وذلك في معركة تاريخية عرفت باسم المَسَارة وفي لفظ بموقعة المصارة وكانت في ذي الحجة سنة 138هـ .

طبعا من المؤسف جدا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم ولكن كثرة الفتن والانقلابات جعلت من الحل العسكري هو الحل الوحيد والحتمي في ذلك الوقت .

جيش يوسف بن عبد الرحمن كبير جدا أما جيش عبد الرحمن بن معاوية فيعتمد في الأساس على اليمنيين وأبو الصباح اليحصبي سمع بعض المقالات من اليمنيين تقول إن هذا الرجل وهو عبد الرحمن بن معاوية غريب على البلاد ثم إنه يملك فرس أشهب وفرس عظيم وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للفهريين فماذا نفعل ؟ .

وصل هذا الأمر لعبد الرحمن بن معاوية وهذه بوادر انقسام في جيشه فانظر إلى ذكائه وعمره الآن 25 سنة .

ذهب بنفسه إلى أبو الصباح اليحصبي وقال له ( إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني من الرمي فإن أردت أن تأخذه وتعطيني بغلتك فعلت ) فأعطى الجواد السريع إلى أبو الصباح وأخذ البغلة يقاتل عليها فقال اليمنيون هذا مسلك رجل لا يريد الهرب بل يريد البقاء يريد الموت في ساحة المعركة فبقي معه اليمنيون وقاتلوا قتالا شديد ودارت موقعة عظيمة جدا وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ومن معه وهزم يوسف بن عبد الرحمن الفهري بجيشه الكبير وفر يوسف بن عبد الرحمن الفهري وكعادة الناس في هذا الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم ويقضوا على الثورة فبدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار لكن عبد الرحمن بن معاوية يقف لهم ويمنعهم من تتبع الجيش الفار ويقول قولا عظيما ( لا تتبعوهم اتركوهم لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقهم واستبْقُوهم لأشد عداوة منهم ) ترى يستبقوهم لمن ؟ يستبقوهم للنصارى فهو يفكر أن الموقعة الرئيسية ستكون مع النصارى أما هؤلاء الذين قاتلونا فيوم من الأيام سيصبحون من جنودنا وسيصبحون أعواننا على المشركين في ليون وفي فرنسا وما إلى ذلك .

فهذا رجل ليس في قلبه حقد ولا غل لمن كان يريد أن يقتله من دقائق معدودة وعنده فهم للعدو الحقيقي وهو النصارى في الشمال ثم إنه إن جاز له أن يقاتل بعض المسلمين لتوحيد الناس تحت راية واحدة فلا يجوز له شرعا أن يتتبعهم وأن يقتل الفار منهم ولا يجوز له شرعا أن يجهز على الجريح منهم ولا يجوز له شرعا أن يقتل أسيرهم وذلك لأنهم لهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكم المشركين .

بعد انتهاء موقعة المسارة قام أبو الصباح في قومه اليمنيين وقال ( الآن وقد انتصرنا على يوسف بن عبد الرحمن الفهري وجاء وقت النصر على غيره ) يُعَرِض بعبد الرحمن بن معاوية الذي قاتل معه منذ ساعات قليلة وانتصر معه على يوسف بن عبد الرحمن الفهري فهو يقول هذا ! .

ولكن اليمنيين لم يوافقوه على قتل عبد الرحمن بن معاوية وتصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية فماذا يفعل ؟ .

أسرها في نفسه ولم يبدها له ولم يعلن لهم أنهم يفكرون في قتله ولكنه أصبح على حذر شديد من أبو الصباح فهو لا يريد أن يحدث خللا في الصف في هذه الأوقات .

والعجيب أنه بعد 11 سنة استطاع عبد الرحمن بن معاوية أن يعزل أبو الصباح من مكانه ولكن في هذه الأوقات والثورات كثيرة في البلاد لا يريد أن يحدث معارك داخلية داخل البلاد فهمه الأول توحيد البلاد ثم حرب النصارى بعد ذلك .

بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والسيطرة على الجنوب الأندلسي كله لُقِب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل الأندلس من الأمويين حاكما .

ومنذ أن استلم عبد الرحمن بن معاوية بلاد الأندلس عرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية والتي تبدأ من سنة 138 هـ وسميت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية .

بدأ عبد الرحمن الداخل في تنظيم الأمور عندما حكم الجنوب الأندلسي فقد كانت هناك ثورات كثيرة جدا في أرض الأندلس وفي أماكن كثيرة جدا ومتعددة سواء في الشرق أو في الغرب أو في الشمال فأخذ في صبر شديد في مراوغة هذه الثورات فهو يستميل بعض القلوب ويحارب الآخرين فقد قامت عليه في فترة حكمه 25 ثورة وهو يقمع هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى بنجاح عجيب بدأ من سنة 138 هـ إلى سنة 172هـ أي حوالي 34 سنة متصلة ولكنه ترك الأندلس وهي في أقوى فترة من فترات الأندلس بصفة عامة .

سنقف على أحد هذه الثورات والتي حدثت سنة 146 هـ وقام بها رجل اسمه العلاء بن مغيث الحضرمي وهذا الرجل راسله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية .

وقام العلاء بن مغيث بعمل ثورة في بلاد الأندلس وينادي بدعوى العباسيين ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور .

دارت معركة بين العلاء بن مغيث وعبد الرحمن بن معاوية وانتصر عبد الرحمن بن معاوية على العلاء بن مغيث ووصلت هذه الأخبار إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور وعلم أن العلاء قد قتل وأن عبد الرحمن بن معاوية انتصر عليه انتصارا ساحقا وقال أبو جعفر المنصور ( قتلنا هذا البائس - يقصد العلاء بن مغيث - ثم قال مالنا من هذا الفتى من مطمح - يقصد عبد الرحمن بن معاوية - الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر ) .

ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر أبدا في استعادة بلاد الأندلس بل إن أبو جعفر المنصور هو الذي سمى عبد الرحمن بن معاوية بصقر قريش.

ووقفة مع موقف عبد الرحمن بن معاوية من الدولة العباسية وكيف لهذا الرجل الورع التقي أن ينفصل هكذا عن الخلافة الإسلامية تعالوا معنا لنحلل ما حدث ؟ .

الدولة العباسية أخطأت خطأ فاحشا في حق الأمويين وذلك بقتلهم وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية وإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال فليكن هذا الاستبدال ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان من المفترض أن تحتوي الدولة العباسية هذه الطاقات الأموية وتوظفها لخدمة الإسلام والمسلمين وكان من المفروض ألا تفرط في قتل المسلمين من بني أمية وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) قال الترمذي حديث حسن صحيح وصححه الألباني .

فما المانع أن تقيم الحد على من يستحق أن يقتل من بني أمية ثم تترك الآخرين وما المانع أن تعطي بني أمية بعضا من الملك حتى يستوعبهم العباسيين وبالنظر لقول عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المسارة حينما قال ( اتركوهم ولا تتبعوهم ) لأنه كان يريد أن يضم هؤلاء الفارين إلى جيشه وكان من الواجب أن يفعل هذا العباسيين مع الأمويين .

لو كان يعلم عبد الرحمن بن معاوية أنه إذا سلم الأندلس للعلاء بن مغيث الحضرمي سيعفى عنه ويعطى إمارة الأندلس أو أي إمارة أخرى تحت لواء الدولة العباسية لفعل ولكنه يعلم أنه لو قبض عليه لقُتل في الحال .

وكان هذا موقف عبد الرحمن الداخل من الخلافة العباسية وكان هذا موقفه من الثائرين ولكن ما هو موقفه من بلاد الأندلس وكيف غير من الأوضاع في بلاد الأندلس بعد التفكك الشديد الذي حدث فيها في آخر عهد الولاة ثم كيف كان موقفه مع بلاد النصارى في الشمال سواء مملكة ليون أو بلاد فرنسا فهذا سنتحدث عنه في المقالة القادمة إن شاء الله .

هذا تلخيص لأحد دروس الشيخ راغب السرجاني عن الأندلس

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك