الخميس، 30 أكتوبر 2008

تاريخ الأندلس ( 7 )

في المقالة السابقة توقفنا عند آخر عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله وذكرنا الفترة العظيمة جدا التي مرت في تاريخ الأندلس من سنة 300 منذ ولاية عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى سنة 366 هـ بنهاية حكم الحكم بن عبد الرحمن الناصر ومع أنه كان من أفضل حكام المسلمين في هذه البلاد إلا أنه أخطأ خطأ كبيرا جدا في آخر أيامه فسبحان الله أصيب الحكم بن عبد الرحمن الناصر بالفالج (الشلل في ذلك الوقت) فاستخلف ابنه هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر والذي كان لم يتجاوز حينئذ الثانية عشرة من عمره وكان أكبر أبنائه واستخلفه على حكم هذه البلاد العظيمة ومن فوقها بلاد النصارى في الشمال و من تحتها بلاد الدولة الفاطمية وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى هزيمة هذه البلاد وإلى الكيد لها لكنه استخلف طفلا صغيرا لم يبلغ من العمر إلا اثني عشرة عاما فقط .

طبعا هذه ذلة خطيرة جدا من الحكم بن عبد الرحمن الناصر وكان عليه أن ينتقي في من استخلفه حتى ولو من بني أمية رجلا يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية مثل دولة الأندلس ودولة متسعة الأطراف ولها أعداء كُثر ولكن الذي حدث أنه استخلف ابنه ثم مات سنة 366 من الهجرة .

ليتولى هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم وطبعا هو طفل صغير لا يستطيع أن يمسك بذمام الحكم لذلك وُضع عليه مجلس وصاية ومجلس الوصاية هذا كان مكون من ثلاثة :

الأول : الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي والحاجب تعني رئيس الوزراء في وقتنا الحاضر وقد كان أحد الأوصياء على هشام بن الحكم .

الثاني : قائد الشرطة محمد بن أبي عامر ( وزير الداخلية في أيامنا ) من اليمن و هو ليس من بني أمية .

الثالث : امرأة هي أم هشام بن الحكم ( أم الخليفة الصغير ) وكان اسمها صُبْح .

وكما هو معروف فان المركب التي لها قائدين فلابد لها من الغرق وهذه المركب قادها ثلاثة قادة !! ، وقد بدأ بالأمر محمد بن أبي عامر حيث كان لديه طموح ضخم جدا في أن يكون واليا على هذه البلاد وأراد أن يتخلص من الأوصياء على الوالي وأول ما فعله أن دبر مكيدة سجن فيها الحاجب جعفر بن عثمان ثم قتله بعد ذلك .

هذا محمد بن أبي عامر الذي تجرأ على سجن رجل و على قتله مكيدة له فهذا الرجل سبحان الله علامة كبيرة جدا من علامات الاستفهام في التاريخ الإسلامي فقد قام بمكائد عدة و مؤامرات عظيمة حتى تظن أنه من أعظم الناس مجونا و فسادا ثم إذا به يقوم بحسنات عظيمة حتى تظن أنه من أعظم المجاهدين فأمره عجيب جدا و سنرى فصلا من حياته مع سيرة هشام بن الحكم .

أول شيء فعله أنه قتل الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي فتخلص من أحد الثلاثة .

وأما الثانية فكانت ضعيفة ( المرأة ) معه بالنسبة لقائد الشرطة فلم تؤثر عليه في شيء فتركها في قصرها ثم بدأ يحكم في بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم وهو يريد أن يقوي منصبه أكثر من ذلك فأول شيء فعله أنه تزوج من ابنة غالب بن عبد الرحمن أمير الجيش وبذلك حيد جانب أمير الجيش وضمن ولاء الجيش الأندلسي له ولما انتبه له غالب بن عبد الرحمن وعلم نواياه وعلم خطته وأفصح له عن ذلك دبر له محمد بن أبي عامر مكيدة أخرى ثم قتله .

وبذلك يكون قد قتل الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي وكذلك أمير الجيش ( والد زوجته ) غالب بن عبد الرحمن ثم بعد ذلك استدعى جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب ( ضُمت المغرب إلى الأندلس في عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر ) واستفاد من قوته وقربه إليه ثم بعد ذلك دبر له مكيدة أخرى فقتله وبذلك تملك من كل الأمور بعد أن وضع في كل منصب من هذه المناصب التي قتل أصحابها رجلا من أتباعه بوصايته ورأيه بالإضافة إلى أنه هو الوصي الأساسي على الخلـيفة الصغير هشام بن الحكم .

ومن ثم بدأ بإقناع هشام بن الحكم الطفل الصغير بالاختفاء عن العيون في قصره خوفا عليه من المؤامرات ( هكذا ادعى ) وقال إن الخلفاء يجب أن يتفرغوا للعبادة وأن يتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة أو ما إلى ذلك فقام هو بإدارة كل شيء فرُبي الطفل الصغير على ترك الأمور لـمحمد بن أبي عامر ومرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس وهشام بن الحكم يكبر في السن ولكنه رُبي على عدم تحمل المسئولية وفي سنة 371 هـ أي بعد حوالي 5 سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه وسمى محمد بن أبي عامر نفسه بالحاجب المنصور .

كنا نسمع عن أي خليفة يسمي نفسه باسم مثل الحاكم بالله أو المؤيد بالله أو المنصور ولكن لأول مرة نسمع عن أن رئيس الوزراء أو الوصي يسمي نفسه باسم المنصور وأصبح بالطبع محمد بن أبي عامر رئيس الوزراء ولقب نفسه بالمنصور وأصبح يدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم وبدأ محمد بن أبي عامر ينقش اسمه على النقود وينقش اسمه على الكتب وأصبح هو كل شيء في بلاد الأندلس .

أسس محمد بن أبي عامر مدينة جديدة في شرق قرطبة وسماها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية وبدأ ينقل إليها دواوين الحكم وينقل إليها الوزارات وبنى له قصرا كبيرا هناك وبدأ يجمل كثيرا في هذه المدينة حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحكم وكل شيء .

في عام 381 قام محمد بن أبي عامر بشيء لم يفعله أحد من قبله في التاريخ الاسلامي إنه يعهد بالحجابة لابنه من بعده ( أي رئيس وزراء يستخلف رئيس وزراء من بعده ) وقد كان الاستخلاف من قبل يفعله الخلفاء فقط .

وفي عام 386 هـ سمى نفسه الملك الكريم تمهيدا لإقامة مُلك على أنقاض بني أمية وكل هذا وهشام بن الحكم يكبر في السن ولكن ليس له من الأمر شيئا وكل شيء أصبح بين يدي محمد بن أبي عامر و بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس وبدأ يظهر في بلاد الأندلس ما يسمى في التاريخ بالدولة العامرية وهي حقبة من الزمان بدأت سنة 366 هـ منذ أن تولى محمد بن أبي عامر الوصاية على هشام بن الحكم وانتهت سنة 399 هـ ( أي 33 سنة ) و تعتبر هذه الفترة العامرية جزءً من فترة الخلافة الأموية في بلاد الأندلس لأن الذي كان على مقعد الخلافة هو هشام بن الحكم .

وقام محمد بن أبي عامر بأمور أدت إلى انقسامات في بلاد الأندلس إذ أنه كان محمد بن أبي عامر يخشى من أن يستعين بالقبائل المضرية وبقبائل بني أمية معه في الجيش و في بقية الأمور نظرا لكثرة عددهم في بلاد الأندلس بالمقارنة مع عدد أعوانه من العامريين و اليمنيين ليسوا بكثرة في الأندلس فبدأ يستعين بعنصر آخر غير المضرية واستعان بالبربر وقوى من شأنهم .

هذا كان الجانب الذي يُؤخذ على محمد بن أبي عامر حيث قام بأمور لم يقم بها أحد من قبله في الفترة الأموية في الأندلس لكن مع كل هذه الأمور إلا أنه كانت له جوانب مضيئة في حياته جعلت جميع المؤرخين يتعجبون جدا من سيرته .

أولا : كان محمد بن أبي عامر مجاهدا من الطراز الأول كان مجاهدا عجيبا غزا في حياته 54 غزوة لم يهزم في واحدة ووصل في فتوحاته إلى أماكن لم يصل إليها أحد من قبل في بلاد النصارى في مملكة ليون حتى أنه وصل إلى أماكن لم يصل إليها الفاتحون الأوائل ( موسى بن نصير أو طارق بن زياد ) ووصل إلى أماكن في الصخرة ( هذه المنطقة التي لم تفتح من قبل المسلمين من قبل ) استطاع أن يغزو النصارى في عقر دارهم ووصل لخليج بسكاي و المحيط الأطلسي في الشمال .

كان لـمحمد بن أبي عامر في كل عام مرتين يقاتل في سبيل الله وعُرفت هذه المرات بالصوائف والشواتي ( بعكس ما هو معتاد من الصوائف فقط ) لكن محمد بن أبي عامر جعل الجهاد مرتين في كل عام فمرة في الصيف و مرة في الشتاء أو مرة في الربيع و مرة في الخريف .

مما يُذكر عنه أنه سيَّر جيشا كاملا لإنقاذ ثلاثة من نساء المسلمين أسيرات عند مملكة نافار ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد وكانوا يدفعون له الجزية وكان من ضمن هذه العهود ألا يأسروا أحدا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم ، فذات مرة ذهب رسول من رسل محمد بن أبي عامر الحاجب المنصور إلى مملكة نافار وهناك أقاموا له جولة بعد أن أدى الرسالة إلى ملك نافار و في أثناء هذه الجولة وجد ثلاثة من نساء المسلمين في كنيسة من الكنائس فتعجب لوجودهن فلما سألهن عن ذلك قلن نحن أسيرات في هذا المكان فغضب الرسول غضبا شديدا وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه بذلك فما كان منه إلا أنه سير جيشا كاملا لإنقاذ هؤلاء النسوة فلما ذهب الجيش إلى بلاد نافار تعجب جدا ملك نافار وقال نحن لا نعلم لماذا جئتم تقاتلوننا وقد كان بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل ونحن ندفع الجزية ؟ قالوا عندكم مخالفة فعندكم أسيرات مسلمات وقالوا لا نعلم بهن فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النساء فقال ملك نافار إن هؤلاء النسوة لا نعلم بهن وقد أسرهن جندي من الجنود وقد تم عقاب هذا الجندي و أرسل رسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارا كبيرا فعاد الحاجب المنصور ومعه الثلاثة نساء .

بالطبع هذه عزة كبيرة جدا لجيش الإسلام و المسلمين أن يسير قائد المسلمين جيشا كبيرا جرارا لمجرد إنقاذ ثلاث من نساء المسلمين .

يذكر عنه أيضا أنه عبر مضيقا في الشمال بين جبلين وهو في طريقه لفتح بلاد النصارى فنصب له النصارى كمينا كبيرا وتركوه حتى دخل بكل جيشه ثم قطعوا عليه طريق العودة فلما رجع الحاجب المنصور ووجد المضيق مغلقا بالجنود عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتل مدينة من مدن النصارى في الشمال وأخرج أهلها وعسكر فيها ووزع ديارها على جنده وتحصن فيها وعاش فيها فترة واتخذها مركزا له و أخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتله النصارى ومنعوه من العودة منه فضج الناس من النصارى وذهبوا إلى قوادهم وقالوا ( لا نجد لنا حلا في هذا الرجل نرجوا أن تفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلاده مرة ثانية ) فعرضوا عليه أن يخلوا بينه و بين طريق العودة فرفض وقال ( أنا آتي إليكم هنا مرة في الصيف ومرة في الشتاء أما هذه المرة سأمكث حتى الستة شهور القادمة بدلا من أن أذهب إلى قرطبة وأعود مرة أخرى بعد ستة شهور سأمكث هذه الستة شهور وأقوم بالصوائف والشواتي من مركزي في هذه البلاد ) فقالوا ارجع إلى بلدك ولك ما تريد فاشترط عليهم شروطا :

أولا : أن يفتحوا المضيق ولا يبقوا فيه نصرانيا واحدا فقالوا هذا لك ونحن طلبنا منك هذا قبل أن تطلبه منا .

الشرط الثاني : أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها أمام المضيق فبدءوا يرفعون جثث الجنود الذين قتلوا أمام المضيق و أبعدوها عن المضيق .

فقالوا و ما غير ذلك فقال الأمر الثالث أن تحملوا لي الغنائم جميعا من هنا إلى قرطبة فأسقط في أيديهم وفعلوا ذلك فحملوا الغنائم من ليون في الشمال حتى أوصلوها في الجنوب إلى قرطبة .

كان له في جهاده عادة غريبة جدا فقد كان من عادته أن ينفض ثيابه بعد كل موقعة ويرفع ما خرج منها من غبار ويضعه في قارورة ويجمعه معه ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن هذه القارورة معه حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى وذلك متشبثا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم ) هذا حديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .

ومع كل هذه الحروب و مع كل هذا الجهاد ومع أنه غزا 54 غزوة لم يُهزم في واحدة منها إلا أن سمت الحروب للحاجب المنصور لم يكن سمتا إسلاميا مثل سمت الحروب في عهد عبد الرحمن الناصر أو الحكم بن عبد الرحمن الناصر فكان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى العمق ويقتل منهم ويعود محملا بالغنائم ولكن لم يكن من همه أبدا أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين أو أن يعلم أهلها الإسلام أو أن ينشر الدعوة في هذه البلاد فبقي الحال كما هو عليه بل إن النصارى ازدادت في قلوبهم الحمية لدينهم والحقد على المسلمين وهذا كان الجانب الجهادي أو الجانب العسكري في حياة الحاجب المنصور .

وقد أهتم الحاجب المنصور أيضا بالجانب المادي والحضاري في البلاد فأسس كما ذكرنا مدينة العامرية على أحدث الطراز وزاد جدا في مساحة مسجد قرطبة حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية وكان يضيف هذه المساحات الزائدة على مسجد قرطبة بعد أن يشتري من كل ساكن حول المسجد بيته بالمبلغ الذي يرتضيه هذا الساكن حتى أنه يذكر أنه كان هناك سيدة كانت تسكن وحيدة حول المسجد وكان في بيتها نخلة فأبت أن تبيع البيت إلا لما يأتي لها الحاجب المنصور ببيت فيه نخلة كالتي في بيتها فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت فيه نخلة كالتي في بيتها شبيه بيتها ولو أتى ذلك على أموال بيت المال وبالفعل اشترى لها بيت فيه نخلة وأضاف بيتها إلى حدود المسجد وبعد ذلك زاد المسجد بشدة حتى أصبح أكبر مسجد في العالم في زمانه وبقي فترة طويلة جدا من الزمان يعتبر أكبر مسجد بل إنه أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم في ذلك الوقت وبالطبع مسجد قرطبة موجود إلى الآن ولكنه ولا حول ولا قوة إلا بالله قد حُوّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس ومازال حتى الآن كنيسة قائمة في بلاد أسبانيا .

ازدهرت في حياة الحاجب المنصور العلوم و التجارة والصناعة وغيرها من الأمور وامتلأت خزانة الدولة بالمال ولم يعد هناك فقراء كما كان العهد في فترة الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو عبد الرحمن الناصر نفسه والأمر اللافت للنظر أيضا في حياة الحاجب المنصور أنه لم تقم في عهده أي ثورات وهو كان يحكم فترة طويلة جدا من سنة 366 هـ إلى سنة 392 هـ فلم يكن في عهده أي ثورات مطلقا لم تقم ولا ثورة ولا تمرد على الحاجب المنصور كان قويا جدا كان محكما للأمن والأمان في البلاد كما أنه كان عادلا جدا مع الرعية .

ومن ضمن الحكايات التي تحكى عن الحاجب المنصور أنه كان له نائب والنائب كان يلقب بالوسيط وفي يوم من الأيام جاء رجل بسيط من عامة الشعب إلى الحاجب المنصور وكانت له مظلمة وقال ( إن لي مظلمة وإن القاضي لم ينصفني في هذه المظلمة ) فقال ( ما هي مظلمتك ) فسمعها منه ثم أتى بالقاضي وقال الحاجب ( ما هي مظلمة الرجل وكيف لم تنصفه ) فقال ( إن مظلمته عند الوسيط (نائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت ) فجاء الحاجب المنصور بذلك الوسيط و قال له اخلع ما عليك من الثياب ( ثياب الحكم وثياب البهرجة التي كانت عليه ) واخلع سيفك واجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي وقال للقاضي ( وانظر في أمرهما ) فنظر القاضي في أمرهما فوجد أن الحق مع الرجل البسيط فقال للحاجب المنصور إن الحق مع هذا الرجل و إن العقاب الذي أقضيه كذا وكذا على الوسيط فقام الحاجب المنصور بتنفيذ مظلمة الرجل له ثم قام للوسيط فأقام عليه أضعاف الحد فقال القاضي يا سيدي إنني لم آمر بكل هذه العقوبة فقال الحاجب المنصور إنه ما فعل ذلك إلا تقربا منا ولذلك زدنا عليه الحد ليعلم أن قربه منا لن يمكنه من ظلم الرعية .
ظل الحاجب المنصور يحكم من وراء الستار من سنة 366 هـ إلى سنة 392 هـ ثم مات في هذه السنة و كما ذكرنا استخلف على الحجابة ابنه عبد الملك بن المنصور فتولى الحجابة من سنة 392 هـ إلى سنة 399 هـ سبع سنوات متصلة وكان كأبيه في حياة الجهاد كان يجاهد في كل عام مرة أو مرتين في بلاد النصارى وظل الوضع كما هو عليه عبد الملك بن المنصور يحكم من وراء الستار وهشام بن الحكم كان عند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما ومع ذلك لم يطلب الحكم ولم يحاول أن ينفذ أموره في بلاد الأندلس فقد تعود على استماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده .

في سنة 399 هـ يموت عبد الملك بن المنصور في حملة من الحملات في الشمال ويتولى أخوه عبد الرحمن بن المنصور الحجابة فكعادة هذه الفترة بدأت الدولة العامرية وأيضا أخذ يدير الأمور من وراء الستار لكن عبد الرحمن بن المنصور كان مختلفا عن أبيه و عن أخيه فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابا ماجنا فاسقا شاربا للخمر مكثرا من الزنى وكان يفعل من المنكرات الكثير وكان الشعب يكرهه بشدة بالإضافة إلى أن أم عبد الرحمن بن المنصور كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية وكان الشعب يكرهه أيضا لهذه الدماء النصرانية أن تتولى عليهم الحكم في بلد غالب السكان فيها من المسلمين .

عبد الرحمن بن المنصور يقوم بشيء أشد من ذلك أيضا على الناس فقام عبد الرحمن بن المنصور بإقناع الخليفة هشام بن الحكم بأن يجعله وليا للعهد من بعده وبالطبع كما رأينا العامريين سواء محمد بن أبي عامر أو عبد الملك بن المنصور كانا يحكمان من وراء الستار ولم يطلبا خلافة معلنة لكن عبد الرحمن بن المنصور طلب من هشام بن الحكم أن يكون وليا للعهد من بعده بمعنى أنه لو مات هشام بن الحكم سيصبح خليفة المسلمين في هذه البلاد هو عبد الرحمن بن المنصور وبالطبع ضج بنو أمية لهذا الأمر وغضبوا وغضب الناس أجمعون لكن لم تكن لهم قدرة على عبد الرحمن بن المنصور وقد جعل جميع الولايات في يد العامريين وفي يد البربر الذين هم أتباع للعامريين منذ أيام الحاجب المنصور .

ومع كل هذا الفسق و المجون الذي كان فيه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعود على أمور الجهاد والخروج كل عام إلى بلاد النصارى فخرج عبد الرحمن بن المنصور ذلك الفاسق على رأس جيش من الجيوش ليحارب في الشمال فانتهز الناس الفرصة وبدءوا يحاولون أن يغيروا من الأمر فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره وخلعوه بالقوة وعينوا رجلا آخر من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر ( أي أن هذا من أحفاد عبد الرحمن الناصر ) وهو رجل آخر من بني أمية عينوه على هذا المكان ودبروا مكيدة لعبد الرحمن بن المنصور وقتلوه فيها وانتهى بذلك ما يسمى في التاريخ بعهد أو الفترة الدولة العامرية .

ومنذ مقتل عبد الرحمن بن المنصور وبعد ذلك ولسنوات طويلة انفرط العقد تماما في بلاد الأندلس فسبحان الله نحن كنا نتكلم عن قوة وعزة ومجد وسلطان بلاد الأندلس منذ سنوات قليلة وكيف كانت بلاد النصارى في الشمال تدفع الجزية للمسلمين وكيف كانت السفارات تأتي من كل أنحاء العالم تطلب ود عبد الرحمن الناصر وتطلب ود ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر وبدأت البلاد تقسم وبدأت الثورات تكثر وبدأت المكائد تتوالى وكما رأينا أمور عجيبة جدا تحدث في بلاد الأندلس .

بالطبع لابد لنا من وقفة مع هذا الحدث فهل يا ترى عبد الرحمن بن المنصور ( كما ذكر بعض أساتذة التاريخ ) بسبب فسقه ومجونه وإساءته للإسلام والمسلمين كان السبب في سقوط الخلافة الأموية وسقوط الدولة العامرية وحدوث هذه الهزة في بلاد الأندلس ؟ .

في الواقع بدراسة الموقف فانه ليس من سنن الله سبحانه وتعالى أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لفترة شهور معدودات فعبد الرحمن بن المنصور لم يمكث في الحكم إلا شهور لم يكمل عاما واحدا فمهما كان من الفاسقين ومهما كان من الظالمين لا يمكن أبدا أن تسقط البلاد هذا السقوط السريع وتفشل هذا الفشل الذريع إلا إذا كانت هناك بذور كبيرة جدا للضعف نمت من قبل وبدأت تتزايد مع مرور الزمان .

هكذا لما حللنا عهد الأمارة الأموية ورأينا كيف ضعفت الإمارة بعد عهد القوة وجدنا أن هناك كانت بذور للضعف في عهد قوة الإمارة الأموية ودعونا نحلل الموقف ونرى أين كانت بذور الضعف في عهد الخلافة الأموية أين كانت البذور التي كانت سببا في هلاك الخلافة الأموية بعد سنوات و سنوات وسنوات من نمو هذه البذور في حياة الأمويين في بلاد الأندلس .

نذكر أن السبب الأول لهذا الأمر بدأ منذ أيام عبد الرحمن الناصر ذاته فسبحان الله هذا الرجل الخليفة القوي الذي أقام ملكا لن يتكرر مثله في التاريخ كثيرا بدأت بعض بذور الضعف تنشأ في عهده وهذه البذور أولها هي الترف الشديد و البذخ الشديد وكثرة إسراف الأموال في زخرفة الدنيا وقد عُلم أن الدنيا مهلكة وانشغال الناس لكثرة الأموال في توافه الأمور .

ومن الأمثلة على هذا البذخ هو قصر الزهراء الذي بناه عبد الرحمن الناصر وهو قصر عظيم جدا أصبح أعجوبة في من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت وعلى اتساع هذا القصر وعلى قبر حجمه إلا أنه كان مبطنا من داخله بالذهب وكان السقف لهذا القصر مبطنا بخليط من الذهب والفضة بأشكال تخطف الأبصار وتبهر الناس ومع كل ذلك إلا أنه كان يصرف على كل شيء حق الصرف فلم يكن يقصر في حق التعليم أو في حق الجيش أو في أي شيء في البلاد لكن هذا الترف الشديد وهذا البزخ الشديد جعلت القلوب تتعلق بهذه الدنيا .

نذكر أن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره لما بناه بهذه الفخامة و بهذا الترف الشديد فقال له عبد الرحمن الناصر ( ما تقول يا منذر في هذا (افتخارا بقصره) ) فقال المنذر بن سعيد رحمه الله ودموعه تقطر على لحيته ( ما ظننت الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ مع ما أتاك الله به من النعمة وفضلك به على كثير من عباده تفضيلا حتى يُنْزِلك منازل الكافرين ) فقال عبد الرحمن الناصر انظر ما تقول كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! قال أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } (33) سورة الزخرف . هذا السقف من فضة والله سبحانه وتعالى يذكره في آياته على سبيل التعجيز ولكن الله لم يجعله للكافرين ولكن عبد الرحمن الناصر فعله وجعل لبيته أو قصره أسقف من فضة فوجم عبد الرحمن الناصر وسقطت عليه الكلمات كالصخر ثم بدأت دموعه تنسال (رحمه الله) ثم قام ونقر السقف وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن ولكن سبحان الله مع مرور الوقت يعود من جديد ويبرز مظهر من مظاهر الترف وهكذا لكثرة الأموال ( أي كما نقول لديه مال ولكن لا يعلم ماذا يفعل بها ) بدأت الأموال تكثر لدرجة أنه ينفق في أشياء لا يُنفق فيها .

الإسراف والترف مهلكان فإن الله يقول في كتابه الكريم { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } (16) سورة الإسراء فسبحان الله وكأن الآية نزلت في هذا الزمن فالله سبحانه وتعالى لما أسرف هؤلاء في الترف وعاشوا فيه أيام وشهور وسنوات طويلة بعد ذلك كتب عليهم الهلكة ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) فهلكت القرية نتيجة هذا الترف الشديد ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) أنظروا إلى التدمير الذي سيحدث في بلاد الأندلس بعد هذا الترف الشديد وهذا الملك الكبير وهذا العز العظيم الذي دام سنوات وسنوات لكن لله سنن لا تتبدل ولا تتغير ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا .

أيضا بتحليل هذه الفترة نجد أمرا آخر غير أمر الترف وغير أمر الإسراف نجد توسيد الأمر لغير أهله فانظر إلى ما فعله الحكم بن عبد الرحمن الناصر انظر إلى حياته الطويلة في الجهاد والعلم ونشر دين الله في البلاد ثم هو قبل أن يموت يوسد الأمر إلى غير أهله فهو يَكِلُ الأمور إلى طفل لم يبلغ إلا اثنتي عشرة سنة من عمره فيتحكم فيه الأوصياء وتحدث المكائد المؤامرات وانظر إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجاب الرجل الذي سأل عن أمارات الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ) . فقال الرجل كيف إضاعتها ؟ قال ( إذا وُسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) . رواه البخاري .

هكذا إذا تولى من لا يستحق منصبا من المناصب حدثت الهزة في البلاد وحدث الانهيار فما بالك إذا كان هذا المنصب منصب خليفة ؟ .

أذكر أنه ذُكرت حادثة في الجرائد عن الإمساك برجل جاسوس للأمريكان عند الروس ( رجل روسي ) فلما سألوه ماذا كنت تفعل للأمريكان قال ( ما كنت أفعل شيئا سوى أنه إذا عرض علي خمسة من الرجال لمنصب من المناصب أختار أسوأهم ) وكان هذا الرجل يشغل منصبا كبيرا في تلك الحكومة ومع مرور الزمان واختيار السيئين للمناصب فضيع الأمر وضيعت الأمانة وبالتالي سقطت البلاد بعد ذلك .

فتوسيد الأمر لغير أهله علامة من علامات ضياع الأمم هكذا تعلمنا من سيرة الأندلس في هذا الموقف.

الأمر الثالث المثير للاهتمام أن الفترة العامرية اعتمدت فيها الدولة في جهادها على القوة المادية من جند ومال و معمار ولم يصرفوا نواياهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى ولم يجددوا تربية الشعب على الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى وعلى طلب الجنة والموت في سبيل الله ولذلك حدث هذا الخلل على ممر السنوات أكثر من 22 سنة في الدولة العامرية أدى في النهاية إلى أن الشعب أصبح يفتقد روح الجهاد الحقيقي ولا يبغي إلا جمع المال وجمع الغنائم وسبحان الله للتاريخ دورات كنا نتحدث عن عهد القوة والآن سنبدأ عن عهد جديد عهود الأندلس هو ما عُرف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف .

انفرط العقد تماما بعد خلع هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر (الملقب بالمهدي) وهو الرجل الذي وضعه الشعب مكان هشام بن الحكم ومع أن لقبه المهدي إلا أنه كان فتى لا يدرك الأمور ولا قيادة الأمور وليس له في الإدارة من شيء وأول ما فعله بعد توليه الحكم هو أنه ألقى القبض على كثير من العامريين وقتلهم كما بدأ أيضا في تقتيل البربر وإقامة الأحكام عليهم بالحبس والتشريد وبالتالي أثار غضب العامريين وأثار غضب البربر بل وأثار غضب الأمويين أنفسهم لأن بنو أمية الموجودين في أرض الأندلس ما كانوا يبتغون أبدا هذا القتل الشديد وهذه الرعونة في التصرف فبدأ يحدث سخط كبير جدا من الجميع (من كل الطوائف) على المهدي .

البربر لم يهدءوا وجمعوا أنفسهم وانطلقوا إلى الشمال وهناك أتوا برجل اسمه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر ونصبوه عليهم وأسموه بخليفة المؤمنين وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم ومن وراءه البربر وبين المهدي في قرطبة .

لكن سليمان بن الحكم والبربر معه وجدوا أن قوتهم ضعيفة ففعلوا شيء غريب وأول مرة نراه في بلاد الأندلس إذ أنهم استعانوا بملك مملكة اسمها قِشْتَالة (وهي القسم الشرقي من مملكة ليون التي انقسمت في سنة 359هـ نتيجة لحرب أهلية داخلية إلى قسمين ليون في الغرب وقشتالة في الشرق وكلمة قشتالة تحريف لكلمة كاستيلا أي كاسيل في الإنجليزية والتي تناظرها كاستيلا في الأسبانية أي القلعة وحرفت كاستيلا في العربية إلى قشتالة ) وهذا كان أول ظهور لمملكة قشتالة .

بدأت مملكة قشتالة تكبر نسبيا في أول عهد ملوك الطوائف فاستعان بها سليمان بن الحكم والبربر على حرب المهدي ودارت موقعة بين المهدي بن هشام من ناحية و بين سليمان بن الحكم و البربر وملك قشتالة من ناحية أخرى وهُزم المهدي في الموقعة وتولى سليمان بن الحكم في بلاد الأندلس وبالطبع هنا استغلت قشتالة هذه الفرصة لتضرب الأندلسيين بعضهم ببعض وتضع جيوشها وجنودها في أرض الأندلس في البلاد التي كثيرا ما دفعت الجزية لملوكها من قبل .

تولى سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم ويلقب نفسه بالمستعين بالله مع أنه لم يكن مستعينا بالله ولكن كان مستعينا بملك قشتالة وتولى الحكم في سنة 400 هـ .
في الفترة القادمة والتي هي فترة حوالي 22 سنة سيتولى أمور المسلمين 13 خليفة متتالي من سنة 399هـ في البداية بـهشام بن الحكم ثم المهدي ثم سليمان بن الحكم ثم يتوالى على ذلك الأمر 13 خليفة حتى سنة 322هـ وبذلك يكون قد انفرط العقد بصورة مؤسفة كما ذكرنا من قبل .

المهدي الذي هُزم من سليمان بن الحكم ( المستعين بالله ) فر إلى طرطوشة ( بلد في شمال الأندلس ) فأخذ يفكر ماذا أفعل ؟ ففكر في أن يتعاون مع أحد أبناء بني عامر مع أنه كان منذ قليل يقتل في أبناء قبيلة بني عامر ولكن هناك في طرطوشة قابل واحدا من بني عامر اسمه الفتى واضح فأقنع الفتى واضح هذا المهدي بأن يتعاون معه ليعيده في الملك من جديد ويكون الفتى واضح على الوزارة من جديد فالمهدي مع أنه كان من قبل يقتل فيهم إلا أنه قَبِل على أن يتعاون مع هذا الفتى واضح ولكن الفتى واضح قال له إنه ليس لنا طاقة بسليمان بن الحكم مع البربر ومعه أيضا ملك قشتالة ففكر الفتى واضح والمهدي في الاستعانة بأمير برشلونة وهو صاحب مملكة أرجون والتي كانت في الشمال الشرقي والتي كانت تدفع الجزية لعبد الرحمن الناصر ولابنه وللحاجب المنصور لما حدثت هذه الهزة في بلاد المسلمين قامت من جديد وكان لها جيش استعان به المهدي والفتى واضح في حرب سليمان وملك قشتالة والبربر .

فوافق أمير برشلونة على أن يساعدهم في مقابل :

أولا : مائة دينار ذهبية له هو مقابل كل يوم في القتال .

ثانيا : دينار ذهبي لكل جندي عن كل يوم في القتال وبالطبع تطوع الكثيرون لحرب المسلمين وكان الجيش الأرجواني كبيرا جدا .

ثالثا : أخذ كل الغنائم من السلاح إن انتصر أمير برشلونة مع المهدي والفتى واضح أي كل سلاح يغنموه من المسلمين الموجودين في قرطبة سيأخذه ملك برشلونة .

رابعا : أخذ مدينة سالم ( وهي المدينة التي حررها عبد الرحمن الناصر منذ القديم في عهد الخلافة الأموية ) الآن يشترط أمير برشلونة أن تُضَم إليه مدينة سالم إذا انتصر أمير برشلونة مع المهدي والفتى واضح على المستعين بالله ( سليمان بن الحكم ) .

بالطبع شروط مخزية جدا وشرط قبيحة جدا وفظيعة جدا كيف يوافق المسلمون على ذلك ؟ ولكن الذي حدث أنه قد تمت الموافقة على هذه الشروط والبنود وبدأت بالفعل موقعة كبيرة جدا في شمال قرطبة بين المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه الفتى واضح العامري و أمير برشلونة وبين سليمان بن الحكم الخليفة والملقب بالمستعين بالله ومعه البربر ورجع وانتصر مرة أخرى المهدي ومن معه وهُزم سليمان بن الحكم وفر هو ومن معه و من بقي من البربر وسلمت مدينة سالم إلى أمير برشلونة وسلمت الغنائم كلها لأمير برشلونة وتولى الحكم من جديد في قرطبة .

ولكن لأن الزمن زمن فتنة فأول ما تولى المهدي بلاد قرطبة انقلب عليه الفتى واضح وهذا دليل على أن الفتنة عظيمة وأن الأحداث متشابكة وقد أخطأ المهدي لما اتفق مع الفتى واضح وهو عامري ومنذ شهور بسيطة جدا كان المهدي يذبح في العامريين في كل مكان فكيف يعقد معاهدة مع الفتى واضح على أن يعاونه على استعادة الحكم .

انقلب الفتى واضح على المهدي ثم قتل المهدي وبدأ يتولى الأمور ولكن الفتى واضح كان أذكى من عبد الرحمن بن المنصور الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك فرفض أن يكون هو في الصورة وقال إن أصبحت أنا خليفة البلاد سيحدث انقلاب من كل القبائل الموجودة والناس لم تتعود أن يكون الخليفة عامري فقال أنا آتي بصورة للخليفة أضعها وأحكم أنا من ورائها فانظروا عمن بحث .. فظل يبحث بين كل الأمويين الموجودين فوجد أفضل صورة هي صورة هشام بن الحكم المخلوع من قبل وهو الذي ظل ألعوبة ثلاثة وثلاثين سنة بدون أي معارضة .

وبالطبع وافق هشام بن الحكم الذي كان ملقبا بالمؤيد بالله وبالتالي عاد من جديد للحكم ومن وراءه الفتى واضح ولكن سليمان بن الحكم لم يقتل بعد ولا يزال موجودا في البلاد ولا يزال يدبر المكائد ويريد أن يعود للحكم من جديد ففكر مرة أخرى أن يذهب لملك قشتالة ويستعين به من جديد فعاد له من جديد وطلب من ملك قشتالة أن يساعده ولكن ملك قشتالة الخبيث قال له انتظرني وسأرد عليك بعد أيام فذهب إلى هشام بن الحكم ( الحاكم في ذلك الوقت ) وقال له إن سليمان بن الحكم يريد أن أساعده في قتالك وفي حربك فماذا ترى ؟ فقال له ماذا تريد ؟ قال ملك قشتالة ماذا تعطيني حتى لا أساعده في حربك ؟ فعرض عليه هشام بن الحكم أمورا ليختار منها فاختار كل الحصون الشمالية للمسلمين في بلاد الأندلس فتوسعت قشتالة حتى أصبحت حدودها أكبر من حدود مملكة ليون مع أن مملكة قشتالة كانت أصلا جزء صغير منفصل عن مملكة ليون وتوحشت البلاد النصرانية في الشمال (كارثة كبيرة تحل على الأمة الاسلامية) .

كل هذه الأمور حدثت في ثلاث سنوات فقط وفي عام 403 هـ قام سليمان بن الحكم ومن معه من البربر بشيء لم يحدث في تاريخ المسلمين من قبل حتى ذلك الوقت إذ هجموا على قرطبة المسلمة فعاثوا فيها فسادا قتلا في المدنيين الموجودين في مدينة قرطبة واغتصابا لنساء المسلمين الموجودين في مدينة قرطبة.

أمر في منتهى الغرابة جدا وواضح أنه كان هناك بذور ضعف كانت كبيرة والقشة التي قسمت ظهر البعير كانت وفاة عبد الرحمن بن المنصور وخلع هشام بن الحكم ولكن لم يكن هذا طبعا هو فقط السبب كما ذكرنا تملك الترف في الناس وتملكت الدنيا ووسد الأمر إلى غير أهله وكل هذه الأمور أدت إلى هذه الهلكة العجيبة في البلاد .

ومن جديد يتولى سليمان بن الحكم أو المستعين بالله الحكم في بلاد الأندلس وبالطبع مقر الحكم في قرطبة ولكن البلاد تفككت وكان في قرطبة موجود هشام بن الحكم والعامريون ولكن العامريون فروا إلى الشرق واستقروا في شرق الأندلس في منطقة فلنسيا وما حولها .

وطُرد هشام بن الحكم من البلاد ثم قتل بعد ذلك والمفاجأة الأخيرة والكبيرة أن سليمان بن الحكم وهشام بن الحكم إخوة من أب واحد هو الحكم بن عبد الرحمن الناصر القائد المظفر لكن استخلف على الحكم من لا يملك مؤهلات الحكم ووسد الأمر إلى غير أهله كما ذكرنا .
سليمان بن الحكم الآن في الحكم وتمر أربع سنوات وهو في الحكم من سنة 403 هـ إلى سنة 407هـ وسليمان بن الحكم كان جيشه الرئيسي من البربر وفي هذا الزمن من الفتنة البربر يفكرون لماذا لا نتملك نحن الأمور ؟ هل هي مقتصرة على الأمويين أو العرب فقط ؟ لماذا لا نكون نحن ولاة الأمور ؟ هكذا في زمن الفتنة فأسرع البربر وأقاموا قوة أساسية كبيرة واستعانوا بالبربر من بلاد المغرب وهجموا على سليمان بن الحكم وأخرجوه من الحكم بل وقتلوه وتولى خلافة المسلمين في الأندلس في هذه السنة سنة 407 هـ رجل من البربر اسمه علي بن حمود الذي تَسَمى بالناصر بالله .

استقر الأمر لعلي بن حمود في قرطبة وعين أخاه القاسم بن حمود على أشبيلية في سنة 407 هـ وبذلك أصبح الخلفاء والذين يتملكون الأمور في قرطبة وما حولها في ذلك الوقت هم البربر في سنة 407 هـ .

العامريون الذين فروا إلى شرق الأندلس لم يسكنوا فبحثوا عن أموي آخر هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ... إلى آخر هذه السلسلة وهو أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر وبايعوه على الخلافة وسمى نفسه المرتضِي بالله ( أسماء عظيمة ) وأخذوا المرتضي بالله إلى قرطبة لحرب علي بن حمود البربري وبالفعل دارت حرب بين العامريين ومعهم المرتضي بالله وبين البربر وعلى رأسهم علي بن حمود وكانت النتيجة شيء لطيف جدا بين الفريقين فقد كانت النتيجة أن قُتل علي بن حمود والمرتضي بالله أي الخليفتين الذين كانا على الحكم ( الخليفة الموجود في قرطبة والخليفة القادم مع العامريين قد تم قتلهما في المعركة ) ولكن في النهاية تمكن البربر من الانتصار وتولى خلافة المسلمين القاسم بن حمود من البربر أخو علي بن حمود وحاكم أشبيلية وأيضا بعد ذلك أحضر العامريون رجلا أخر من الأمويين ليحاربوا به البربر وهكذا ظل الحال إلى سنة 422 هـ حيث تولى كما ذكرنا 13 خليفة الحكم من سنة 399 إلى سنة 422 هـ .

وفي سنة 422 هـ يجتمع العقلاء من الأندلس ليضعوا حلا بعد أن تفككت البلاد تفككا كبيرا وكثرة الحروب والمكائد بين كل الفرق فاتفقوا على أن يجعلوا لإدارة البلاد مجلس شورى ولا داعي لأن يكون هناك خليفة واتفقوا على عزل بني أمية تماما عن الحكم وقالوا إنه لم يعد هناك من بني أمية من يصلح لإدارة الأمور وانتهى عصر الخلفاء العظماء والأمراء العظماء ومن تبعهم أبدا ليسوا على شاكلتهم فاجتمعوا على خلعهم فأنشئوا بالفعل مجلس شورى في قرطبة سنة 422 هـ وولوا عليه رجلا اسمه أبو الحزم بن جَهْوَر وهذا الرجل كان من علماء القوم وكان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل وظل الحال هكذا بضع سنين ولكن واقع الأمر أن أبوالحزم بن جهور لم يكن يسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قرطبة فقط أما البلاد في الأماكن والأقاليم الأخرى في الأندلس فقد ضاعت السيطرة عليها وبالفعل بعد ثلاث أو أربع سنوات من هذا التاريخ بدأت الأندلس تقسم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة ليبدأ ما يسمى بعهد دويلات الطوائف أو بعهد ملوك الطوائف .

عهد ملوك الطوائف

قسمت بلاد الأندلس إلى سبع مناطق رئيسية :

أولا : بنو عباد وهم أهل الأندلس الأصليين والذين كان اسمهم المولَّدين أخذوا منطقة أشبيلية وما حولها وأنشئوا فيها إمارة لهم .

ثانيا : بنوا زيري من البربر أخذوا منطقة غرناطة في جنوب الأندلس .

ثالثا : بنو جَهْوَر والذين كان منهم أبو الحزم بن جهور أخذوا منطقة قرطبة فأصبحوا هم أوصياء أو حكام على منطقة قرطبة .

رابعا : بنو الأفطس وهم من البربر أخذوا غرب الأندلس وأسسوا في هذه المنطقة إمارة سموها بطليوس.

خامسا : بنو ذِينون أخذوا طليطلة (الحصن الشمالي) وهم من البربر أيضا.

سادسا : بنو عامر والذين هم من اليمن أصلا أخذوا شرق الأندلس وكانت عاصمتهم في هذه المنطقة فلنسيا .

سابعا : بنو هود أخذوا سرقسطة التي في الشمال الشرقي من البلاد .

أي لو قسمنا البلاد إلى سبعة أقسام فتقريبا سبعة أقسام متساوية وكل قسم به عنصر من العناصر إما قبيلة من البربر وإما قبيلة من العرب وإما أهل الأندلس الأصليين ولكن ليس فقط هذه السبعة أقسام بل بداخل كل قسم من هذه الأقسام أكثر من دويلة ( سبحان الله ) .

فمثلا بني عامر في شرق الأندلس مقسمين إلى أكثر من دويلة وعلى كل دويلة رئيس من رؤساء بني عامر .

بني جهور التي أخذت قرطبة قسمت قرطبة إلى أكثر من دويلة وبني الأفطس أخذت بطليوس وقسمتها إلى أكثر من دويلة وهكذا حتى وصل تعداد الدويلات الإسلامية في الأندلس بلا مبالغة إلى 22 دويلة فتخيل يا أخي 22 دويلة في مساحة الأندلس مع وجود مناطق في الشمال حوالي 25% من مساحة الأندلس تحت سيطرة النصارى أي 75% من أرض الأندلس يقسم إلى 22 دويلة ولو تذكروا أن مساحة الأندلس كما ذكرنا في أول مقالة عن الأندلس هي 600 ألف كيلومتر مربع وإذا أخذنا منها 25% سيتبقى في أيدي المسلمين 450 ألف كيلومتر مربع تقريبا أي أقل من مساحة نصف مساحة مصر أي بلد في مساحة نصف مصر مقسمة إلى 22 دولة كاملة وكل دولة لها رئيس ولها جيش ولها أمة ولها سفارات ولها وزارات ولها كل مقومات الدولة أو الإمارة فتفتت المسلمون تفتتا لم يسبق في عهد الأندلس وكان الهبوط على أشد ما يكون .

بالطبع لا يوجد مقارنة بين عهد عبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر وعهد الأندلس بعد حوالي خمسين أو ستين سنة فقط من هذه العزة وهذه القوة وصلنا إلى هذه الحال بعد هذا التفرق والتشتت وفقدان عنصر من أهم عناصر القوة عند المسلمين وهو عنصر الوحدة وسبحان الله ما أشبه اليوم بالبارحة .

ترى ماذا حدث بين هذه الدول المتسارعة في بلاد الأندلس ؟ ترى هل من قيام بعد هذا التفتت الشديد وهذا الأنهيار المروع في بلاد الأندلس ؟ فهذا ما سنتداوله إن شاء الله في المقالة القادمة .

هذا تلخيص لأحد دروس الشيخ راغب السرجاني عن الأندلس

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك