الخميس، 30 أكتوبر 2008

تاريخ الأندلس ( 9 )

ذكرنا في المقالة السابقة كيف وصل الحال في بلاد الأندلس إلى انهيار مروع وضياع للأمة وذل وهوان وفرقة وتشتت بين المسلمين وأخوة يتصارعون وموالاة للنصارى وكاد الإسلام ينتهي من بلاد الأندلس ولكن الإسلام لا ينتهي أبدا فقد حدث أمر غير من شأن بلاد الأندلس فلندرس آخر موقف وقفنا عنده في المقالة السابقة فقد وقفنا عند حصار أشبيلية لما حاصرها ألفنسو السادس أياما وشهورا ثم أرسل رسالة إلى المعتمد على الله بن عباد يحذره فيها ويهينه فيها وقال له إن الذباب آذاني في بلادك فإن شئت أن ترسل إلي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل وذلك ليخبره أن حصونه وأمته وجيشه أهون عنده من الذباب فأرسل له رسالة وكتب على ظهرها ردا وانسحب ألفنسو السادس من هذا الرد الذي كان سطرا واحد .

كان الرد الذي كتبه المعتمد على الله ( والله لئن لم ترجع لأُرَوِّحَنَّ لك بمروحة من المرابطين ) فمن هم المرابطون ؟ .

المرابطون دولة قامت في المغرب العربي وما تحت المغرب العربي فقد كانت دولة إسلامية قوية جدا فالمعتمد على الله بن عباد يلوح لألفنسو السادس إنك لو لم ترجع سوف أستعين بالمرابطين أي سأخرج لك المجاهدين منا والذين لا يهابون الموت فألفنسو السادس هذا يعلم بأس المرابطين وهو مطلع على أحوال العالم ويعلم قوة المرابطين .

ما هو موقف بلاد الأندلس بعد حصار أشبيلية ؟ في الواقع كل أمراء المؤمنين كما كانوا يسمون أنفسهم فكروا في الكارثة التي حلت بهم فقد سقطت طليطلة في سنة 478هـ ولم ترجع للمسلمين إلى وقتنا هذا وحُوصرت أشبيلية وهي بعيدة عن مملكة قشتالة والمعتمد على الله كاد أن يهلك لولا أن فتح الله عليه بفكرة الاستعانة أو التلويح بالاستعانة بالمرابطين وهم يعلمون إن آجلا أو عاجلا ستسقط بقية المدن فإذا كانت طليطلة أحصن مدينة في بلاد الأندلس سقطت فقريبا ستسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وأشبيلية فماذا فعلوا ؟ قالوا لنعقد مؤتمرا فأقاموا مؤتمر القمة الأندلسي الأول ( مؤتمر القمة ) وهو أول مؤتمر يجتمعوا فيه ليتفقوا على رأي وقد كانوا قبل المؤتمر في فرقة وكانوا قبل الفرقة دولة واحدة وظلوا يتناقشون ماذا نفعل ؟ .

أخذوا ينددون وينددون وينددون بالاحتلال القشتالي ( نعم دائما ينددون وينددون ) فكيف تفعل قشتالة هذا الأمر لابد أن نشتكي قشتالة ( لا يوجد مجلس الأمن فلمن يشتكوا ؟ ) ولم يفكروا في أن يشتكوا الله عز وجل فهم من الممكن أن يشتكوا للبابا أو يشتكوا لملك فرنسا أو ملك ليون أو أي أحد حول المنطقة ( ممكن يشتكوا للأمم المتحدة ) ولكن قشتالة فعلت فعلة لم تكن متوقعة منها وهكذا قالوا .

كان هناك قليل من الخير موجود في هؤلاء الأمراء فقد جمعوا أنفسهم ومعهم العلماء أيضا فقد كان مؤتمر القمة يحتوى الأمراء والعلماء وقد كان العلماء يفهمون أصل الهزيمة فأشاروا بالجهاد فلماذا لا نحمل السلاح ولا نحاربهم وندافع عن أنفسنا فتاريخ المسلمين يقول إن المسلمين إن جاهدوا وارتبطوا بربهم انتصروا حتى ولو كانت قوتهم ضعيفة ولكن هؤلاء الأمراء رفضوا الجهاد فقالوا كيف نجاهد وإن أفضل شيء أن نوقف نزيف الدماء ( نعم لابد من وقف إطلاق النار ولابد من السلام ولابد ولابد) فكان تفكير الأمراء أن نحل المشكلة بطريقة سلمية دون اللجوء للحرب فلنتفاوض مع ألفنسو السادس ويريدون أن يأخذوا جزءا من طليطلة ويتركوا له جزءا منها ( العودة لحدود 67 ) ولكن العلماء وجدوا أن الوضع سيء ولن يتغير الوضع بهذه الطريقة فأشاروا برأي آخر فهم يعلمون أن هؤلاء الأمراء لا يمكن أن تجاهد في سبيل الله فهؤلاء يدفعون الجزية من سبعين سنة فقد ألفوا واعتادوا على الهوان والذل فأشاروا على الأمراء بأن يرسلوا إلى دولة المرابطين وأن يطلبوا منها أن تأتي وتهاجم النصارى في موقعة فاصلة ونحن لن نحارب سنظل ننظر من حولنا والمرابطين رجال أقوياء ومجاهدين صابرين وهو اقتراح جيد ولا مشاكل فيه فهل قبله الأمراء ؟ .

لم يقبله الأمراء وقالوا المرابطين دولة قوية جدا ولو دخلوا الأندلس فتهزم النصارى وتأخذ الأندلس فهم خافوا على ملكهم ولم يخافوا على شعوبهم ولنتسائل ما المانع أن يأخذوا الأندلس حتى تكون دولة موحدة بدلا من أن تكون مشتتة ومفرقة وتجادلوا كثير إلى أن فتح الله على رجل منهم ومنّ الله عليه وقد كان أيضا المعتمد على الله بن عباد فقال في نفسه إنه كان محاصرا من يومين وألوح بالمرابطين وقد فك الله علي الحصار لما استعنت بالكلام بالمرابطين فلماذا لا أستعين بهم بالفعل ؟ فقام وخطب في الحاضرين خطبة ولكنها لم تكن على هوى الكثير من الحضور ونذكر منها آخرها فيقول ( ولا أحب أن أُلعن على منابر المسلمين ( يخشى أن يلعنه المسلمين لأنه لم يستعن بالمرابطين ) ولأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا ( فهو يقصد أن يكون عبدا لدى زعيم المرابطين وأرعى الإبل خير له من أن يكون عبدا لألفنسو ويرعى الخنازير ) ) ولما قال هذا تحركت النخوة في قلوب بعضهم وأول من قام هو المتوكل بن الأفطس لو تذكروه فهذا الرجل لم يدفع الجزية في حياته فقام ووافق على ما يقوله المعتمد على الله وقام أيضا عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ووافق على الأمر هذه مدن إسلامية ضخمة وافقت على الاستعانة بالمرابطين أي أشبيلية وبطليوس وغرناطة ولكن الباقون رفضوا هذا الأمر .

أرسلت المدن الموافقة على الاستعانة بالمرابطين وفدا عظيما يحمل العلماء وعلية القوم إلى المغرب وخاصة إلى زعيم المرابطين فيها حتى ينقذهم من بأس النصارى في بلاد الأندلس .

وقبل أن نتحدث عن رد زعيم المرابطين في بلاد المغرب العربي دعونا نعلم من هم المرابطون ولكي نعرف من هم سنعود للخلف قليلا أي سنعود 38 سنة إلى الوراء فنحن الآن في سنة 478 هـ فطليطلة سقطت وأشبيلية حوصرت ومؤتمر القمة قد انتهى .

في سنة 440 هـ نريد أن نغوص في أعماق التاريخ ونغوص أيضا في أعماق الصحراء ونحن نقصد موريتانيا هل يسمع أحد عنها ؟ .. في الواقع هي بلد إسلامي كبير معظم سكانه من المسلمين واتركوا الآن جبال الأندلس وخضراء الأندلس وحدائق الأندلس وأنهار الأندلس وتعالوا ننزل في جنوب موريتانيا في صحراء موريتانيا في الحر الشديد والفقر ومع أناس لا يحسنون الزراعة وعاشوا على البداوة وهناك كان يعيش البربر بل كان يعيش قبائل وطوائف من البربر وهذه القبائل تسمى صَنْهَاجا وأكبر فرعين فيها فرع يسمى جُدَالة وفرع يسمى لمتُونَة والقبيلة التي تسكن في جنوب موريتانيا كانت جدالة وكان على رأس هذه القبيلة رجل يسمى يحي بن إبراهيم الجدالي وهذا الرجل كانت فيه فطرة حسنة وكانوا جميعا من المسلمين ودخلوا في الإسلام منذ قرون ونظر هذا الرجل في قبيلته فوجد أمورا عجيبة .

ففي سنة 440 هـ أي في نفس السنة التي حدثت فيها مأساة بربشتر ومع أحداث بلنسيا نظر يحي بن إبراهيم إلى حال الناس الذين يحكمهم فوجدهم أدمنوا الخمور ومع أنهم مسلمين ووجد الزنا قد فشا وانتشر في الناس حتى إن الرجل كان يزني بحليلة جاره ( زوجة جاره ) ولا يعترض جاره على هذا لماذا ؟ لأنه يفعل هذا الأمر أيضا وكثُر الزواج من أكثر من أربعة والناس من المسلمين ولا يُنكر عليهم أحد والسلب والنهب هو الأصل والقبيلة القوية تأكل الضعيفة والقبائل مشتتة ومفرقة والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف بل هو أشد ومما لا شك فيه أن الوضع في هذه السنة في موريتانيا والأندلس كان أسوأ وأشد مما نحن فيه الآن فانظروا كيف يكون القيام .

علم يحي بن إبراهيم أن ما عليه قومه هذا منكر وليس في يده طاقة للتغيير فكل الشعب يعيش في ضلال وليس عنده من العلم ما يغير به الناس وهو يعلم أن كل ما يحدث هذا خطأ ولكن كيف يغير هذا المنكر فظل يفكر إلى أن هداه ربه فهداه ربه بأن يذهب للحج ثم يذهب إلى أكبر مدن الإسلام في المنطقة وعلم أنها القيروان التي هي الآن في تونس ثم يكلم علمائها وهم علماء مشهورون بالعلم ولعل رجلا منهم يأتي معه إلى قبيلته ويعلم الناس الإسلام فذهب إلى الحج ثم عاد إلى القيروان وهناك قابل أبا عمران الفاسي وهو شيخ المالكية في مدينة القيروان فنحن نعلم أن المذهب المالكي هو المنتشر في بلاد الشمال الإفريقي سواء في العصور القديمة أو في عصرنا الحاضر وكان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس أيضا .

أخبر يحي بن إبراهيم الشيخ أبا عمران الفاسي قصة قبيلته وما يحدث فيها وأراد أن يرشده إلى الحل فقال له سأرسل معك رجلا يعلم الناس دينهم فيحث في الناس وأرسل معه رجلا يسمى عبد الله بن ياسين فاحفظ هذا الاسم احفظ هذا الاسم فهذا اسم يكتب بحروف من نور فهو الشيخ عبد الله بن ياسين ومن العيب تماما ألا نعرف شيئا عن هذا الرجل .

الشيخ عبد الله بن ياسين من شيوخ المالكية أيضا وله طلاب كثر في المغرب والجزائر وتونس وكلهم يأتون إليه ليأخذوا منه العلم وهو يعيش في مدينة من مدن الإسلام ويعيش على ساحل البحر الأبيض المتوسط وهو الآن يفكر هل أنزل إلى جنوب موريتانيا في الصحراء وأترك ما أنا فيه ؟ فكان جوابه نعم أنزل وأعلم الناس فهذه مهمة عظيمة وهي مهمة الدعوة إلى الله عز وجل فينزل الشيخ عبد الله بن ياسين في الصحراء الكبرى في جنوب الجزائر ويخترق شمال موريتانيا حتى يصل في النهاية إلى جنوب موريتانيا في الحر الشديد والفقر والأرض شديدة الجذب وتنظر في الناس فيجد فيهم عجبا فكل المنكرات التي يفعلونها تحدث أمام بعضهم ولا يُنكر أحد وفي صبر شديد بدأ الشيخ عبد الله بن ياسين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ترى ماذا كان رد فعل الناس ورد فعل أصحاب المصالح ؟ .

ثارت عليه كل الفصائل فثار عليه أصحاب المصالح وثار عليه الشعب فالناس تريد أن تعيش في شهواتها وأصحاب المصالح مستفيدون مما يحدث في قبائل جدالة في هذه المنطقة فالناس بدأوا يجادلونه ويصدونه عما يفعل ولم يستطع يحي بن إبراهيم الجدالي أن يحميه لأن الشعب لم يتربى فالشعب كـله يرفض هذا الرجل ولو أصر يحي بن إبراهيم على هذا الأمر لخلعه الشعب وبدأ الشيخ يحاول مرة أخرى ومرة ثالثة وهكذا حتى بدأ الناس يهددونه حتى إنهم ضربوه ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل وهو يدعوا ويدعوا حتى إنهم طردوه من بلادهم بالفعل وكأني أراه يقف على أطراف البلد ويبكي من الحزن عليهم ويقول يا ليت قومي يعلمون يا ليت قومي يعلمون فهو حزين عليهم فهو يريد أن يغير ولا يستطيع فهل يعود مرة أخرى للقيروان ولطلاب العلم ؟ ولكن هؤلاء الناس لمن يتركهم ؟ فشق عليه أن يُولد الناس في هذه البلاد ولا يجدون من يعلمهم فأراد أن يبقى ولكن كيف يبقى ؟ أيدخل إلى جدالة من جديد ( الجنوب الموريتاني ) ولكنه سيموت ولو كان موته سيصلح فأهلا بالموت ولكن الموت لن يفيد فجلس يفكر ويفكر ثم هداه ربه إلى أن ينزل في الصحراء أكثر وأكثر حتى ينزل إلى شمال السنغال فمن يسمع عن السنغال في هذه الآونة ومن يسمع عنها الآن فلا نعرف عنها إلا فريقها القومي فقط وهي في الحقيقة بلد إسلامي كبير جدا وحوالي 90% منهم من المسلمين ونحن لا نعتبر بوجودهم الآن .

وفي شمال السنغال وعلى مصب نهر من الأنهار وفي غابة من غابات أفريقيا وضع الشيخ خيمة بسيطة جدا له على مصب النهر ويجلس فيها ويبعث برسالة إلى أهل جدالة في جنوب موريتانيا يخبرهم فيها أنه موجود في بلاد السنغال وفي منطقة كذا وكذا ومن أراد أن يتعلم العلم فليأتني في هذا المكان وفي جدالة وقد كان هناك مجموعة من الشباب تتحرك قلوبها للدين ولكن أصحاب المصالح وأصحاب القوى يمنعونهم من الارتباط بالدين فلما علموا أنهم في مأمن في أدغال السنغال اشتاقت قلوبهم لرؤية هذا الرجل العالم ونزلوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال وجلسوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في خيمته وأخذ يعلمهم الإسلام بصبر شديد فهو يعلمهم الإسلام كما أُنزل فيعلمهم أن الإسلام دين شامل ينتظم كل شئون الحياة وهو دين متكامل فبدأ يعلمهم العقيدة الصحيحة ويعلمهم العبادة وكيف يجاهدون في سبيل الله وكيف يركبون الخيل وكيف يحملون السيف ثم بدأ يعلمهم كيف يعتمدون على أنفسهم وكيف ينزلون إلى الغابات ليصطادون الصيد ويأتون به إلى الخيمة ويطبخونه ويأكلونه ولا يستجدون أكلهم بفريق من الفرق المحيطة بشمال السنغال .

ذاق الناس معه حلاوة هذا الدين وكان معه خمسة فقط فلما ذاقوها شعروا أنه من واجبهم أن يأتوا بأحبابهم وأصحابهم وأقاربهم إلى هذا الذي ذاقوا حلاوته وذهبوا إلى جدالة وكل واحد منهم عاد برجل فأصبح الخمسة عشرة وأخذ يعلمهم وأصبح العشرة عشرين وضاقت عليهم الخيمة وأصبحت الخيمة خيمتان والخيمتان ثلاثة والثلاثة أربعة وبدأ العدد يزداد وبدأ الناس يتعلمون الإسلام كما أنزل من كل جوانبه فبدأ يعلمهم أنه إذا تعارض شيء مع القرآن والسنة فلا يُنظر إليه فالأول تقدم القرآن والسنة وبعد ذلك يأتي أي شيء ولابد أن تحافظ على هذه الأصول كي تقيم ما تريد وبدأ الأمر يتسع مع الشيخ عبد الله بن ياسين وبدأ من الصعب عليه أن يوصل العلم لكل الحضور فقد كان عنده 200 مسلم فبدأ يقسمهم خمسة خمسة ويأخذ مجموعة من النابغين ويعلمهم الدين جيدا ويجعل كل واحد من هؤلاء النابغين يعلمون مجموعة من المجموعات وهذا نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو تذكروا دار الأرقم بن أبي الأرقم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الدين حتى قامت لهم دولة وانظروا كيف كانت بيعة العقبة الثانية فقد كان هناك 72 من رجال المدينة المنورة قسمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر قسما وجعل على كل خمسة منهم نقيبا ثم أرسلهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة ثم قامت للمسلمين دولة .

كان هذا هو نفس المنهج الذي اتبعه الشيخ عبد الله بن ياسين من سنة 440 هـ إلى سنة 444هـ ووصل العدد في سنة 444هـ إلى ألف رجل فالرجل الذي بدأ وحيدا ومطرودا وقد آذاه الناس وضرب وهدد بالقتل ثم في أربع سنوات يصبح معه ألف رجل وقال الشيخ لمن معه أنه لن يُغلب ألف من قلة فألف بالنسبة للعدد المحيط بهم لا هو بالقليل ولا هو بالكثير فقبائل صنهاجا كبيرة جدا لكنها مفرقة ومشتتة لكن هؤلاء ألف رجل كما ينبغي أن يكون الرجال ونزل الرجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعرفون الناس الدين ويعلمونهم الأحكام فبدأت جماعتهم تزداد وبدأ الرقم يرتفع من ألف إلى ألف ومائتين ويرتفع ببطء ولكنه ارتفاع ملموس والخيمة في اللغة تعني الرباط ونعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ) رواه البخاري .

وسبب تسميتهم بالمرابطين أنهم كانوا يجلسون في خيام هم والشيخ عبد الله بن ياسين وكانوا يعيشون عند ثغر من الثغور ليحمونها ويجاهدون في سبيل الله وسموا أنفسهم بهذا الاسم وفي سنة 445 هـ يحدث حدث متوقع في سنن الله عز وجل فقد اقتنع بفكرة عبد الله بن ياسين رجل يسمى يحي بن عمر اللمتوني فقد قلنا سابقا أن قبيلة صنهاجا تنقسم إلى جدالة ولمتونة وهذا الرجل من لمتونة وهو زعيمهم وفعل مثل ما فعل سعد بن معاذ رضي الله عنه لما دخل الإسلام فسعد عندما دخل الإسلام ذهب إلى قومه وقال لهم ( إن كلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم علي حرام حتى تشهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) وفعل يحي بن عمر اللمتوني نفس الأمر ودخل بهم مع الشيخ عبد الله بن ياسين في جماعته فأصبح الألف ومائتين سبعة آلاف في يوم وليلة فأصبح لديهم سبعة آلاف رجل يفهمون الإسلام من الشيخ عبد الله بن ياسين كما ينبغي أن يفهم وتزايد الأمر وبعد فترة قليلة جدا من دخول قبيلة لمتونة يموت يحي بن عمر اللمتوني الذي أتي بالناس وانظر إلى حسن الخواتيم فقد أتي بسبعة آلاف جندي للإسلام ثم مات .

تولى من بعد الشيخ يحي بن عمر اللمتوني رجل هو الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن العيب جدا أن نعرف قصة عنترة بن شداد ولا نعرف شيئا عن الشيخ عبد الله بن ياسين أو الشيخ يحي بن عمر اللمتوني أو الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني الذين غيروا وجه التاريخ كما سنرى فالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بدأ يعمل مع الشيخ عبد الله بن ياسين بحماسة شديدة وبدأ الأمر يزداد وبدأت الأعداد تكبر وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها ونذكر أنهم كانوا في شمال السنغال وبدأوا يتوسعوا حتى وصلوا إلى حدود منطقة من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا وأدخلوا معهم جُدالة أي أصبحت جدالة ولمتونة الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا جماعة واحدة وبلغ تعدادها في سنة 451 هـ حوالي 12 ألف من المسلمين الرجال الذين علمهم الشيخ عبد الله بن ياسين رحمه الله وذات مرة كان الشيخ عبد الله بن ياسين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في أحد القبائل فقاتلوه وقاتلهم فاستشهد رحمه الله في سنة 451 هـ أي أنه ظل 11 سنة يدعو الناس لدينهم ويعلمهم ومات شهيدا وترك من وراءه 12 ألف رجل على منهج صحيح في الإسلام .

ويتولى من بعده الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة رجال المرابطين ويظل سنتين في هذه الزعامة ويكونوا في التاريخ بما يعرف في التاريخ بدويلة المرابطين والتي لا تعرف على الخارطة وهي من شمال السنغال وجنوب موريتانيا وفي سنة 453 هـ يسمع أبو بكر بن عمر اللمتوني أن هناك خلافا بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدة تماما عن منطقة المرابطين وهو يعلم رحمه الله أن هذا الخلاف شر وأنه لو استشرى الخلاف بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة فبسرعة ينزل ليحل الخلاف مع أن الناس ليسوا من جماعته وليسوا في قبيلته فينزل إليهم ولكنه يعلم بحكمة شديدة أنه لابد للحق من قوة تحميه فيأخذ معه نصف الرجال أي حوالي 7 آلاف رجل وينزل في أعماق السنغال أي في جنوب السنغال ليحل الخلاف بين المتصارعين هناك ولكن هل يترك دولة المرابطين بلا ضابط أو رابط ولا زعيم ؟ .

في الواقع ترك أبو بكر بن عمر اللمتوني ابن عمه يوسف بن تشفين رحمه الله فهذا اسم يكتب بحروف من الذهب وأغلى من الذهب رحمه الله ترك زعيما لدولة المرابطين وينزل أبو بكر بن عمر اللمتوني ليحل الخلاف فهو يترك زعامة القبيلة أو زعامة الدولة الصغيرة وينزل ليحل الخلاف بسبعة آلاف فيستطيع أن يحل الخلاف رحمه الله ولكنه تفاجأ بشيء عجيب ففي جنوب السنغال وبجوار هذه القبائل المتصارعة هناك قبائل لا تعبد الله بالكلية فهناك قبائل وثنية لا تعبد إلا الأشجار أو الأصنام ولم يصل إليها الدين بالمرة حتى حز ذلك في نفسه وقد تعلم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يغير الأمور بنفسه وأن يحمل هم المسلمين وأن يحمل هم الناس أجمعين حتى وإن لم يكونوا مسلمين .

بدأ الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في الذهاب لهذه القبائل التي لا تعرف الله عز وجل وبدأ يعلمهم الإسلام ويعرفهم ما هو الدين ويتعلمون ويجدون أمرا عجبا فكيف لم نسمع بهذا الدين من قبل ؟ وكيف لم يعرفوا هذا الدين الكامل المتكامل وهم في أدغال أفريقيا يفعلون أشياء عجيبة ويعبدون أصناما من عندهم ولا يجدون لهم ربا ولا إلها فأخذ يعلمهم بصبر شديد فدخل جمع منهم الإسلام وقاومه جمع آخر فلابد لأصحاب المصالح أن يقاوموا مثل هذا الرجل الذي أتي ليجعلهم يعبدون الله فحاربهم والتقي معهم في حروب طويلة وبعد نزول الشيخ أبو بكر بن عمر إلى جنوب السنغال سنة 453 هـ ظل يتوسع ويأخذ قبيلة ثم قبيلة وينتقل من مكان إلى مكان حتى عاد بعد ذلك إلى بلاده بلاد المرابطين فترى كم سنة قضاها يدعو إلى الله في أدغال أفريقيا ؟ كم سنة ترك فيها ملكه وحكمه ليدعو إلى الله ؟ عاد رحمه الله سنة 468 هـ أي ظل يدعو 15 سنة كاملة .

عندما ذهب الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني إلى السنغال استخلف على الحكم الشيخ يوسف بن تشفين رحمه الله والشيخ يوسف بن تشفين ظل ينتظر الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني شهر ثم شهرين ولكن الشيخ لم يرجع وعلم الشيخ يوسف بن تشفين أن الشيخ أبو بكر قد توغل في السنغال فهل يظل ينتظر أم ماذا يفعل ؟ .

لم يتعلم الشيخ يوسف بن تشفين الانتظار من الشيخ عبد الله بن ياسين فبدأ بالنظر إلى الشمال وقال إن الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني يبحث في الجنوب وأنا أبحث في الشمال عمن ابتعد عن دين الله فأعلمه فنظر في جنوب المغرب العربي ونظر في شمال موريتانيا فوجد أنه في قبيلة تسمى غُمارة من قبائل البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة ظهر رجل يسمى حَايين بن منَّ الله وهذا الرجل ادعى النبوة والبربر الذين يعيشون في هذه المنطقة من المسلمين ولم ينكر حايين هذا أن محمد نبي الله وهو على دين الإسلام وأخذ يشرع للناس شرعا والناس يتبعونه في ذلك والناس يظنون أن هذا هو الإسلام فبدأ يفرض عليهم صلاة في الشروق وصلاة في الغروب فقط ولا داعي لخمس صلوات وبدأ يألف لهم قرآنا بالبربرية أي بلغة البربر ووضع عنهم الوضوء ووضع عنهم الطهر من الجنابة ووضع عنهم فريضة الحج وحرم عليهم أكل بيض الطيور وأحل أكل أنثى الخنزير فهذا خلط عجيب وهو يدعي أنه من المسلمين والناس يعتقدون أن هذا هو الإسلام وهم على دين الإسلام ومما يُذكر عن مدعي النبوة هذا أنه حرم أكل السمك حتى يُذبح .

ونظر يوسف بن تشفين أيضا لقبيلة من قبائل البربر واسمها بُرْغُوَاطة وعلى رأسها رجل يسمى صالح بن طريف بن شمعون وواضح أن أصله يهودي وأسلم ثم جاء الحفيد صالح وما هو بصالح وهو ادعى النبوة أيضا وبدلا من أن يفرض صلاة في الشروق وصلاة في الغروب قام بفرض خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء وفرض عليهم نفس وضوء المسلمين بالإضافة إلى غسل السرة وغسل الخاصرتين أي لكي تتوضأ فعليك بخلع كل ملابسك وفرض عليهم الزواج من غير المسلمات فقط وممكن أن تتزوج أكثر من أربعة لو أردت هذا وفرض عليهم تربية الشعور في ضفائر للرجال وإلا أثم وكان يدعي أنه من المسلمين .

ونظر إلى قبيلة أخرى فوجدها تعبد الكبش وتتقرب به لله رب العالمين وكل هذا في جنوب المغرب في البلد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير هذه البلاد تعبد الكبش تقربا إلى الله عز وجل وشق هذا على يوسف بن تشفين رحمه الله .

أخذ يوسف بن تشفين نفسه وانطلق إلى الشمال ليدعو الناس للإسلام وقاوموه وحاربوه وصارعوه فصالح بن طريف وحايين بن من الله حاربوه وكل القبائل حتى قبيلة زناتة وهي من القبائل السنية في المنطقة وتعرف الإسلام حق المعرفة لكن لا تعرفه إلا في جانب العبادات والعقيدة فهم يصلون كما تنبغي أن تكون الصلاة ويزكون كما تنبغي أن تكون الزكاة لكنهم يسلبون وينهبون ما حولهم فالقوي فيهم يأكل الضعيف فهكذا كانت هذه القبيلة فصلت الدين عن قيادة الأمة فالدين عندهم فقط صلاة وقيام وحج لكن غير ذلك من المعاملات افعل ما بدا لك ( كذلك الحال الآن أليس كذلك ) .

أخذ يوسف بن تشفين يدعو هؤلاء للإسلام ودخل معه بعضهم لكن معظمهم حاربوه فحاربهم بسبعة آلاف رجل الذين تركهم معه أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله وبدأ الناس يدخلون في الإسلام .

رجع الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة 468 هـ فيرى يوسف بن تشفين رحمه الله الذي كان يملك في حينما غادر في سنة 453 هـ شمال السنغال وجنوب موريتانيا فقط فيرى الآن أنه أميرا على السنغال بكاملها وموريتانيا بكاملها والمغرب بكاملها والجزائر بكاملها وتونس بكاملها فوجد يوسف بن تشفين معه دولة واحدة من تونس إلى السنغال عليها أمير واحد هو يوسف بن تشفين ووجد أن السبعة آلاف رجل قد ارتفعوا في جيش الإسلام مع يوسف بن تشفين إلى مئة ألف فارس غير الرجالة في سنة 468 هـ فانظر لمن فقه الإسلام وجاهد في سبيل الله ووجد أن هناك مدينة لم تكن موجودة من قبل وقد أُسست على التقوى وهي مدينة مراكش وقد أسسها الأمير يوسف بن تشفين رحمه الله وأول ما بناه في مراكش المسجد وبناه بالطوب اللبن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الأمير على مئة ألف رجل وكان ينزل بنفسه ويحمل الطين مع الناس تشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد رجلا يسمع له ويطيع مئة ألف رجل وجد رجل أسس حضارة لم تُعرف في المنطقة منذ سنوات وسنوات ثم وجد رجلا زاهدا متقشفا ورعا تقيا عالما بدينه طائعا لربه وكان رد فعل أبو بكر اللمتوني بعدما شاهد يوسف بن تشفين على الصورة التي ذكرناها قال له ( أنت أحق بالحكم مني ) وأراد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني أن يعود ليدعو الناس للإسلام ويترك مقاليد الحكم ليوسف بن تشفين بعدما رأى منه كل هذا وذهب إلى أدغال أفريقيا وأدخل أبو بكر بن عمر اللمتوني الإسلام في غينيا- بِيسَاوْ التي تقع جنوب السنغال وفي سيراليون وفي الساحل العاج وفي مالي وفي بوركينا فاسو وفي النيجر وفي غانا وفي داهومي وفي توجو وفي نيجيريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجيريا وفي الكاميرون وفي أفريقيا الوسطى وفي الجابون فأكثر من خمسة عشر دولة إفريقية دخلها الإسلام على يد المجاهد البطل أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله فهذا الرجل كما كان يقول ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية لما كان يدعو للجهاد في سبيل الله كان يقوم له خمسمائة ألف مقاتل .

كلما صلى رجل صلاة في نيجريا أو في غانا أو مالي أُضيفت إلى حسنات أبي بكر بن عمر اللمتوني وذلك إلى قيام الساعة واستشهد رحمه الله في فتوحاته هناك في سنة 481 هـ وما رأى عزا وما رأى ملكا وكان يغزوا في كل عام مرتين فقد كان يفتح البلاد ويعلم الناس فانظروا إلى حسن الخواتيم فقد استشهد في سبيل الله بعد هذه الحياة المتجردة .

أصبحت دولة المرابطين في سنة 478 هـ وقبل استشهاد الشيخ أبي بكر بن عمر اللمتوني دولة واحدة من تونس إلى الجابون من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا وتضم أكثر من 20 دولة إفريقية الآن وهذه الدولة تمثل أكثر من ثلث أفريقيا لذلك لما سمع ألفنسو السادس لأروحن لك بمروحة من المرابطين علم أنه سيأتيه من أفريقيا ثلثها وعلم أنه سيأتيه من أفريقيا أقوام عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات ونحن بدأنا من سنة 440 هـ برجل واحد فقط وهو الشيخ عبد الله بن ياسين يدعو الناس للإسلام ثم بعد ذلك يزيد الناس إلى أن تكون دولة عظيمة في قوتها ويصبح يوسف بن تشفين رحمه الله زعيما على هذه الدولة العظيمة ويسمي نفسه أمير المسلمين وناصر الدين وهو بحق أمير وناصر الدين ولما سألوه لماذا لا تسمي نفسك أمير المؤمنين فقال ( هذا شرف لا أدعيه وهذا شرف لا يملكه إلا العباسيين ) الذين كانوا لا يملكون إلا بغداد فقط لكنه يريد أن يوحد المسلمين تحت راية واحدة فقد كان يقول ( أنا رجلهم ) فإين العباسيين من يوسف بن تشفين رحمه الله ولكنه لا يريد أن يشق عصى الخلافة ولا يريد أن ينتقض على خليفة المسلمين .

في سنة 478 هـ استقبل يوسف بن تشفين رحمه الله وفدا من ملوك الطوائف في مراكش وكان الوفد يطلب العون والمساعدة فماذا كان رد فعله رحمه الله ؟ ... لقد تشوق رحمه الله لما يقولون فالأرض أرض جهاد وهو يشتاق إلى الجهاد فكم كان سعيدا أنه سيحارب النصارى وسيحارب ويجاهد في سبيل الله عز وجل .

وانطلق رحمه الله مع الوفد ولكنه قائد محنك وهو يملك مئة ألف في الشمال الأفريقي وعنده خمسمائة ألف في أفريقيا ولكنه أخذ معه سبعة آلاف فقط من المجاهدين ترى لماذا ؟ لأنه لا يستطيع أن يترك كل هذه المساحات الكبيرة بلا حراسة ولا حماية فلابد أن يكون هناك جيشا في تونس وجيش في الجزائر وجيش في المغرب وجيش في كل بلد في البلاد الأفريقية التي فتحت فهو لا يتحرك بعشوائية فيأخذ معه سبعة آلاف رجل ويجهز السفن ويعبر مضيق جبل طارق وعندما كان يعبر المضيق كانت الأمواج ترتفع ويهيج البحر وتكاد السفن أن تغرق فيقف ذليلا لله ربه ويدعوه والناس تدعو معه ويقول ( اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيرا لنا وللمسلمين فسهل علينا عبوره وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره ) وبعد هذه الدعوة تسكن الريح ويعبر الجيش وأول شيء يفعله يوسف بن تشفين عند وصوله البلد يسجد لله شكرا أن مكنه من العبور وأن مكنه من الجهاد وأن اختاره لأن يكون جنديا من جنوده سبحانه وتعالى .

ويدخل يوسف بن تشفين أرض الأندلس ويدخل إلى قرطبة ويدخل إلى أشبيلية ويستقبله الناس استقبال الفاتحين ويعبر إلى اتجاه الشمال إلى اتجاه مملكة قشتالة النصرانية المرعبة لكل هؤلاء الأمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس في ذلك الوقت ويتجه يوسف بن تشفين إلى قشتالة ومعه سبعة آلاف فقط من الرجال ولما رأى أهل الأندلس ( الذين كانوا قد اعتادوا على الهوان والذل ودفع الجزية ) رجال يوسف بن تشفين وقد أتوا من بلادهم يحملون أرواحهم على أكفهم وذاهبون للجهاد في سبيل الله تغيرت أذهانهم وأفكارهم فبدأ رجل يخرج معهم من قرطبة ورجل من أشبيلية ورجل يخرج من بطليوس وهكذا حتى وصلوا إلى الزلاقة التي على الحدود مع قشتالة فكم من المسلمين كانوا هناك وقد بدأوا سبعة آلاف فقط ؟ . وصلوا إلى الزلاقة ثلاثين ألف رجل فانظر إلى فعل القدوة فسبعة آلاف رجل يحركون ثلاثة وعشرين ألف رجل وكانوا يدفعون الجزية وتعودوا عليها ولكن لما وجدوا مجاهدين في سبيل الله طاقت نفوسهم إلى الجهاد وتحركت القلوب فالناس بها فطرة طيبة فلا تفقدوا الأمل .

ورأينا شيئا كهذا لما حدثت انتفاضة فلسطين رأينا كيف قام الناس حتى الذين لا يصلون تحركت عواطفها لفلسطين وهكذا حدث لما رأي أهل الأندلس المجاهدون يتحركون .

الآن ثلاثين ألف رجل مجاهد مسلم بقيادة يوسف بن تشفين رحمه الله موجودون في الزلاقة وهذا المكان لم يكن يُعرف بالزلاقة في ذلك الوقت ولكن اشتهر بذلك بعد الموقعة وهناك في الزلاقة يصل إلى يوسف بن تشفين نبأ عجيب من بلاده من المغرب أن ابنه الأكبر قد مات وهذه كانت مصيبة كبيرة جدا فهل فكر في الرجوع إلى المغرب مع عظم المصيبة ولكنه فضل الجهاد في سبيل الله وهو الأمير على ثلث أفريقيا لم يرسل قائدا من قواده ليجاهد بل يجاهد بنفسه وأخذ معه أفضل قوادهداود بن عائشة وأرسل وزيره ليحكم البلاد في غيابه .

وجد يوسف بن تشفين رحمه الله أن النصارى استعدوا بستين ألفا من المقاتلين وعلى رأسهم ألفنسو السادس بعد أن استعان بإيطاليا وفرنسا وانجلترا وألمانيا وبعد أن أخذ وعودا بالغفران من البابا لكل من شارك في موقعة الزلاقة وجاء ألفنسو يحمل الصلبان ويحمل صور المسيح ويقول ( بهذا الجيش أقاتل الإنس والجن وأقاتل ملائكة السماء وأقاتل محمدا وصحبه ) وانظر إلى هذا الكلام فهو يفهم تمام الفهم هذه الحرب الصليبية ضد الإسلام وهنا يفاجئنا يوسف بن تشفين بأمر عجيب فيرسل رسالة إلى ألفنسو السادس كعادة الجيوش في ذلك الوقت فهم يتبادلون الرسائل وانظر إلى رسالة يوسف بن تشفين إلى ألفنسو السادس في موقعة الزلاقة ( بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفنا تعبر بها إلينا فقد عبرنا إليك ( فقد كان يقول ألفنسو لمن معه يا ليت الرب يوفقه لعمل سفن وهو سيعبر إلى يوسف بن تشفين لحربه ) وستعلم عاقبة دعائك وما دعاء الكافرين إلا في ظلال وإني يا ألفنسو السادس أعرض عليك الإسلام أو الجزية عن يد وأنت صاغر أو الحرب ولا أؤجلك إلا ثلاث ) .

غضب ألفنسو السادس من هذا الطلب فكيف يطلب المسلمون منه الجزية وقد أخذها منهم كثيرا هو وآباءه وأجداده فأرسل رسالة يهدد فيها يوسف بن تشفين ويقول له ( وإني اخترت الحرب فما ردك على ذلك ) فيوسف بن تشفين يأخذ الرسالة ويقلبها ويكتب على ظهرها ( الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذُنك ) فهذا رد شديد جدا على ألفنسو السادس فأرسل ألفنسو السادس رسالة فيها تخاذل فيقول له ( غدا يوم الجمعة والجمعة عيد من أعياد المسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين والسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم والأحد عيدنا ) فأراد أن يؤجل الحرب أربعة أيام ولكن يوسف بن تشفين القائد المحنك لم يجعل جيشه يرى هذه الرسالة لأنه يعلم أن هذا الرجل مخادع ويعلم أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ويعلم أن الله قال فيهم { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (100) سورة البقرة .

قام يوسف بن تشفين بإعداد جيشه ووضعه في حالة تعبئة حتى إذا حدث هجوم يكون مستعدا ولم يهتم بما قاله ألفنسو في رسالته وبدأ بترتيب الجيش يوم الخميس وفي الليل ينام ابن رُمَيلة مع الجيش وابن رميلة هذا من شيوخ قرطبة ونحن نظن أن الشيخ هو من يجلس في المسجد طوال حياته ولكنه كان يخرج يجاهد في سبيل الله حين يأتي الجهاد فهو يملك الفهم الصحيح للإسلام وفي هذه الليلة يرى ابن رميلة رؤيا فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ويقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنكم منصورون وإنك ملاقينا ) ويستيقظ ابن رميلة فرحا مسرورا ولا يستطيع ن يملك نفسه من الفرح ذلك لأنه سيموت في سبيل الله ومن أرض الزلاقة إلى الجنة مباشرة وليس عليه حساب وهذا هو الشهيد .

ذهب ابن رميلة وأيقظ يوسف بن تشفين رحمه الله وأيقظ المعتمد على الله بن عباد الحاضر في الموقعة ويوقظ المتوكل بن الأفطس ويوقظ عبد الله بن بلقين فأيقظ قواد الجيش ويشرح لهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوسف بن تشفين ومن معه لا يملكون أنفسهم من الفرحة فأيقظوا الجيش كله وأخبروه بالرؤيا والجيش كله يعيش في سعادة بالغة لم يذقها من قبل وأمر يوسف بن تشفين بقراءة سورة الأنفال ويأمر الخطباء بأن يحفزوا الناس على الجهاد ويمر هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ويقول ( طوبى لمن أحرز الشهادة ومن بقي فله الأجر والغنيمة ) ويرتب الجيش ويصلون الفجر وبعد الفجر ...........

يغدر ألفنسو السادس كطبيعتهم فهذا هو الأصل الذي يجب أن نعلمه فهجم على المسلمين فوجد الجيش على تعبئة ويوسف بن تشفين قد قسم الجيش لنصفين نصف أمامي ونصف خلفي أما النصف الأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عباد أن يكون قائده ومن معه من الأندلسيين فهو يريد أن يكون بين المسلمين وبين النصارى ويريد أن يغسل عار السنين ويريد أن يمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفنسو السادس ويريد أن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى فيقف المعتمد على الله بن عباد في مقدمة الجيش ومن خلفه داود بن عائشة كبير قواد المرابطين وهذا هو الجيش الأمامي أما الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تشفين رحمه الله يختفي خلف تل من التلال بعيد تماما عن الموقعة والجيش الأول فيه 15 ألف والثاني كذلك وفي الجيش الثاني هناك أربعة آلاف أبعد من الجيش الثاني أي أن الجيش كله مقسم إلى ثلاثة أجزاء فالجزء الأول 15 ألف وهو الأمامي والجزء الثاني 11 ألف ومعهم يوسف بن تشفين والثالث 4 آلاف وهم من رجال السودان المهرة وكانوا يحملون سيوفا هندية وكانوا يحملون رماحا طويلة وكانوا أعظم محاربين في جيش المرابطين وكانوا هم آخر الجيش .

ترى ما هي خطة يوسف بن تشفين ؟ في الواقع هي نفس خطة خالد بن الوليد في فتوح فارس في موقعة الولجة وهي نفس خطة النعمان بن مقرن رضي الله عنه في موقعة نهاوند فيوسف بن تشفين رجل يقرأ التاريخ ويعتبر بالتاريخ .

وتبدأ الموقعة ويهجم ستين ألف نصراني على 15 ألف مسلم وبقية الجيش لا يقاتل لماذا ؟ يريد أن تحتدم المعركة وتنهك قوى الطرفين ولا يستطيعان القتال وهنا يدخل يوسف بن تشفين بجيشه ليعدل الكفة في صف المسلمين وهذه هي سياسة النفس الطويل فلو نظرنا إلى سباق المارثون لو أن المتسابق بدأ المارثون هذا بحماسة وبقوة مرة واحدة فإنه لن يستطيع أن يكمل السباق ولكن يبدأ بالتدريج ويأتي في النهاية ويسرع حتى يجعل السباق في صالحه وهكذا فعل يوسف بن تشفين رحمه الله ويصبر المسلمين أمام ستين ألفا من النصارى حتى أنه مات تحت المعتمد على الله بن عباد ثلاثة خيول وهو صابر حتى يكاد لا يرى من الدماء وانظر إلى تربية أرض الجهاد وإلى تربية يوسف بن تشفين وهناك بعد العصر يشير يوسف بن تشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدوا إخوانكم أشار إليهم بعد صلاة العصر والمعركة بدأت بعد الفجر فنزل يوسف بن تشفين بعد أن أنهكت قوى المسلمين والنصارى وينزل يوسف بن تشفين ومن معه وهم مستريحون بعد طول صبر فيحاصرون جيش النصارى ويقسم يوسف بن تشفين من معه إلى قسمين فقسم يساعد مقدمة المسلمين وقسم يلتف خلف جيش النصارى وأول شيء يفعله خلف جيش النصارى يحرق خيام النصارى مع أنها فارغة وليس فيها شيء ولكنه فعل ذلك حتى يعلم النصارى أن يوسف بن تشفين ومن معه في خلف الجيش فيوسف بن تشفين يعلم أن أهم شيء عند هؤلاء الناس أن تنجوا بأنفسها من الموت فلما علموا أنهم محاصرون من خلفهم دبت الهزيمة في قلوبهم وبدأ يحدث الخلل وبدأ يحدث الانسحاب والتف الناس خلف ألفنسو السادس يحمونه فحدثت خلخلة عظيمة في جيش النصارى وفي الضربة الأولى من يوسف بن تشفين لجيش النصارى قُتل منهم 10 آلاف رجل ويقول المؤرخون إن يوسف بن تشفين يتعرض للموت والشهادة وتزداد المعركة حدة حتى المغرب ومن بعيد يشير يوسف بن تشفين رحمه الله إلى الأربعة آلاف فارس من السودان فيأتون من بعيد ويستأصلون النصارى وفي هذه الموقعة قُتل من النصارى 59 ألف وخمسمائة وخمسين رجل ونجا من النصارى أربعمائة وخمسين رجل فقط من النصارى وفيهم ألفنسو السادس بساق واحدة فقد بُترت ساقه في هذه الموقعة وانسحب في جنح الظلام هو وأربعمائة فارس إلى طليطلة وهناك دخلوا طليطلة بمئة فارس فقط فمات في الطريق 350 رجل من الجراح الشديدة التي أصابتهم .

تقاس هذه الموقعة في التاريخ وبلا مبالغة بموقعتي اليرموك والقادسية وانظر كيف إن بعض المسلمين لا يسمعون عن الزلاقة وقد سميت بهذا الاسم لأنها كثرت فيها الدماء حتى كان الرجال والخيول ينزلقون في الأرض الصخرية في أرض الزلاقة وجمع المسلمون غنائم كثيرة وعادوا بغنائمهم الكثيرة وانظر ليوسف بن تشفين يترك كل الغنائم لأهل الأندلس ويعود في زهد عجيب وورع كبير إلى أرض المغرب فيرجع ولا يريد شيئا بعد أن جمع الناس وحثهم على الاجتماع وعلى نبذ الفرقة وعلى التمسك بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ونصحهم بالجهاد في سبيل الله وعاد يوسف بن تشفين البطل الإسلامي المغوار .

ترى كم كان عمر يوسف بن تشفين في موقعة الزلاقة ؟.

كان عنده 79 سنة في موقعة الزلاقة فهذا الشيخ الكبير يحارب وعلى فرسه وبنفسه للجهاد ولعله يموت هناك ولكنه لم يمت هناك .

وبعد عودة يوسف بن تشفين تحدث صراعات بين الأمراء الموجودين في بلاد الأندلس وتحدث صراعات على البلاد المحررة وهنا يضج العلماء ويذهبون إلى يوسف بن تشفين ويقولون يا يوسف تعال وخلصنا من أمراءنا فيتورع يوسف بن تشفين ويسأل نفسه كيف يحارب المسلمين فتأتيه الفتاوى من كل بلاد المسلمين حتى جاءته من الشام من أبي حامد الغزالي صاحب كتاب الإحياء وكان معاصرا وجاءته فتاوى من أبي بكر الطرطوشي العالم المصري وكذلك فتاوى من علماء المالكية في شمال أفريقيا وكانت الفتاوى أن عليه أن يدخل إلى البلاد وتضمها إلى أملاك المسلمين وإلى دولة المرابطين حتى تنقذ المسلمين مما هم فيه فإن هذه البلاد ستضيع إن تركها .

فدخل يوسف بن تشفين الأندلس في سنة 483 هـ أي بعد أربع سنين من موقعة الزلاقة وفي الأندلس قاوموه وحاربوه حتى إن المعتمد على الله بن عباد حاربه فهذا الرجل الذي لم يجد العزة إلا تحت راية يوسف بن تشفين ولكن كيف يستطيع المعتمد على الله أن يحارب يوسف بن تشفين واستطاع يوسف بن تشفين أن يضم كل بلاد الأندلس وأيضا أن يحرر فركوستا وهي التي احتلت بعد أن قسمها الملك المسلم الذي كان عليها بين ابنيه وأصبح يوسف بن تشفين أميرا على بلاد تصل من الأندلس بالقرب من فرنسا إلى وسط أفريقيا وكل هذا دولة واحدة .

وظل يوسف بن تشفين على الحكم حتى سنة 500 هـ وكان قد بلغ من العمر مئة عام ومات رحمه الله في هذه السنة ولم يفتن بالدنيا لحظة والذي كان يملك الدنيا جميعا فقد كانت الأندلس غنية جدا ولكنه لم يفتن بالدنيا فهذا الرجل البطل الرائع كان حتى آخر لحظة في حياته يلبس الخشن من الصوف ولا يأكل إلا الخبز من الشعير ولا يشرب إلا لبن الإبل فرحم الله يوسف بن تشفين ورحم الله أبو بكر بن عمر اللمتوني ورحم الله الشيخ عبد الله بن ياسين ورحم الله الشيخ يحي بن إبراهيم الجُدَالي الذي أتى بالشيخ عبد الله بن ياسين في سنة 440 هـ وفي سنة 500 هـ تصبح دولة المرابطين من أقوى دول العالم أي في خلال ستين سنة فقط .

هذا تلخيص لأحد دروس الشيخ راغب السرجاني عن الأندلس

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك