لقد بدأ صلاح الدين عهده كوزير لمصر بالإقدام على الإصلاح الشامل لأوجه الفساد التى كانت قائمة قبل توليه منصبه والتى شاهدها بنفسه بل وعانى منها مرات عديدة وبالتالى نخلص إلى أن محاربة التقصير والفساد فى المجتمع هى بالطبع مسئولية كل مسلم يهدف إلى نهوض الأمة وبلوغها المرتبة التى قدرها الله لها ولذلك فإن التصدى لأى منكر والقضاء عليه واستبداله بالمعروف يتصدر أولويات الإلتزام نحو الأمة والغرض من عرض ما قامه به صلاح الدين من إصلاحات هو حث كل منا على محاكاته محاكاة عملية نحول بها السلبيات إلى الإيجابيات حتى يتواجد من رجال وشباب الأمة صلاح الدين القرن الحادى والعشرون .
كان وصول الحملة الصليبية إلى دمياط مفاجأة لصلاح الدين الأيوبى الذى كان يتوقع حضورهم إلى بلبيس أو الإسكندرية ولذا كان قد دعم تلكما المدينتين بقوات استعداد لمواجهة الصليبيين ولما كانت الظروف تقتضى بقاء صلاح الدين نفسه فى القاهرة أرسل قوات إلى دمياط تحت قيادة خاله شهاب الدين الحارمى وابن أخيه تقى الدين بن عمر لمساعدة المصريين على صد الهجمات الصليبية وبطبيعة الحال كان صلاح الدين فى موقف لا يحسد عليه من الحرج البالغ لإحاطة المشاكل به من جوانب عديدة فكان مشغول البال بين حملة فتح النوبة فى الجنوب والمشاكل المتراكمة فى القاهرة حتى جاء الصليبيون من الشمال لتتفتح عليه جبهة ثالثة شرها أكبر وأعمق من المشكلتين السابقتين وكان صلاح الدين يواجه تلك التحديات الثلاثة ابتغاءا لمرضاة الله سبحانه وتعالى وبما أن الله جل علاه ينصر من ينصره فقد كفى صلاح الدين مواجهة الصليبيين وقتالهم وقضى على الصليبيين أجمعهم دفعة واحدة ! .
فى ذلك الوقت كان ميعاد فيضان النيل قد حل وبدأت المياه ترتفع كلما اتجهت شمالا ولم يكن الصليبيون يضعون فى الإعتبار أحوال مصر المناخية و كانت دمياط متصلة بمجموعة من الترع المتشعبة التى ترتفع فيها مياه الفيضان بمنسوب عال حتى تدفق إلى البحر وسبحان الله ما بين عشية وضحاها أغرق الفيضان كل من كان فى المعسكرات الصليبية وقذفهم فى اليم ويعلق ستانلى بول أحد المستشرقين الألمان على ما حدث لقوات تلك الحملة الصليبية بقيادة أمورى فقال : " لم يستطع الجيش الصليبى أن يدخل مصر إلا بجثث هامدة أمواتا غير أحياء فقد قضى عليهم فيضان النيل " .
وقد رأى الخليفة العاضد أن يكرم صلاح الدين الأيوبى لضحده الحملة الصليبية التى جاءت لتحتل البلاد فأعطاه ألف ألف دينار ذهبية وما إن وصلت هذه العطية إلى صلاح الدين إلا أن وزع نصفها على صعيد مصر من منطلق حرصه على عدالة التوزيع أما النصف الثانى فقد أودعه فى خزانة الجيش لتكوين جيش مصرى قوى ومدرب على فنون القتال .
بعد هلاك الحملة الصليبية بفترة بسيطة وصل إلى مصر نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وفى تلك اللحظة تظهر الأخلاق الحميدة التى نشأ عليها ذلك القائد المسلم إذ أنه انطلق إلى أسوار القاهرة مستقبلا أبيه وعارضا عليه منصب الوزارة فما أجمل التعبير عن البر بالوالدين والإعتراف بالفضل للوالد و لما كان نجم الدين أيوب رجلا حكيما تعفف عن المنصب ملاطفا ابنه وقائلا له : " لا ينبغى أن نغير موضع السعادة الذى جعله رب العالمين عندنا وأنت يا يوسف موضع هذه السعادة " وأراد الخليفة العاضد إكرام نجم الدين فخصص له إيراد كل من دمياط والأسكندرية .
فى تلك الفترة أقبل صلاح الدين على إصلاحات متنوعة فى مصر وقد شملت اهتماماته مجالات عدالة توزيع الدخل وتوسيع الترع القائمة وشق ترع جديدة وإنشاء مبانى جديدة ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن فقد بدأ صدر نور الدين محمود يضيق من تصرفات صلاح الدين الأيوبى وأحس أنه لم يعد تحت إمرته ويرجع هذا الشعور لعدة مواقف اتخذها صلاح الدين فأولا بعد أن استتب الوضع فى مصر توقع نور الدين أن صلاح الدين سيرسل أموالا من مصر إلى الشام للمساعدة فى محاربة الصليبيين ولكن صلاح الدين أنفق تلك الأموال على الشعب المصرى محاولا النهضة بظروفه المعيشية حتى يشعرهم بفكره الإصلاحى الجديد وثانيا انتظر نور الدين أيضا من صلاح الدين أن يهاجم حصنى الكرك والشوبك عند العقبة وهما الحصنين المهمين للصلبيين الذين يهاجمون الحجيج منهما وبدلا من ذلك وصلت الأخبار إلى نور الدين أن صلاح الدين بدأ يتوسع فى جنوب مصر وفتح النوبة و بعض الأماكن فى غرب مصر مثل برقة وطرابلس فى ليبيا ولعل ذلك كان ثالث الأسباب التى أوغرت صدر نور الدين ضد صلاح الدين إذ شعر أن الأخير بدأ يظهر تغيرا فى علاقته بالدولة النورية ولكن السبب الرئيسى والعميق في التأثير كان يكمن فى تحريض كل من قطب الدين ينال وعين الدولة الياروقى لنور الدين محمود ضد صلاح الدين الأيوبى حيث كانا يطمعان فى منصب الوزارة عندما تولاه صلاح الدين ولقد استطاع هذان الرجلان إقناع نور الدين أن صلاح الدين على وشك الاستقلال بمصر وجعلها إمارة منفصلة عن الدولة النورية وأن صلاح الدين أصبح عاملا ضد وحدة الشام ومصر رغم أن ذلك كان هو الشغل الشاغل لنور الدين منذ فترة طويلة .
ولكن الحقائق كانت عكس ذلك تماما حيث أن صلاح الدين كان يواجه قدرا كبيرا من المشاكل فى مصر تمثلت فى مؤامرات عمارة اليمنى ثم مؤتمن الدولة نجاح وثورة السودانيين وثورة الأرمن وذلك بالإضافة إلى مؤامرتى عباس بن شادى فى قوس وراشد بن سليمان فى النوبة وفى الواقع لم يتمكن صلاح الدين من إخماد القلاقل فى هاتين المنطقتين إلا عندما أرسل أخاه توارن شاه على رأس قوات تمكنت من فتح النوبة .
ولكن الأمور كانت مختلطة على ذهن نور الدين محمود بخصوص تصرفات صلاح الدين التى أسئ تفسيرها للإيقاع بينه وبين صلاح الدين وقد رأى نجم الدين أيوب الضرورة ملحة لمخاطبة ابنه فى شأن علاقته بنور الدين محمود فقال له : " والله لو أن نور الدين أمرنى وخالك وليس على الأرض من يحبك أكثر منا أن نقتلك لقتلناك طوعا وما نفعل ذلك إلا لرجل قضى حياته كلها يغرس فينا كيف يكون الإخلاص لله والله ما يملك نور الدين إلا أن يبعث إليك بحبل وعبد يسوقنك إليه طائعا فتكون طوع بنانه " .
ويعكس ذلك التوجيه القاسى الذى وجهه نجم الدين أيوب لصلاح الدين مدى عدم انبهار الأخير بالمنصب ولا السلطة التى كان ابنه صلاح الدين قد اعتلاهما بل أنه كان يضع دائما نصب عينيه مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الأمة التى كانت تتمثل فى ذلك الوقت فى وحدة الشام ومصر لإسترداد فلسطين وبيت المقدس وهو ما يدل أيضا على حسن التربية التى اتبعها مع ابنه والتى أتت أكلها بالفعل حيث بدأ صلاح الدين يعمل جاهدا على ارضاء نور الدين فقد أسرع صلاح الدين فى إرسال الأموال إلى الشام بالإضافة إلى رسائل الولاء التى كان يوجهها إلى " الأمير السلطان نور الدين محمود " ذلك اللقب الذى كان يدعو له به فى خطبه ويضرب به العملات .
وتبعا لمسئوليته الضخمة ورغبة منه فى تنشأة جيل جديد قادر على النهوض بالأمة شرع صلاح الدين الأيوبى إلى الأطفال ذوى السابعة والثامنة من عمرهم وكان الغرض من ذلك منح هؤلاء الأطفال مدة تعليم تصل إلى عشر سنوات يتشربون فيها بالمسئولية تجاه بارئهم وأمتهم لينشروها بين الرعية و يصيروا نواة لجيش قادر على فتح فلسطين وبيت المقدس وهو الأمر الذى حدث بالفعل عام 583 هجرية .
ولنضع تلك البداية الصحيحة التى سلكها صلاح الدين الأيوبى مثالا نسير على خطاه إذا أردنا تكوين جيل جديد قادر على تحمل مسئولية تنفيذ المسئوليات الملقاة عليه من إعلاء راية الإسلام واسترداد أراضيه وحقوقه المغتصبة ولذلك وجب الإهتمام بالتعليم السليم من خلال إحداث تغييرات جذرية تتيح فرصة التربية والتوعية السليمتين وهنا تصبح الحاجة ماسة إلى اتباع مناهج من شأنها العمل على إبراز أفراد قادرين على القيادة فى المستقبل وقد أقدم صلاح الدين على اتباع خمس خطوات مكنته من تحقيق أهدافه بدءا ذى بدء أنشأ صلاح الدين مدرسة لإكتشاف القدرات وإعداد برامج خاصة للمواهب ثم حرص ذلك القائد المربى على أن يجالس الشباب نخبة من العلماء وكبار الشخصيات الذين يتولون مهمة غرس العقيدة الصحيحة فيمن تعقد عليهم آمال المستقبل كما أعان الهدوء والتوازن القائمين داخل أسرة صلاح الدين أشد العون على إحاطة الأطفال عاطفيا لبناء النفس المطمئنة المطلوبة لإبراز جيل قيادى فى وقت من الأوقات وكذلك اهتم صلاح الدين أن يكون الشباب ملما للأحداث التى تمر بها الأمة فأمر بالدروس الأسبوعية داخل مدارس مصر لتتحدث عن الجهاد فى سبيل الله عز وجل وتحرير الأرض وبث روح الإيمان وإشاعة الأخلاق الحميدة وفى الواقع فإن كل ما فعله صلاح الدين فى هذا الخصوص كان نتيجة لإدراكه أن الأمة لن تنهض إلا بتوفير الوسائل السليمة للتربية والتعليم .
تنبه صلاح الدين إلى ضرورة فتح المناطق الواقعة فى القرن الإفريقى وهى اليمن وعدن ولذلك أرسل توران شاه فى حملة لليمن وبالفعل ركز توارن شاه على منطقة تعز باليمن لتصبح القاعدة الحربية الجنوبية التى حرص صلاح الدين على ضمها تحت سيطرته ليقطع الإتصال بين صليبى أثيوبيا و الصليبيين فى بيت المقدس ونتيجة لخبرته الإستراتيجية رغب صلاح الدين فى أن يكون له عمق استراتيجى فشرع فى فتح برقة ثم طرابلس ثم بعض مناطق تونس .
وكذلك بدت الإصلاحات التى قام بها صلاح الدين والفتوحات التى تمت تحت إمرته واضحة أمام أعين ناظريه حتى أن علاقته بالخليفة العاضد أخذت تتوطد واستغل صلاح الدين تقربه من العاضد فى الحديث إليه عن نور الدين محمود رغبة منه فى جذب انتباه الخليفة الفاطمى إلى ضروروة توحيد الأمة دون أن ينقص من سيادة الدولة الفاطمية وكانت الحوارات التى دارت بين العاضد وصلاح الدين عن نور الدين قد تركزت على صفات ذلك القائد النورى ومن أهمها على الإطلاق أنه لم يكن لديه وقت يضيعه فى ما لا يعود على الأمة بالفائدة ولنتوقف عند هذه النقطة الهامة فى حياة الشباب ألا وهى مشكلة وقت الفراغ الذى يشعرون به وفى الحقيقة فإن هذا الوقت الغير مستغل فى المصلحة يعد من أكبر المفاسد التى تعوق تقدم الأمة وذلك لأن عدم انشغال الشباب بما ينفعهم سيؤدى بهم إلى الإقبال على المفاسد .
واستمر صلاح الدين فى إخبار العاضد عن صفات نور الدين محمود ليحببه فيه ومما حرص صلاح الدين على روايته للعاضد تلك الرؤية التى رأها نور الدين وقد وصف ابن الأثير رؤية القائد النورى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمره للذهاب إلى المدينة ليستنقذه من أيدى رجلين أشار إليهما الرسول الكريم فى تلك الرؤية فما لبث نور الدين محمود إلا أن أمر بعض المقربين له بالتوجه إلى المدينة المنورة لاستكشاف الأمر وأخذ هؤلاء المبوعوثون من قبل نور الدين فى البحث حتى اكتشفوا أن رجلين قدما بالفعل إلى المدينة من فترة بسيطة وقد شاع عنهما تضرعهما إلى الله تبارك و تعالى وحبهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاءت نور الدين أخبار الغريبين عن المدينة المنورة احتار فى تحديد الغرض من مجيئهما فأمر بتفتيش البيت الذى يقيمان فيه فى المدينة وكانت الصدمة الكبرى أن هذين الرجلين كانا قد شرعا فى حفر خندق تجاه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم داخل مسجده وبعد القبض عليهما اعترفا بالجرم الذى قدما لاقترافه إذ كان الصليبيون قد عينوهما لنبش قبر النبى الكريم صلوات الله وسلامه عليه وقد أثرت تلك الرؤية والهمة التى أبداها نور الدين فى تنفيذ التكليف الذى جاءه بالرؤية فى قلب الخليفة العاضد الذى قال: " لو أن لى برجال يطيعوننى مثل نور الدين محمود لملكت الدنيا بأسرها " .
وجاءت الأوامر واضحة من نور الدين محمود إلى صلاح الدين الأيوبى بضرورة إنهاء الخلافة الفاطمية وإعلان ولاء مصر للدولة النورية وتردد صلاح الدين فى تنفيذ الأمر بصورة فورية نظرا لمرض الخليفة العاضد ورقة طباع صلاح الدين التى دعته لللإشفاق على العاضد من وقع ذلك الأمر عليه وبالتالى اجتمع صلاح الدين بالمحيطين به من أهله ومقربيه واتفق الجميع على أن يحدث ذلك الأمر أثناء غياب صلاح الدين عن القاهرة وحيث لا ينمى إلى علم العاضد أن الخلافة قد نزعت منه وأن مصر دخلت تحت إمرة الخليفة العباسى المستضئ بالله وفعلا جاء من دمشق رجلا يلقب بالأمير العالم وخطب الجمعة فى الجامع الأزهر لينهى خطبته دون الدعاء للخليفة العاضد ولا الخلافة الفاطمية وإنما دعى للمستضئ بالله ونور الدين محمود ثم نزل فصلى بالناس دون أن يحدث أى رد فعل سلبى من قبل المصلين ولا من الرعية بعد ذلك لمدة عشرة أيام وفى اليوم العاشر توفى العاضد فبكى صلاح الدين يومها وقال: " لقد قتلناه كمدا على ضياع الخلافة الفاطمية " ومن الأمور التى تلفت الإنتباه أن لفظ " العاضد " يعنى " القاطع " وكأن العاضد كان قاطعا للخلافة الفاطمية فسبحان الله القائل فى محكم آياته : " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى و ترزق من تشاء بغير حساب " ] آل عمران 3 : 26 – 27[ .
ولعل الآيتين الكريمتين تؤكدان ما قدره المولى العلى القدير لشاب مثل صلاح الدين لم يتخطى الخامسة والثلاثين من عمره فيصبح حاكما على مصر و تنتهى على يديه الخلافة الفاطمية التى حكمت مصر مائتى عاما .
وإذ قرب هذا الجزء على نهايته فتجدر الإشارة إلى الخطأ الذى وقع فيه العاضد لفترات طويلة طيلة خلافته إذ أنه لم يأخذ فى عين الاعتبار ضرورة اختيار الصحبة الصالحة لتكون خير عون له فى الحكم ومن المهم بمكان أن يختار المرء صحبته ممن يعينونه على المضى فى طريق النور ويقول الشاعر :
" لا تسأل عن المرء بل اسأل عن قرينه إن القرين بالمقارن يقتدى "
ولا ننسى أيضا مقولة العاضد : " لو أن لى رجال مثل نور الدين لملكت العالم بأسره " وكذلك نرى أن صلاح الدين بعد توليه وزارة مصر بدأ ينتقى المحيطين به فأبقى على من يعينه فى دربه وأبعد من هو دون ذلك .
ولو أن طريق كل منا وهدفه من الحياة هو الفوز بالجنة فلا مناص من أن يدقق فيمن يصاحب ليلازم من يتقى الله عز وجل ويبعد عن من اتبع هواه ولذلك فالمطلوب من كل قارئ أن يراجع صحبته وأخلائه الذين يتمنى أن يكونوا مقابلين له فى الجنة على سرر موضونة وحتى لا يكون يومئذ ضمن من هم بعضهم لبعض عدو والعياذ بالله .
هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك