إن أى حدث تارخى تم ذكره إنما يزداد أهمية للعبرة التى تصحبه ولذلك فالفائدة الحقيقية من القراءة تتحقق بالتنفيذ العملى لما ورد بهذه السلسلة من مهام و توصيات و ان كنا معنيين بالصحبة الصالحة فذلك يرجع إلى ضرورة تواجدها فى حياة كل مسلم حتى يقضى كل وقته فى الخير ولعل كل منا قد راجع قائمة المحيطين به وابتعد عمن يمكن أن يعوقه عن تحقيق أهدافه من عيشة هنية وميتة سوية ومردا غير مخز ولا فاضح كما حدث لصلاح الدين فى الفترة التى صار فجرا للأمة .
بعد وفاة الخليفة الفاطمى العاضد تولى صلاح الدين الأيوبى إمارة مصر منتدبا من قبل نور الدين محمود ومعلنا و لائه له وقد تبع ذلك إعلان نور الدين محمود سلطانا على الشام ومصر تحت إمرة الخليفة العباسى المستضئ بالله ورغم عدم جدوى وجود خليفة ضعيف يسمح بأن تغتصب أراضيه ويتجرأ عليه كل من تسوله نفسه إلا أن نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبى تمسكا بالخلافة العباسية رغبة فى التئام الأمة تحت قيادة واحدة وهو ما يدل على قيمة الوحدة وأهميتها للأمة .
أخذ صلاح الدين الأيوبى يتحرك عسكريا وفقا لسياسة نور الدين محمود الذى كان يرى ضرورة التوجه ناحية الجبهة الشرقية لمصر وقد حاصر صلاح الدين حصنى الكرك والشوبك وكانا من أقوى الحصون لإعتلائهما قمتى جبلين وبالتالى فإن اقتلاع هذين الحصنين من أيدى الصليبيين كان يتطلب وقتا طويلا ومجهودا شاقا وبالإضافة إلى ذلك تمكن صلاح الدين من أن يسقط ميناء أيلة ذو الموقع المهم بالقرب من العقبة وكنتيجة لهذه الجهود توطدت العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين كما كان ذلك يعنى أمانا كبيرا للحجيج إذ أتيح لهم التحرك فى ظل حماية دائمة من صلاح الدين ودون أن تمتد إليهم أيدى الصليبيين بالأذى كما كان يحدث من قبل عند تعرضهم للحجيج والتجارة والنساء وفى الواقع فإن سقوط أيلة كان بمثابة الإنذار للصليبيين بقدوم المارد صلاح الدين الأيوبى .
ولكن أثناء فتح أيلة توفى نجم الدين أيوب والد صلاح الدين فى عام خمسمائة وتسع وستين هجرية وبعدها بفترة وصلت إلى صلاح الدين أخبار وفاة أخيه الأكبر توارن شاه باليمن وكان قد سبق ذلك وفاة كبار المحيطين بصلاح الدين مثل جمال الدين الأصفهانى ثم أسد الدين شيركوه .
وأثناء تفكير صلاح الدين فى استغلال قدراته العسكرية المتنامية توفى نور الدين محمود فى الحادى عشر من شوال لعام خمسمائة وتسع وستين هجرية وعند علم صلاح الدين بتلك الوفاة انفجر فى البكاء خاصة أنه لم يكن قد رأى نور الدين محمود منذ أكثر من سبع سنوات عندما ترك الشام وانطلق إلى مصر وقد زاد من وقع وفاة ذلك العبد الربانى والقائد الفذ أن ابنه إسماعيل كان مازال فى الحادية عشر من عمره وبالتالى لا يستطيع أن يتولى مسئولية الحكم مما أدى إلى استئثار كل أمير من أمراء الشام بإمارته وإعلانه ولائه لنفسه فعاد الأمر إلى ما كان عليه أيام عماد الدين زنكى عندما جاهد وكافح لتوحيد إمارات حلب وحمص وحماة ودمشق وبعلبك والموصل ولم تبق غير حلب تحت إمرة إسماعيل بن نور الدين محمود أما بالنسبة لبقية المدن فقد استأثر شمس الدين بن المقدم بدمشق وعز الدين جرديك بحماة وشمس الدين بن الداية بحلب بصفته وصيا على الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود و سيف الدين غازى بالجزيرة والموصل وكان ابن عم الصالح إسماعيل وهكذا انفرط العقد فجأة وعادت الشام مقسمة .
ولاء المخلص صلاح الدين .
وقد انتابت صلاح الدين الأيوبى الحسرة لذلك التفكك وظل وحده معترفا بالصالح إسماعيل أميرا للشام ومصر وهنا يتضح مدى ولاء صلاح الدين لنور الدين محمود حتى بعد وفاته حتى إن خطبة الجمعة الأولى التالية لوفاته شهدت الدعاء للصالح إسماعيل كما ضرب اسمه على العملات وبهذا يكون صلاح الدين قد برهن على رغم وضعه القوى كأمير لكل من مصر وليبيا وجزء كبير من تونس والنوبة وجزء كبير من السودان واليمن وذلك بالإضافة إلى قوته العسكرية من عدد وعدة والتى كانت تؤهله أن يكون الأقوى بين الأمراء ولكن الولاء بالنسبة لصلاح الدين لم يكن للأقوى وإنما الولاء للأمير الموجود وفقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى يتحدث فيه عن الطاعة والولاء لأى أمير قائلا : " أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " . رواه البخاري ، إذن فالولاء للأمير ليس مرتبطا بشكله أو بالإتفاق معه فى وجهات النظر أو بإمكانياته وكان الصالح إسماعيل هو الخليفة الشرعى لأبيه نور الدين محمود فلم يكن هناك داعى للتفرقة ما بين الإمارات .
و كان من الطبيعى فى ظل هذه الفرقة أن يلجأ أهل الشام إلى استدعاء صلاح الدين الأيوبى الإبن البار لنور الدين محمود بهدف مساعدة الصالح إسماعيل على لم الشمل من جديد ولذلك أصبح لزاما على صلاح الدين أن يتحرك خاصة وأن الصليبيون استغلوا وفاة نور الدين محمود وشنوا غارات على بنياس وحارم وجعبر وغيرها من المناطق الشمالية وعندها بدأ صلاح الدين فى إعداد جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل ليزحف على الشام محاولا إعادة توحيد إماراتها تحت إمرة الصالح إسماعيل .
وفى بداية مسيرته وصل صلاح الدين الأيوبى إلى دمشق واستطاع أن يقنع شمس الدين بن المقدم بضرورة أن يكون الولاء للصالح إسماعيل وانضم شمس الدين بن المقدم لجيش صلاح الدين فى حين تم تعيين سيف الإسلام إسماعيل بن طغتكين أميرا على دمشق أما بالنسبة لحلب فكانت الأمور أكثر تعقيدا فالمفروض أن هذه الإمارة تقع تحت إمرة شمس الدين بن الداية بوصفه وصيا على الصالح إسماعيل ولكن تمكن سعد الدين كمشتكين من حبس شمس الدين بن الداية وفرض نفسه وصيا بالقهر على الصالح إسماعيل وللأسف فما برح سعد الدين أن علم بوصول صلاح الدين إلى الشام حتى أسرع بالتفاوض مع ريموند وبوهيموندو الأميرين الصليبيين فى أنطاكيا وطرابلس واتفق معهم على الدفاع المشترك ضد صلاح الدين الأيوبى وقد طلب الصليبيون فى تلك اللحظة الإفراج عن أرناط ذلك السفاح الذى سفك دماء أعدادا كبيرة من المسلمين أثناء إغارته على القوافل التجارية حتى أن قوافل الحجيج لم تسلم منه ورغم كون سعد الدين كمشتكين مسلما إلا أنه تنكر لتعاليم دينه وأفرج عن السفاح أرناط صاحب الأيدى المغمورة بدماء المسلمين و ذلك فى مقابل أن يعاونه الصليبيون على القضاء على صلاح الدين الأيوبى وفى الحقيقة لا يخلو التاريخ من شخصيات مثل سعد الدين كمشتكين التى تصيب الإنسان بالغثيان عندما يتعرف على أفعالها فهل اتفق سعد الدين مع الصليبيين وأطلق سراح السفاح أرناط من أجل الإسلام ؟ أم من أجل نفسه الأمارة بالسوء ؟ والأسوأ من ذلك أنه اتفق أيضا مع سعد الدين غازى ابن عم الصالح إسماعيل على محاربة صلاح الدين وأيا ما كانت الأسباب التى دعتهما للخروج عن الجماعة فهل يجوز أن تصل بهما الأمور إلى الإقدام على ما فعلاه فى حق الأمة ؟ .
وفى المقابل فعندما سئل صلاح الدين من قبل بعض الأمراء عن سبب مجيئه بعشرة آلاف جندى من مصر أجاب : " والله ما حضرت هاهنا الا لجمع كلمة الإسلام وتهذيب الأمور فإنما أبغى دفع الأذى عن ابن نور الدين محمود وإحاطة الرعية بضرورة الوحدة وسد الثغرات فى أوجه الصليبيين لحماية أرض الإسلام من شرورهم " .
بعد استقرار الأمور فى دمشق زحف صلاح الدين شمالا إلى حماة الواقعة تحت إمرة عز الدين جرديك وللحق فما أن وصل صلاح الدين إلى حماة إلا أن سلمه عز الدين الإمارة فأبقى عليه صلاح الدين بعد أن اطمأن لولائه وبعد فترة قصيرة قام صلاح الدين بإرسال عز الدين جرديك إلى سعد الدين كمشتكين فى حلب للتفاوض معه ولكن سعد الدين أبى إلا أن يعبر عن حقارته فأسر عز الدين ووضعه فى السجن كما كان قد فعل من قبل مع شمس الدين بن الداية وبدى لصلاح الدين أن الأمر لن يحسم إلا بمعركة حربية بينه وبين سعد الدين كمشتكين وسيف الدين غازى لتخليص الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود .
ووقف صلاح الدين بجيشه على أسوار حلب وهى من أقدم المدن تاريخا فهى أقدم من القاهرة ودمشق وبالتالى كانت محصنة تحصينا جيدا وأثناء حصار صلاح الدين لها دارت المفاوضات فى خيمة صلاح الدين بينه وبين المبعوثين من قبل سعد الدين كمشتكين وسيف الدين غازى وقد أبدى صلاح الدين إصراره على الإبقاء على حياة ومصالح الصالح إسماعيل ولكن سوء الظن كان يستأثر بمفاوضيه وأراد صلاح الدين أن يبرهن على حسن نواياه فقبل أن يترك لهم حمص وحماة وأية مدينة شامية فيما عدا دمشق ليحكمها بالنيابة عن الصالح إسماعيل الذى يتولى رسميا أيضا مصر وما فيها من أملاك و بالرغم من كل تلك التنازلات إلا أن سعد الدين كمشتكين وسيف الدين غازى رفضا كل ذلك وشرعا فى الاستعداد لمقاتلة صلاح الدين الأيوبى وكان كل منهما لا يعبأ إلا بطمعه وجشعه غيرعابئين بمصلحة الأمة .
وواجه صلاح الدين فى شهر رمضان جيشا تحارب فيه قوات كل من سعد الدين كمشتكين وسيف الدين غازى جنبا إلى جنب مع الصليبيين وتقهقر صلاح الدين قليلا لإعادة حساباته وعسكر ليلة أراد فيها فتح حلب ولكن كانت يد الخيانة تستعد لعمل شرير آخر بعد أن اغتالت من قبل بلك بن بهرام أمير من بنى أرطق وعماد الدين زنكى وكانت الخيانة هذه المرة تتربص بصلاح الدين الأيوبى لمصلحة فلمن يا ترى كانت تعمل تلك اليد الغادرة ؟ الإجابة تكمن فى ذهاب سعد الدين كمشتكين إلى أمراء الطائفة الباطنية وهى من الطوائف الخارجة عن الدين والتقى بقائدهم راشد الدين سنان وطلب منه اغتيال صلاح الدين الأيوبى وكان أعضاء هذه الطائفة يعتبرون بمثابة سفراء الموت حيث كانوا يقترفون الاغتيالات واحدا بعد الآخر وبدت معالم المؤامرة تتضح ليلة موقعة حلب فإذا بمجموعة من الدخلاء على جيش صلاح الدين تنفذ داخل خيمته وكان صلاح الدين نائما ولكنه اسيقظ فى اللحظة المناسبة وكاد أن يجرح جرحا شديدا فى رقبته يودى بحياته لولا أن تنبه أحد الجند للخائن فقتله وقد تأثر صلاح الدين من ذلك الموقف إذ أنه ما أتى إلى الشام إلا ابتغاءا لتحقيق الوحدة وحماية ابن نور الدين محمود ولم يكن يريد قتالا إلا أن اضطره الخائنين لأمتهم إلى ذلك وفى تلك اللحظة من التأثر دارت الفكرة التالية فى ذهن صلاح الدين : " والله ما أنقذنى رب العالمين من الموت إلا لأمر جعلنى الله تبارك وتعالى سببا فيه " .
وبدأ صلاح الدين فى ضرب حلب ولكن نظرا لمناعتها لم يستطع القائد المسلم اختراقها فتقهقر مبقيا على ما تحت يده من إمارات حمص وحماة ودمشق وبصرى .
استجمام صلاح الدين ... ! .
وعاد صلاح الدين الأيوبى إلى مصر بعد ثلاث سنوات من آخر مغادرة لها وأراد صلاح الدين أن يأخذ قسطا من الراحة بعد التلاحمات العسكرية المتتالية التى واجهها فذهب إلى الأسكندرية ولكن حتى الراحة بالنسبة لصلاح الدين كانت لا تخلو من العمل لصالح الأمة والرعية إذ شرع فى تعلية أسوار المدينة وضاعف من عدد السلاسل بها وبمدينة دمياط كما اهتم بعمارة الأسكندرية وكان يحضر صلاح الدين مع أبنائه دروس الدين ثلاث مرات أسبوعيا وقد بلغ وقتها عدد أبناء صلاح الدين سبعة عشر يكبرهم ابنه الأفضل وكانت تلك الدروس تعقد أيام الخميس والجمعة والسبت للإمام السلفى فى الأسكندرية .
فهل كان صلاح الدين الأيوبى متفرغا لتوحيد الأمة والجهاد فى سبيل الله سبحانه وتعالى ؟ أم أنه كان معنيا بحضور دروس الدين ؟ ، فى الواقع إن حضور صلاح الدين للدروس مع أولاده هو أمر ضرورى للأبناء حتى يشعرون بإحاطة الأب لهم ابتغاءا لمرضاة الله العلى القدير وتكاملا لأفراد الأسرة الواحدة ولذا فعلى كل أب مهما كانت مشغولياته ومسئولياته أن يفرغ وقتا يقضيه مع أسرته لتذكيرهم بالله جل علاه وليس لمجرد الإجتماع على المأكل و المشرب فقط ، فما أطيب أن تجتمع الأسرة لذكر آيات قرانية وأحاديث نبوية وتدارسها وتدبر مواقف الصحابة الكرام رضى الله عنهم وبالتالى يزداد الإيمان عند جميع أفراد الأسرة ويجازيهم الله على جلستهم فى ذكره فى الحياة الدنيا بتجمعهم فى جلسات النعيم الأبدى بالجنة .
بلغت الأخبار إلى صلاح الدين أن الصليبيون عادوا للإغارة على بنياس فكان ذلك استنفارا لشهامته ورجولته واستعد للعودة إلى الشام لمواجهة المعتدين على رأس جيش قوامه عشرين ألف مقاتل وتحرك صلاح الدين سريعا بالقرب من بيت المقدس ليتجه نحو منطقة الرملة وهناك حدث أمرا لم ينسه صلاح الدين بقية عمره بل كان سببا فى تغيير منظومة تفكيره إلى حد ما إذ أنه خسر صلاح معركة أمام مجموعة بسيطة من جند الصليبيين ولتكن خسارة تلك المعركة أو " الدرس" الذى وعيه صلاح الدين الأيوبى موضوع الجزء القادم بما فيه من تفاصيل وعبر وعلاقته بشخصية صلاح الدين و أثره على الشعب وتفاعل الشعب المصرى إثر تلك الهزيمة التى حدثت فى الرملة .
تضمن هذا الجزء أحداثا تاريخية عديدة تباينت فيها النيات ما بين مواقف وأحداث أراد لها صاحبها النية الحسنة ولكنها أخذت من قبيل أطراف أخرى على غيرما قصد منها وبين أفعال كانت فيها النية السيئة مبيتة رغم إدعاء صاحبها بالإنتماء إلى الإسلام ولذا فالمطلوب من كل فرد أن يصحح نياته و أن يوجهها لصالح رفعة شأن الأمة ومثالا على ذلك ظل صلاح الدين يجاهد على مدار ثلاث سنوات لتحقيق الوحدة رغم ما أشاعه بعض المغرضين بأن تحركاته كانت تهدف إلى الهيمنة واتساع نطاق السلطة وعلى كل منا أن يبدأ بتصحيح نيته مع الله جل وعلا ثم فيما يخص علاقاتنا بالآخرين ومعاملاتنا معهم ولتسبق النية أى عمل أو قول من أعمالنا وأفعالنا حتى لا يخرج عنا إلا الصواب الذى نبتغى به مرضاة الله سبحانه وتعالى .
هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك