الخميس، 30 أكتوبر 2008

سلطان صلاح الدين

بقدر ما يكون الإقبال على العمل مهما بقدر ما يصبح استحضار نية الخير قبل الإقدام عليه بنفس الأهمية وذلك ضمانا لصلاحه وعليه فينبغى على كل منا التعود على استحضار النية الحسنة قبل الشروع فى أى عمل حتى لايضيع الهدف المرجو منه فى خضم تتابع الأعمال وتنوعها .

إن الهزيمة التى لحقت بصلاح الدين فى موقعة الرملة تعد بمثابة الانكسار المر الذى تحاشى القائد المسلم تجرعه مرة أخرى وحتى يتجنب المرء اللدغ من نفس الجحر مرتين عليه بالتوقف عند موقف الفشل الذى واجهه وتدارسه بغرض تحصيل العبرة منه و بالنسبة لمن يحاسب نفسه ويأخذ الأمور بموضوعية لم يكن الفشل نهاية المطاف أو الحد الذى يدفعه لليأس بل على العكس من ذلك فإن التعلم من أسباب الفشل والعمل على تلافيها يؤدى إلى النجاح .

وصلت الأخبارإلى صلاح الدين فى عام 572 هجرية بأن الصليبيين بدأوا يغيروا على بنياس وعلى دمشق وماحولها فى الوقت الذى كان فيه طغتكين ابن أخو صلاح الدين أميرا على دمشق وكان صلاح الدين يعلم أنه مهما أريق من دماء المسلمين ومهما استبيحت حرماتهم فلن يكون هناك رد فعل إسلامى من جانب سعد الدين كمشتكين أمير حلب ولا من سيف الدين غازى أمير الموصل نظرا للمعاهدات التى كانوا قد أبرموها مع الصليبيين والأمر الملفت للإنتباه أن أنباء غزو الصليبيين لمنطقة دمشق واستباحة الحرمات وأخذ الغنائم من المسلمين جعلت الشعب المصرى يطلب من صلاح الدين الخروج بالجيش المصرى إلى الشام لنجدة أهلها .

وبالفعل فإن هامفرى أمير بنياس تعود على الإغارة على دمشق بهجمات مؤثرة ونظرا لكل ذلك كان لزاما على صلاح الدين أن يسرع إلى الشام ولكن كانت قلعتى الشوبك والكرك الصليبيتين والواقعتين فى صحراء النقب من جنوب فلسطين وبالقرب من الحدود المصرية تمنعان صلاح الدين من السير فى الطريق القصير والمباشر إلى الشام ومن ناحية أخرى كان من الصعب على صلاح الدين أن يسلك الطريق الطويل المحازى للبحر الأحمر والممتد عبر الصحراء الشرقية وبما أن معظم جيوش بيت المقدس فى ذلك الوقت كانت تساعد همفرى فى الإغارة على دمشق أقدم صلاح الدين على المغامرة باختراق الإمارة الصليبية الرئيسية وهى بيت المقدس للوصول سريعا إلى الشام وللأسف حدثت الكارثة والتى تكمن فى انتصار الصليبيين على صلاح الدين ومما زاد الأمر سوءا أن الهزيمة جاءت على يد بلدوين الرابع المصاب بالجزام ولم يكن معه سوى خمسمائة مقاتل من فرسان المعبد ذوى الأهمية الخاصة وتفاصيل الكارثة تروى بأنه بمجرد دخول الجيش المسلم فى إمارة بيت المقدس شاهد صلاح الدين علامات الخلل فى الجيش حيث بدأ الجند يلتفتون للثروات الموجودة فى القرى المحيطة ببيت المقدس وأخذ كل جندى يبحث عن المغانم التى يستطيع جلبها معه وكان نتيجة ذلك أن تفرق جيش صلاح الدين عند مروره بمنطقة الرملة حتى أن عدد الجند المحيطين بصلاح الدين فى ذلك الوقت كان قليلا جدا لأن الآخرون كانوا قد شرعوا فى مهاجمة القرى المجاورة بدافع سعادتهم بالتواجد فى منطقة بيت المقدس بعد سبعين عاما من احتلالها ورغبة منهم فى بث الرهبة فى نفوس ساكنيها وفى هذه اللحظة انقض بلدوين على صلاح الدين ودفعه للتقهقر إلى صحراء سيناء .

هزم صلاح الدين وبدأت الأخبار تتناقل بأن صلاح الدين هزم فى الرملة وبالطبع فإن تلك الهزيمة كان لها أسوأ الأثر فى نفوس أهل الشام حيث هبطت معنوياتهم لأن الأمل كان معقودا على صلاح الدين فى مواصلة الانتصارات .

بعد التقهقر أمام الصليبيين أخذ جيش صلاح الدين يلم فلوله فى طريق العودة إلى مصر ولكن صلاح الدين لم يعد واختفى صلاح الدين فى ظروف غامضة وظل الناس يبحثون عنه لمدة شهر بأكمله وقد تاه صلاح الدين فى صحراء سيناء ولم يتم العثور عليه إلا بعد أن أرشد عنه بعض عربان سيناء وكنتيجة للمحاولات الدؤبة التى أجراها القاضى الفاضل أقرب أصدقاء صلاح الدين إلى قلبه وقد عثر على صلاح الدين ومجموعة من الجند وهم على مشارف الموت بسبب نفاذ المياه والغذاء وتمت نجدة هؤلاء التائهين فى الصحراء وعادوا إلى مصر .

أما الشعب المصرى فقد تجمع حول قصر صلاح الدين فى القاهرة وأخذ يقذف أفراد الجيش بالطوب والطماطم من شدة تأثير الصدمة التى انتابته بعد كارثة " الرملة " وتعبيرا عن الغضب العميق الذى عم مختلف طبقات الشعب جاءت مقولة أحد الشباب إلى صلاح الدين : " أقبلت من الغنيمة بالإياب " أى أنك لم تعد بغنائم وإنما عدت بنفسك وليتك قد استشهدت فى المعركة ولم نسمع أن صلاح الدين قد هزم ولم يكن هذا التغير الذى طرأ بفكر الرعية مجرد لحظة حماس تملكت من شاب أخذته النخوة وإنما كان نتيجة جهد التربية الذى كان قد بذله صلاح الدين والمعانى التى قد غرسها فى الشعب الذى كان من قبل ضحية لطمع و ابتزاز الوزراء ولقمة سائغة أمام عبث الصليبيين بالبلاد ولكن جاء التغير فى مدارك الشعب ومفاهيمه بحيث أصبح يشعر بمعانى الجهاد والانتصار المختلف .

فى هذه اللحظة الدقيقة من حياته استشعر صلاح الدين الأيوبى ضرورة استيعاب الدرس لأنه لم يكن هناك أعذار إذ أن صلاح الدين كان قد غادر مصر غداة موقعة " الرملة " على رأس جيش قوامه عشرين ألف مقاتلا من خيرة الشباب ولكن الذى أصاب جيش صلاح الدين هو الذى أصاب الصحابة يوم " أحد " فقال فيهم الله عز وجل : " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ] آل عمران 3 : 152[

قبيل موقعة " أحد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر فريق الرماة بأن يبقوا أعلى الجبل وألا يغادروا مواقعهم حتى وإن رأوا الرسول و الصحابة يتخطفون من الأرض تخطيفا ولكن ما إن بدأت علامات النصر تبدو لهم حتى نزل أربعين منهم من الجبل ليجمعوا الغنائم ورغم أن أمر النبى صلى الله عليه وسلم كان بأذهانهم إلا أن نفوسهم طغت عليهم وعصوا الأمر فإذا بالمشركين ينقضون عليهم ليقتلوهم ويجرحون النبى عليه الصلاة و السلام ولم يشفع للصحابة وجود الرسول بينهم إنما وقع عليهم جزاء معصيتهم وكأن التاريخ يعيد نفسه فالهزيمة لا تأتى من الأعداء وإنما من ضعف النفوس ذاتها وفعلا لم يكن جيش صلاح الدين قد أعد بعد الإعداد الحقيقى حتى يأتى الانتصار على يديه وكان لا بد من إعادة القلوب إلى وضعها التأهيلى من الاستعداد الحقيقى والصبر على الجيش حتى تنمى فيه المعانى الإيمانية وحينئذ يأتى النصر فتفتح فلسطين وبيت المقدس كما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة .

كان من ضمن النتائج السلبية لهزيمة " الرملة " وقوع عيسى الهكاري فى الأسر وكان شيخا كبيرا وأستاذا من أساتذة علم الحديث وفى نفس الوقت كان الصديق الحميم لأسد الدين شيركوه فى حياته ولم يكن أسد الدين يصلى خلف أى شخص آخر غيره ولما مات أسد الدين أصبح عيسى الهكاري معلم صلاح الدين ومرشده الأول ولذلك بدأ صلاح الدين يتفاوض مع بلدوين الرابع لفك أسر عيسى الهكاري وطلب ساعتها بلدوين مبلغ ألف ألف دينار ذهبية فدية لعيسى الهكاري وبالطبع كان مبلغا ضخما يكفى لإعداد أكثر من جيش ولم يكن بيت مال المسلمين به ذلك المبلغ فدفع صلاح الدين من ماله الخاص ما يكمل به هذا المبلغ فما كانت إذن قيمة عيسى الهكاري حتى يقبل صلاح الدين دفع هذا المبلغ الهائل ؟ وفى الحقيقة كانت قيمة عيسى الهكاري تكمن فى إرشاده الآخرين للخير وتعرف قيمة الأمم بقدر تقديرها لعلمائها إذن فلننظر إلى مشايخنا وخطبائنا فى وقتنا الحالى ولنرى إن كانوا معززين مكرمين وإن كان مريضهم يتلقى العلاج المناسب بمصر أو خارجها وإن كانت تمتد إليهم يد المعونة فعندما يكون النصر بغيتنا لابد من أن نراعى من يوجهونا إلى فعل الخير وإلى الصواب مثلما كان عيسى الهكاري يفعل وعندما أراد بعض المحيطين بصلاح الدين مؤاخذته على دفع ذلك المبلغ الضخم لتحرير عيسى الهكاري من الأسر رد قائلا: " والله لو طلبوا عشرة ألف ألف دينار لفك أسر عيسى الهكاري لدفعتها عن يد وأنا راض وعندما يسألنى رب العالمين أقول له كان يرشدنا إلى الخير" وبالتالى فمن يرشد إلى الخير لابد وأن يوضع فى مكانة راقية من الاحترام والتقدير وللأسف فالحال معكوس عندنا حيث تنال التقدير شخصيات سطحية لا نفع حقيقى من ورائها .

بحلول عام 573 هجرية بدأت تظهر فى الأفق آثار غياب صلاح الدين مما أثار حفيظة كل من بلدوين وهمفرى وبوهيموندو وريموند الأمراء الرئيسيين للإمارات الصليبية لاحتلال المزيد من الأراضى الإسلامية وبالفعل هاجم الصليبيون حارم وبنياس وأعماق دمشق وحمص وهكذا كان الغرب قد تعود على هزيمتنا نفسيا من خلال غرس الخشية فى قلوبنا من قوتهم العظمى التى لا أساس لها من الواقع ومازال الغربيون يتبعون هذا الأسلوب حتى الآن إذ تركز أفلامهم السنيمائية على دورالبطل الخارق الذى لا يقهر وبالطبع كل هذه المحاولات للإيحاء بقوتهم وضعفنا ما هى إلا أوهام بلا أصل وهذا ما حدث بالنسبة للأقاويل المصاحبة لبناء " قلعة الأحزان " فما أن شرع الصليبيون فى بناء تلك القلعة حتى أشاعوا أنها أضخم قلعة فى التاريخ حيث يمتد عرض أسوارها إلى عشرة أمتار وأحجارها مماثلة لأحجار الأهرامات وحشدت بها أكثر من مائة ألف قطعة عسكرية وبها كم كبير من الثروات و موقعها استراتيجى يمكن الإنطلاق منه إلى مختلف الإتجاهات للإغارة على بلاد المسلمين وبدأت الإشاعات المحبطة تصل إلى صلاح الدين ومؤداها أن المسلمين لا قبل لهم بهدها ولقد فكر صلاح الدين فى التفاوض معهم حتى لا يكملوا بناء " قلعة الأحزان " ولكن تقى الدين عمر بن توارن شاه قال بشأن تلك القلعة : " دعوهم يكملوا بناءها ويرفعوا أسوارها وينشروا الأساطير عنها ويملئوا الدنيا بأخبارها حتى إذا ما أتموها على أكمل ما يظنون جاءهم الله بقوم يحسنون الظن بالله فيدكوها على رؤسهم ويقتلعوها من جذورها وإنا بإذن الله ونصره لفاعلون " وتجدر الإشارة إلى نوعية المحيطين بصلاح الدين الأيوبى وأنه لم يحقق الانتصارات بمفرده إذن فإن بلوغ النصر على الأعداء لا يأتى إلا عندما يكون هناك جيل كامل من القيادات التى تتمتع بنفس الفكر لتحرير الأراضى الإسلامية المغتصبة ويواصل تقى الدين عمر تعليقه على " قلعة الأحزان " قائلا لصلاح الدين : " ادفع لنا الأموال التى ستدفعها إلى بلدوين ونحصد لك هذه القلعة حصدا " .

وهكذا يكون اليقين على الله تبارك وتعالى قد ترسخ فى قلوب المحيطين بصلاح الدين الأيوبى من أمثال تقى الدين عمر بن توارن شاه وناصر الدين بن أسد الدين شيركوه وسيف الدين على بن أحمد المشطوب وأخيه العادل أبى بكر وعز الدين فروج شاه ومظفر الدين وكان هؤلاء عبارة عن مجموعة مميزة من الجند والقيادات ذات الفكر الثابت والبصيرة الصائبة والفكرة الواضحة وكان لدى كل منهم التصور الصحيح للدور المطلوب منه فى الحياة من خلال عبادته لله عز وجل كما كانوا يتعاونون على القيام بمهامهم ويأخذ كل منهم بأزر الآخرين .

و بناءا على كل ما سبق كان لزاما على صلاح الدين أن يتحرك على طريق استنزاف مقدرات الإمارات الصليبية وعزم القائد المسلم على العمل بكل قوة على وقف نزيف الدم المسلم بحيث لا يقتل مستقبلا طفل من أطفال المسلمين ولا تنتهك حرمة امرأة مسلمة ولا تقتلع شجرة من أرض مسلمة مهما كانت الأسباب .

وبدأ صلاح الدين يحدد أماكن تواجد قواته داخل نطاق الشام وبالفعل وضع مجموعة من شباب القادة الموثوق فى قدرتهم من أمثال تقى الدين عمر الذى عينه فى حماة لصد أى هجمة يقوم بها بوهيموندو الثالث وناصر الدين بن أسد الدين فى حمص لقمع الهجمات الصليبية الآتية من بيروت أو طرابلس و سيف الدين على بن أحمد المشطوب فى سهل البقاع للمراقبة والإخبار بأى هجمة صليبية فى مهدها وفى نفس الوقت كان العادل أبو بكر أخو صلاح الدين يمده بالقوات من خلال تحركه من مصر إلى الشام وهكذا كانت تلك المجموعة أشبه بخلية من خلايا النحل التى يتحرك افرادها فى كل مكان و توسعت الجبهة حتى لم يكن المسلمون يكتفون بإشعال معركة واحدة فى نفس الوقت بل حدث أن دارت ثلاث معارك فى يوم واحد وانتهت ثلاثتها بانتصار المسلمين وبدأت صورة القوات الإسلامية تتغير بالفعل بعد أن استفادت من خطأها فى موقعة " الرملة " وأمرصلاح الدين بدك ميناء عكا بواسطة الأسطول المصرى وعلى رأسه حسام الدين لؤلؤ وكان ذلك الميناء من الأهمية بمكان لدى الصليبيين لما يحويه من فرسان الدادية والإسبتارية المشهورين بفرسان المعبد الذين كانوا يكنون للإسلام أقصى درجات الحقد وكانوا صفوة الجند الصليبى .

وفى الواقع فإن كل تلك الهجمات والانتصارات التى حققها المسلمون كانت تعنى أن المارد المسلم قد استيقظ من سباته وبإذن الله سيأتى علينا قريبا اليوم الذى لا يرى فيه المسلم رصاصة تخترق قلب طفلة عمرها تسعة أشهر دون أن يرد الصاع صاعين وسيأتى اليوم الذى لن يجرؤ فيه أى صهيونى أن يهد بآلياته بيوت المسلمين ليشرد المئات والآلاف والمسلمون يكتفون بالتنديد والشجب والدعم القولى المفرغ من أى رد عملى وسيأتى اليوم الذى لن تقتلع فيه أشجار الزيتون كما تقتلع الآن ومثلما جاء الله تبارك وتعالى بالخير على أيدى صلاح الدين سيأتى اليوم الذى تخرج فيه هذه الأمة لنا القائد الذى يأخذ بأيدينا لطريق النصر .

وفى الشام أخذت الأحداث تتوالى حيث خضعت لصلاح الدين جميع إمارات الشام فيما عدا حلب التي يحكمها سعد الدين كمشتكين كوصى قهرى على الصالح إسماعيل والموصل التى تقع تحت إمرة سيف الدين غازى وكانت تتبع لصلاح الدين أيضا اليمن ومصر والنوبة وبرقة وطرابلس وجزء من تونس وكان صلاح الدين يرغب فى ضم حلب والموصل حتى تصبح الجبهة الإسلامية كلها موحدة ولكن كانت هناك اتفاقيات بين سعد الدين كمشتكين وسيف الدين غازى وبين الصليبيين فلم يلبوا نداء الوحدة ولكن صلاح الدين اتفق معهم على ألا يأتى أذى الصليبيين من ناحيتهم ولم يكن صلاح الدين يترك فى تلك الفترة فرصة لموقعة ضد الصليبيين إلا وخاضها وكبر إحساس العزة لدى المسلمين بفضل تأييد الله عز وجل لهم وهو القائل فى كتابه الحكيم : " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ] محمد : 7 [ .

وأراد بوهيموندو اسغلال فرصة وجود صلاح الدين فى دمشق للإغارة على حماة وحارم فقد وصلت الأخبار إلى تقى الدين عمر بأن بوهيموندو خرج فى عشرين ألف مقاتل فى اتجاه هذين الموقعين الإسلاميين وفورا قام تقى الدين بإبلاغ الخبر بواسطة الحمام الزاجل إلى صلاح الدين الذى أرسل إليه بأن يخرج لمباغتة جيش بوهيموندو وسحبه إلى السهول حتى يصل إليه صلاح الدين بقواته من دمشق وهكذا كانت الرسالة واضحة فى عدم إلتحام تقى الدين ومن معه فى قتال مباشر ضد الجيش الصليبى إلى أن يستكمل الجيش المسلم عدده وعدته بوصول صلاح الدين على رأس القوات المصاحبة له و كان جيش تقى الدين عمر يتألف من ثمنمائة مقاتل لا غير فى الوقت الذى واجه فيه جيش بوهيموندو ذو العشرين ألف مقاتل أى أن النسبة العددية كانت 1 إلى 25 لصالح الصليبيين لكن ابن الأثير يروى أن تقى الدين قال لنفسه: " ها قد حانت لحظة الشهادة لن تجد أفضل منها يا عمر لتلحق بأعمامك و أخوالك تلقاهم فى الفردوس الأعلى يغفر الله لى معصيتى عدم طاعتى لعمى صلاح الدين " وانطلق تقى الدين عمر يقاتل العشرين ألف بقيادة بوهيموندو ولينتصر عليهم فى حارم وفى نهاية اليوم وقبل أن يصل صلاح الدين الأيوبى إلى أرض المعركة وصلته أخبار انتصار ابن أخيه على جيش بوهيموندو فهل استطاع فعلا الثمنمائة مسلم الانتصار على العشرين ألف صليبى ؟ ... الإجابة على هذا السؤال توضح أن ذلك الانتصار الفعلى الذى حدث إنما كان مثالا لما وعد الله به عباده المخلصين إذ قال عز من قائل : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ]البقرة 2 : 249[ .

أما معركة " مرج العيون " فقد جرت بعد ذلك فى موقع قريب من حطين ولذلك فظروف تلك الموقعة وموقعها الجغرافى جعلوا منها التمهيد الأخير قبل معركة حطين وقد واجه صلاح الدين فى " مرج العيون " الأمراء الصليبيين همفرى وبلدوين وريموند وانتصر عليهم وفى تلك المعركة قتل همفرى و أسر ريموند ثم فك صلاح الدين أسره فى نفس اليوم .

إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

ثم فى عام 574 هجرية وقعت موقعة " تل القاضى " وهى التى أخذ فيها صلاح الدين على غرة ولكن تقى الدين عمر لحق بعمه واستطاع أن يثبته وفى الواقع فإن كل تلك الانتصارات جاءت تباعا كنتيجة للتغير الذى طرأ على الأمة ولم يكن هذا التغير تغيرا فى الإمكانيات ولا المعطيات وإنما كان فى سلوك الأفراد وتفكيرهم حيث عادوا لاتباع المنهج الإلهى فى التعامل مع الأمور وكما أن الشعب المصرى يعج بالمشاكل وتحفه المخاطر من كل جهة حاليا فتلك بالضبط كانت حاله قبل أن يتفاعل إيجابيا مع الإصلاحات التى أحدثها صلاح الدين الأيوبى فكما تغير السلوك وتغيرت المفاهيم ساعتها فتحققت الانتصارات وشعر المسلمون بالعزة إذن فلا مناص أن نغير من أنفسنا حتى نفوز بما فاز به أجدادنا فى ذلك الوقت ولابد أن يشمل هذا التغير العديد والعديد من أوجه أنشطتنا فى حياتنا اليومية وعلى سبيل المثال ينبغى أن تكون هناك عدالة فى التوزيع بحيث يتم استبعاد المنتفعين ويشعر الأفراد بأنهم سواسية فى الحقوق والواجبات وساعتها تخرج الأمة من أزماتها وتعود إلى العطاء الذى يميزها بين سائر الأمم .

وفى الحقيقة لم يأت صلاح الدين بجديد وإنما قام بأهم أمر ألا وهو إعادة ترتيب البيت من الداخل فصلحت الأمور وصلح الرعية ورضى الله تبارك و تعالى فحلت البركات وتوالت الانتصارت والدليل على ذلك أنه عندما حل المساء بعد الانتصار فى موقعة " تل القاضى " أخذ صلاح الدين يتفقد أحوال الجند ويوزع الغنائم ثم شهدت تلك الليلة توجه وشكر نعمة مستمرين من صلاح الدين إلى ربه وبارئه حيث صلى الفجر بوضوء العشاء وإن دل ذلك على شيئ فيدل على أنه أمضى ليلته فى طاعة الله عز وجل رغم ما كان عليه من جهد يوم سابق ومعركة مضنية ولكن صلاح الدين كان يدرك تماما أن النصر ما جاء إلا من عند الله العلى القدير فوجب عليه استشعار تلك النعمة وسائر النعم التى أغدق بها الله عليه منذ جعله فى قرار مكين .

وإذا كان صلاح الدين قد حرص على شكر الله على نعمته فذلك لأن تلك العبادة كانت قد غرست فيه من الصغر وأصبحت عادة يداوم عليها ولا يغفل عنها ويقول الله عز وجل : " وقليل من عبادي الشكور " ] سبأ 34 : 13[ .

فما أطيب أن تصبح عبادة شكر النعمة عادتنا التى لا نتخلى عنها لما فيها من عرفان لله تبارك وتعالى بنعمه التى أسبغها علينا ولما يستتبع ذلك أيضا من رضاه جل شأنه علينا ويؤدى شكر النعمة قولا من خلال الأذكار والتحدث عن تلك النعم كما يؤدى فعلا بالمحافظة على النعمة واستشعار قيمتها وأداء المناسك الخاصة بذلك مثل سجدة الشكر وزيادة الطاعات والامتناع عن المعصية فلنحرص على شكر نعمة الله الرحمن الرحيم لندخل فى دائرة الأقلين .

هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك