الخميس، 30 أكتوبر 2008

تفكير صلاح الدين في الوحدة

لما كانت العلاقة مع الله سبحانه وتعالى هى الأساس الصحيح والوحيد للسعادة فى الدنيا والآخرة وجب إذن علينا أن نتحرى إذا كانت قلوبنا تعى هذه الحقيقة وتعمل بناءا عليها أم أنه ما زال ينقصها التوجه المبدئى فى الإتجاه السوى ولا شك أن الرجوع إلى النفس سوف يكشف السلبيات التى نحتاج إلى إصلاحها حتى يستقيم أمرنا مع بارئنا ونعود إليه بقلب سليم .

ولا شك أن الوحدة كنتيجة وغرض مستهدف لابد وأن يكون لها مسبقات واستعدادات تمهد لها الطريق الشاق والطويل ولذلك فمن الطبيعى أن نعرض مجهودات صلاح الدين للوصول إلى الوحدة المنشودة ولقد عانى ذلك القائد المسلم فى سبيل ذلك أشد المعاناة وعلى سبيل المثال لم يستطع سلطان مصر والشام حتى سنة 579 هجرية أن يضم إمارة الموصل إلى الوحدة الإسلامية وكانت فكرة رفض الوحدة قد تملكت تماما من رأس سيف الدين غازى أمير تلك المنطقة حتى أنه رفض إمداد يد العون لصلاح الدين فى مواجهة الصليبيين وبناءا عليه عقد صلاح الدين معاهدة عدم اعتداء نهائية مع بلدوين الرابع أمير بيت المقدس وجاءت المعاهدة الأخيرة خلفا للأولى التى خرقها أرناط أمير قلعة الكرك وفى الحقيقة كان بلدوين الرابع رافضا لأفعال أرناط المشينة ولكنه فى نفس الوقت لم يشأ أن يخسر دعم أرض الحربى حتى لا يبدو ضعفه أمام صلاح الدين الأيوبى .

ومات بلدوين الرابع بعد أن عانى طويلا من مرض الجزام وتولى الإمارة بعده ابنه بلدوين الخامس وكان طفلا فى السابعة من عمره وبالتالى بدأت الخلافات على القيادة هل سيتولاها ريموند أمير طرابلس أو جابلوس جان أمير بيت المقدس وكان كل ذلك فى صالح المسلمين فسبحان الله الذى قدر الأمور على ذلك الوضع وبالفعل استفاد صلاح الدين الأيوبى من تلك الخلافات فى إحداث المزيد من الشقاق بين الأمراء الصليبيين بعضهم والبعض الآخر فعقد معاهدة مع ريموند تسمح لصلاح الدين بمهاجمة إمارة بيت المقدس أو أنطاكيا بالمرور على أرض طرابلس وكأن صلاح الدين أراد أن يسقيهم من الكأس التى جرعوه إياها من قبل عندما كانوا يتعاهدون مع بعض الأمراء المسلمين ضد أمراء مسلمين آخرين .

ولم يكن صلاح الدين ليرضى بأقل من الوحدة الإسلامية الشاملة ولذلك أسرع بالدعوة لعقد أول مؤتمر للوحدة الإسلامية لبحث كافة أحوال الأمة وحضرت بالفعل الوفود من مشارق الأرض ومغاربها لحضور ذلك المؤتمر الذى كان يهدف إلى نبذ الخلاف وإقامة الوحدة الشاملة من أجل الإقبال على المعركة الفاصلة التى يتم فيها استرداد بيت المقدس ولكن كان لسيف الدين غازى أمير الموصل رأيا آخرا إذ أنه لم يحضر ذلك المؤتمر واكتفى بإرسال من يمثله ومما زاد الطينة بلة أن مبعوث سيف الدين غازى أساء الأدب تجاه صلاح الدين الأيوبى وانفض المؤتمر دون انضمام الموصل إلى الوحدة القائمة بين الإمارات الأخرى .

وفى عام 581 هجرية أى بعد مضى عامين من انقضاء المؤتمر الإسلامى ورفض سيف الدين غازى الانضمام للوحدة الإسلامية مرض صلاح الدين مرضا شديدا واحتار الأطباء فى تشخيصه وعلاجه حتى أن الأخبار وصلت إلى الموصل ودمشق وحمص وحماة والقاهرة أن صلاح السلطان على مشارف الموت وأن الأطباء يإسوا من إمكانية علاج حالته ولأن الله سبحانه وتعالى هو وحده عالم الغيب والشهادة اعتقد الجميع أن اللحظات الباقية فى عمر صلاح الدين أصبحت معدودة وبناءا على هذا التصور الإنسانى القاصر أخذ المحيطون بسيف الدين غازى ينصحونه بالانصياع تحت لواء صلاح الدين الأيوبى قبل وفاته حتى إذا حضرته الوفاة حل سيف الدين محله سلطانا وحاكما واحدا كما كان حال صلاح الدين وبالفعل فإن أول لقاء جمع بين صلاح الدين وسيف الدين بعد سنين طويلة كان فى خيمة الأول وهو محاط بالأطباء اليائسين من علاجه ولم يقدم صلاح الدين على معاتبة سيف الدين على أى من أفعاله المستنكرة ولا حتى على موت أخو صلاح الدين على أطراف حلب بسيف من سيوف جيش سيف الدين غازى وأبرمت معاهدة بين صلاح الدين وسيف الدين قام على أثرها سيف الدين باخضاع قوات الموصل تحت إمرة السلطان والتعهد بإرسال المزيد من الإمدادات لصلاح الدين .

ويشاء السميع العليم أن يشفى صلاح الدين الأيوبى من مرضه بعد أيام قليلة من الإتفاق الذى وقعه معه سيف الدين غازى والذى يقضى بانضمام الموصل للوحدة الإسلامية تحت إمرة السلطان صلاح الدين الأيوبى .

وبذلك أصبحت القوى الإسلامية كلها موحدة وموجهة للمعركة الفاصلة التى ينتظرها العالم بأسره منذ أكثر من واحد وتسعين عاما وكان يقين صلاح الدين على الإنتصار يقينا راسخا ومستمرا وأصبحت المسألة بالنسبة له مسألة وقت لا غير ولكن هذا اليقين جاء بعد أن تخلص صلاح الدين من أسباب الإنهيار وعلى رأسها التفكك فجاءت الوحدة لتضئ طريق اليقين على الإنتصار وبالفعل فإذا نظرنا إلى الخمسين عاما الماضية نجد أن الإنتصار الوحيد على أعداء الإسلام لم يتحقق إلا بعد توحيد التنظيم و لتنفيذ لكل من الجيشين المصرى والسورى اللذان واجها العدو الصهيونى فى نفس الوقت على الجبهتين وعدها اجتاحت الفئة الباغية أراضى الإسلام فى مناطق عديدة وتفرقة والغريب أن المسلمين بعيدين فى وقتنا الحالى عن منهج الوحدة الذى سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنهم نسوا قول الله تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " ] آل عمران 3 : 103[ .

ونظرا للأهمية القصوى التى أولاها الإسلام للوحدة لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسبة إلا ونبه فيها على ضرورة التوحد فلننظر كيف يصف النبى الكريم علاقة المسلم بأخيه المسلم عندما قال : " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . متفق عليه .

وإذا أردنا أن يرتفع شأننا بين الأمم وأن نسترجع حقوقنا وأراضينا المغتصبة فلابد أن نراجع علاقاتنا مع أخوتنا فى الإسلام لنحدد إذا كانت تسير على النهج السليم أم أنها تحتاج إلى تقويم .

وإذا كان البعض يشير إلى تعدد المذاهب على أنه خلاف فى الدين فالأمر ليس كذلك بالمرة لأن أئمة المذاهب الأربعة أثبتوا كافة أركان الإسلام وقواعده وإنما كان لبعضهم الأرآء الفقهية المختلفة التى تؤدى فى النهاية إلى توسيع المدارك والدليل على ذلك أن الإمام الشافعي يقول : " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" وتعد تلك المقولة دعوة لسعة الصدر والاستعداد لقبول الرأى الآخر وعلى سبيل المثال لم يكن الإمام الشافعى مواظبا على سنة القنوط فى الصلاة وإنما كان يؤديها أحيانا فقط اتباعا لحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم وقوع العامة فى خلط الفرض بالنفل ومثال آخر ضربه الإمام أحمد بن حنبل إذ أنه كان يرى وجوب إعادة الوضوء إذا خرج قدر معين من الدم من جسم الإنسان وذات يوم كان الإمام يقوم بزيارة لشخص يتبع مذهبا آخرا يبيح الصلاة فى حالة الحجامة دون إعادة الوضوء فلما أثير هذا الموضوع اتبع الإمام بن حنبل الرأى الآخر وقال : " مالى لا أقتضى بمالك وسعيد بن المسيب " .

وهكذا يتضح أن هؤلاء الأشخاص كانت لديهم سعة صدر أتاحت لهم تقبل الرأى الآخر وما لنا لا نحاكيهم فى التمسك بالأصول والتغاضى فى الفروع طالما يكون ذلك فى إطار الشرع ؟ والمتأمل فى حال أمتنا فى وقتنا الحالى يجد أنها تستنزف فى ثرواتها الطبيعية ويساء استغلال إمكانياتها البشرية و للأسف نحن غارقون فى الإختلافات السياسية .

وتحضرنا قصة الأب الذى وقف أمام أبنائه وبيده حزمة من الحطب جمعها سويا وطلب من كل من أبنائه أن يكسر الحزمة فلم يستطع أى منهم فعل ذلك ولكن عندما فرق بين العيدان كان من السهل تحطيم الحطب وهكذا الحال بالنسبة لنا .

ولنأخذ العبرة من إحدى أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخذ بعض الصحابة برخصة الإفطار بينما فضل البعض الآخر الصيام وحدث ذلك دون أن يعيب أحد الفريقين على الآخر سلوكه وذلك فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم والسبب فى ذلك يرجع إلى أن هؤلاء الصحابة الكرام كانت عقولهم وقلوبهم مرتبطة بالله جل علاه وكانوا يتمسكون بالمحكم من الآيات ويتركون المتشابهات .

ومن أجل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محدثا السيدة عائشة رضى الله عنها : " لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لَأَمرت بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ " رواه البخاري ، فلنتأمل موقف النبى صلى الله عليه وسلم الذى يميل إلى تقدير ظروف الآخرين قبل أن يقدم على إحداث تغيير فالنبى يرى أن يكون حجر إسماعيل داخل جدران الكعبة وبالتالى فهو يفكر فى هدم الجدران الأربعة وبناء خمسة بدلا منهم ليحيطوا بحجر إسماعيل ولكنه يخشى ألا يتفهم المسلمون من أهل قريش غرضه من هذا التعديل فيتراجع عنه لمصلحة الجماعة .

وإذا كان نبذ الخلاف يبدو ذو أهمية قصوى فذلك لما يتبعه من ترسيخ لوحدة المسلمين فى سبيل الدعوة إلى الله عز وجل وبتطبيق ذلك على مجريات الأحداث فى ذلك الوقت من عصر صلاح الدين الأيوبى نجده حريصا على ضم إمارة الموصل إلى الشام ومصر ولكن غرضه لم يكن عسكريا بالمقام الأول فمهما كان حجم قوات تلك الإمارة فهى لا تقارن بالقوى المتعددة التى تنتمى لجيش الشام ومصر وإنما كان غرضه توحيد كلمة المسلمين قبل خوض معركة "حطين" حتى يقبل على هذه المعركة دون أن يكون هناك مجال للفرقة فتقع الهزيمة .

وبناءا على ما سبق فلابد وأن يكون فى ذهن المسلم أننا لن نستطيع أن نسترجع فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو غيرها من بلاد المسلمين ونحن على هذه الحال من الفرقة وإذا كانت أوروبا قد كونت اتحادا فى منتهى القوة السياسية والإقتصادية والعسكرية فلم لا نعود إلى وحدتنا الإسلامية لاسيما أن أمتنا بها كل مقدرات الانتصار؟ فلقد حبانا الله سبحانه وتعالى بتكامل مميز فعلى سبيل المثال لا الحصر تزخر كل من مصر وإندونسيا وبنجالادش بالأيدى العاملة المدربة ويتوفر المال ومصادر الطاقة فى شبه الجزيرة العربية والدليل على ذلك تواجد لدينا كميات كبيرة من اليورانيوم والسليكون الذى تصنع منه الشرائح المستخدمة فى الحاسب الآلى إذن فنحن أمة مكتملة الثروات ولكن خلافاتنا تحول بيننا وبين الإرتقاء إلى المستوى اللائق بخير أمة أخرجت للناس ولا يخفى على أي محلل ما نحن فيه من تدهور أن يتبين السبب الرئيسى فى ذلك ألا وهو البعد عن الدين بصفة عامة وعدم الإلتزام بالنصوص الإسلامية من قرآن وأحاديث شريفة ويقول الله عز وجل فى محكم آياته : " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " ] الأنفال 8 : 46[ .

وصدق الله العظيم إذ صرنا أمة بلا حول ولا قوة نتيجة للفرقة التى تمزقنا ولذلك كان الإهتمام الأولى المشترك لكل من عماد الدين زنكى ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبى يكمن فى إتمام وحدة الأمة لتكون بمثابة السلاح الإستراتيجى الذى يضمن لنا عدم تمكن أعدائنا من إغتصاب أراضينا و الدليل على ذلك أن سقوط فلسطين ومن بعدها البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق تحت أيدى أعدائنا كان نتيجة لغياب هذا السلاح الإستراتيجى عنا و الجدير بالذكرأن صلاح الدين لم ينجح فى الوصول إلى الوحدة إلا بعد مضى سبعة عشر عاما من الكفاح والمعاناة و لذلك فلا ينبغى أن نفقد الشعور بكل ما بذل من جهد لتحقيق الوحدة .

و تعبر الأبيات الشعرية التالية عن أغلى الأمانى و مبعث السرور للأمة الإسلامية :

ما العيد إلا أن نعود لديننا حتى يعود نعيمنا المسلوب
ما العيد إلا أن نكون أمة فيها محمد لا سواه عميد
ما العيد إلا أن يرى قرآننا بين الأفاضل لوائه معقود

والعيد الحقيقى يأتى علينا يوم تتوحد كل الدول الإسلامية تحت ولاية واحدة وساعتها لن تجرؤ أية دولة أو حتى مجموعة دول على التعرض لنساء و أطفال وشيوخ المسلمين بالأذى ولقد أدرك الغرب خطورة توحد المسلمين حتى أن أرنولد توينبى أحد المفكرين الغربيين رأى أن السبيل إلى الانتصار على المسلمين يتأتى من إجبارهم على تحويل دولهم إلى دول علمانية ولذلك نرى أن الانتصار الإسلامى الذى حدث عام 1973 لم يتحقق إلا بعد أن شاركت الدول الإسلامية كلها فى المعركة كل منها على قدر طاقتها وبالأسلوب المتاح لها فها هى المملكة العربية السعودية توقف ضخ البترول عن الغرب وها هى ليبيا تفتح مطاراتها لتدريب الطائرات المصرية وها هما الجيشان المصرى والسورى ينسقان فيما بينهما ترتيبات المعركة إذن إذا أردنا أن نعيد فلسطين وبيت المقدس وأن تعود مرة أخرى الصلاة بالمسجد الأقصى فعلينا بالتحرك حتى تتحقق الوحدة فيما بيننا لتكون نقطة الإنطلاق نحو النهضة وتحرير الأرض وحماية العرض .

ولذلك فالمطلوب العمل والتحرك وفقا لفكر وحدة المسلمين على جميع المستويات إذن فليبدأ كل منا على المستوى الفردى بنبذ الخلاف بينه وبين الآخرين أو بتخفيفه بالقدر المستطاع مستلهما بأن الإختلاف الموضوعى يؤدى إلى إثراء الفكر وما أطيب أن يعم فيما بيننا فكر الوحدة ونبذ الخلاف فى إطار الأسرة والمدرسة والعمل وأماكن اللقاء الإجتماعى وفى المجتمع بصفة عامة بل وبين الدول بكل تأكيد فكم نتمنى أن يكون ما عرضناه فى هذا الجزء محرك قوى لأي رئيس دولة مختلف فى الرأى مع رئيس آخر حتى يؤدى ما بوسعه لنبذ هذا الخلاف .

هذا ملخص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك