الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

قصة أبطال من المسلمين ( 1 )

هذه المقالة تعقد مقارنة بين ما حدث في عصرنا هذا وما حدث منذ سنين مضت ومن كان منكم صاحب عقل حكيم فليعتبر من هذه القصة .

يقول الله عز وجل { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف. ويقول { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } (111) سورة يوسف.

ففي هذه المقالة سنتحدث عن فترة عجيبة من فترات التاريخ الإسلامي وهذه الفترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي والتاريخ يعيد نفسه وإن كان بأسماء مختلفة فنفس الأحداث تتكرر ولكن في أماكن مختلفة أو بأسماء مختلفة ولكن بعد مرور مئات من الأعوام على الحدث وأحيانا نتعجب كيف صنع السابقون كذا أو كذا ولكن تعود الأحداث من جديد فتتكرر بنفس الصورة .

ففي هذه المقالة سنتحدث عن ظهور قوة جديدة على ظهر الأرض في القرن السابع الهجري وهذه القوة أدت إلى تغيرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة فهي قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة كما قال عنها بن الأثير رحمه الله: ( كأنهم لا يريدون المال ولا الملك ولكنهم يريدون فقط إفناء النوع البشري ) تلك هي دولة التتار أو المغول التي ظهرت في زمان الخلافة الإسلامية العباسية وظهرت في سنة 603 هـ أي في أوائل القرن السابع الهجري وكان أول زعماءها جنكيز خان واسمه الأصلي تِمُوجِين ومعنى كلمة جنكيز أي قاهر العالم واتخذ لنفسه هذا اللقب وتزعم دولة التتار والتي تقع شمال الصين حاليا.

وفي غضون سنوات معدودات توسعت دولة المغول على حساب المساحات المحيطة بها شرقا وغربا وكانت لهم ديانة عجيبة فكانت خليطا من ديانات مختلفة الإسلام والمسيحية والبوذية وأشياء أخرى خاصة بجنكيز خان أدخلها على هذه الديانة وسميت هذه الديانة بالياسا أو بالياسق وهذه الديانة كان يتبعها المغول في ذلك الوقت .

حروب التتار كانت تتميز بأشياء هامة منها سرعة الانتشار الرهيبة فقد كانوا ينشرون أعداد كبيرة من البشر في أزمان قليلة جدا فنظامهم نظام محكم وأعداد لا تحصى من الخلق وتحمل لظروف في منتهى القسوة فجنكيز خان كان يدرب جنوده في الصحراء وكان يدرب جنوده في الجليد وكان يدرب جنوده في الليل وفي النهار فتحت كل الظروف يدرب جنوده حتى استطاعوا أن يغزوا العالم في سنوات قليلة فعندهم قيادة عسكرية بارعة واحتياطيات أمنية لم تسبق في زمانهم وقد تميزوا بشيئين في غاية الخطورة.

أولا: أنهم بلا قلب فهم يقوموا بحروب وتخريب غير طبيعية ومن السهل جدا جدا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا فدمروا كل المدينة وقتلوا كل السكان وكلمة كل السكان هذه تكررت أكثر من موضع في تاريخ التتار ويبيدوا أهل المدينة بكاملها فلا يفرقون بين رجل وامرأة ولا بين رضيع ولا شاب ولا صغير ولا شيخ ولا ظالم ولا مظلوم ولا مدني ولا محارب كل الناس فهي إبادة جماعية ودموية لا تصل إليها الحيوانات الشرسة.

ثانيا: الرغبة في تطبيق مبدأ القطب الواحد في العالم أو رفض قبول الآخر فهم لا يريدون أحد إلا جوارهم والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائما أنهم ما جاءوا لبلاد غير بلادهم إلا ليقيموا الدين وينشروا العدل ويخلصوا البلاد من الظالمين ( لنشر الديمقراطية والحرية في البلاد وتحريرها من حكامها الظلمة ) وهكذا كانوا يقولون في رسائلهم إلى البلاد مع أن هذا يخالف طبيعتهم كما سنرى.

وظهرت هذه القوى البشعة في آخر قرون الخلافة العباسية وهذه الخلافة ظلت تحكم بلاد المسلمين خمسة قرون كاملة وظهر التتار في آخر قرن من قرون الخلافة العباسية وظهرت عندما كان هناك ضعفا في العالم الإسلامي وتفرق ضخم واهتم الخلفاء بجمع المال وتوطيد أركان السلطان دون مراعاة لقيمة منصب الحاكم فلم يعد من وظيفة الحاكم أن يؤمن دولته ويرفع مستوى المعيشة لشعبه ويحكم في المظالم ويرد الحقوق لأهلها ويقيم حق الله عز وجل على العباد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلم يكن الحكام هكذا بل كانوا لا يهتمون إلا بتوطيد الحكم لهم ولعائلاتهم وجمع الأموال الكثيرة والغناء والحفلات وغير ذلك فضاعت هيبة الخلافة وتضاءلت طموحات الخليفة.

الخلافة العباسية في ذلك الوقت لم تكن تسيطر إلا على العراق وتسكن في العاصمة بغداد وحولها عشرات من الممالك الإسلامية إما منفصلة عنها بالكلية وإما تابعة لها اسما لا فعلا فقد كانت هناك فرقة شديدة وكان طبيعيا جدا أن ترى خلافا على الحدود يفضي إلا حروب ومعارك وما أكثر الحروب التي قامت بين مصر والشام وبين الموصل وبغداد وبين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب فكل هذا كان فرقة شديدة والله عز وجل يقول { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (46) سورة الأنفال.

فالتنازع الذي كان بين أمراء المسلمين في هذا العصر أدى إلى الفشل الذي رأيناه في تاريخ التتار مع المسلمين.

في ذلك الوقت ظهرت قوة التتار في شرق آسيا وسرعان ما ضمت في حوزتها إقليم منغوليا والذي في شمال الصين الآن ثم ضمت الصين ثم كوريا ثم سيبريا فأصبحت دولة ضخمة والصليبيون الذين كانوا يعيشون في الشام والذين كانوا يعيشون في أوروبا في فرنسا وانجلترا وغيرها من البلاد رأوا هذه القوة الناشئة التي ظهرت في أقصى بلاد الشرق في هذا الزمن ففكروا في استثارة هذه الدولة على المسلمين وتحريض المغول على المسلمين ولا ننسى أن موقعة حطين كانت قبل ظهور التتار بعشرين سنة فقط أي كانت في سنة 583هـ حيث دحر فيها الصليبيون وانتصر المسلمون عليهم انتصارا عظيما .

فبعد عشرين سنة من معركة حطين أراد الصليبيون استثارة المغول واستغلالهم في إبادة القوى الإسلامية الموجودة في الدولة العباسية وفي ذلك الوقت حدود كانت حدود دولة التتار قد وصلت لحدود الممالك الإسلامية وأيضا في ذلك الوقت كان المسلمون يمتلكون أفغانستان وأوزبكستان وطجكستان والتركمستان الغربية أي كل الجمهوريات الموجودة في جنوب روسيا وحدود دولة التتار كانت ملاصقة لحدود دولة المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان وغيرها من الدول الإسلامية وكان يحكم هذه البلاد في هذا الزمن من المسلمين الدولة الخوارزمية والتي على رأسها محمد خوارزم شاه وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية في العراق وهذه مشكلة للمسلمين كما قلنا سابقا حيث أنهم كانوا مشتتين ومفرقين.

جنكيز خان اقتنع بنصيحة الصليبيين له بغزو البلاد الإسلامية وبالطبع كان يعلم عن مدى غزارة الأموال في هذه البلاد (مثل البترول ) ومدى الخير العظيم فيها فأرد أن يضم هذه البلاد إلى مملكته الواسعة فماذا يفعل حتى يستولي على الخلافة العباسية التي في العراق ؟.

رأى جنكيز خان أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هو التمركز في أفغانستان وأوزبكستان بحيث تكون قاعدة إمداد بعد ذلك لجيوشه التي تتجه بعد ذلك للعراق لكن جنكيز خان كان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم على حسن الجوار مع أن التتار ليس لهم عهد ولكن جنكيز خان عقد هذا الاتفاق كخطوة مرحلية لتأمين ظهره من ناحية شرق آسيا.
وبعد فترة أراد جنكيز خان غزو أفغانستان وأوزبكستان وأرد أن يحصل على سبب لذلك فحصل على السبب فقد كانت هناك بعثة من بلاد المغول للمتاجرة في مدينة من مدن المسلمين واعتقد حاكم هذه المدينة أن هؤلاء المغول جواسيس وأمسك بهم وقتلهم فهذا كان سببا مناسبا يتعلل به جنكيز خان وطلب من خوارزم شاه أن يسلم له القتلة ليحاكمهم بنفسه ( طلبوا تسليم أحد المسلمين لمحاكمته ولكن هذا الطلب رُفض فكان هذا سببا للحرب ) ولكن حاكم خورزم رفض واعتبر هذا تعديا على سيادة الدولة المسلمة فإنما يحاكمهم هو فإن ثبت خطأهم عاقبهم وإلا فلا.

وكان هذا إيذانا بقيام الإعصار التتري على بلاد المسلمين واستغل جنكيز خان هذا الأمر وجهز جيشه وبدأ في غزو بلاد خوارزم التي تعتبر في الحدود الشرقية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف والتي كانت متفرقة كما ذكرنا.

حرب إبادة قذرة فقد بدأ جنكيز خان بمدينة بخارى بلد الإمام البخاري رحمه الله وبدأ الغزو في سنة 617هـ ودمروها تدميرا تاما وكاملا وقتلوا معظم سكان بخارى ثم نزلوا في سمرقند بعد بخارى بشهور ودمروا سمرقند بكاملها وكذلك مدينة نيسابور دمروها ثم نزلوا في أور جنده والتي كان فيها محمد بن خوارزم زعيم البلاد وحاصروا هذه المدينة فاضطروه إلى الهروب منها ودخلوا إلى البلد واستباحوا أهلها وقتلوا كل من فيها وهرب محمد بن خوارزم إلى جزيرة بحر قزوين ومات بها وحيدا.

ثم تولى الأمر من بعد محمد بن خوارزم ابنه جلال الدين بن خوارزم شاه وأخذ يجمع الجيوش حتى يحارب التتار ولكن دخل التتار إلى أفغانستان ودخلوا مدينة تسمى بانيال وقتلوا من فيها جميعا إلا أربعمائة فقط من الصناع المهرة وحاول جلال الدين تنظيم الصفوف من جديد واشترك في بعض المواقع مع التتار وانتصر عليهم ولكن ما لبس إلا أن حلت به الهزيمة وفر جلال الدين إلى الهند وهزم جيشه وقبض جنكيز خان على عائلته بأكملها وذبح كل أطفاله .

وفي سنة 619هـ دخلت القوات التترية إلى مدينة هراك الأفغانية وذبحوا مئات الألوف من أهلها ثم دخلوا إيران واحتلوا مدينة الري وهي مدينة قريبة من طهران ووقف التتار عند مدينة الري بالقرب من طهران وقد اجتاحوا كل هذه البلاد في فترة وجيزة جدا لا تتعدى الخمس سنوات.

والشيء الغريب البشع أن الناصر لدين الله خليفة المسلمين في ذلك الوقت كان يتعاون مع التتار ضد جلال الدين لماذا؟ لأن جلال الدين كان يعارض الخليفة العباسي في فقد كانت هناك حرب طويلة بين العراق وإيران أو قل بين العراق والدولة الخوارزمية والتي تضمن أفغانستان وإيران وأوزبكستان وغيرها من الدول في تلك المنطقة بغداد ( ولا ننسى سنوات الحرب العشرة بين العراق وإيران وكان هذا بســبب نهر ومن كان يتعاون مع من ضد إيران ) ولم يكن يدري حاكم الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت يوم كان يتعاون مع التتار ضد أخيه أن الدائرة تدور عليه وعلى أيدي من تعاون معهم.

تمركز التتار فعلا في أفغانستان وأوزبكستان وكانت هذه مرحلة.

وصلنا إلى عام 624هـ وتوفي جنكيز خان وترك وراءه إمبراطورية ضخمة جدا من كوريا إلى منتصف بلاد إيران ومن سيبريا إلى المحيط الهندي وبوفاته هدأت الأمور نسبيا ولكن عادت إلى الاشتعال مرة أخرى بعد خمس سنوات .

ترى أين كان المسلمون في هذه السنوات الخمس ؟ .

لا شيء لا حركة لا اعتقاد أن ما يدور الآن في بلد مسلم سيدور في البلد الآخر بعد قليل فكل يبحث عن أمنه اللحظي المحدود فقط في حدود البلد التي يعيش فيها.

وفي سنة 629هـ أي بعد وفاة جنكيز خان بخمسة سنين حدث اجتياح فارس وأذربيجان بقية الأجزاء الغربية من إيران وفي سنة 630 صعد التتار إلى الشمال ودمروا روسيا بكاملها وقتلوا أهلها وبالتحديد في موسكو.

واجتاح التتار أوروبا ووصلوا إلى بولندا وكرواتيا والمجر ودمروا كل هذه البلاد تماما ثم عادوا بعد ذلك لبلاد المسلمين.
بدأ الخناق يضيق على العراق الآن ورأى التتار أن يتحالفوا مع النصارى في البلاد الإسلامية وحول البلاد الإسلامية فبدأ في مراسلتهم وفي استخدامهم كجواسيس داخل البلاد الإسلامية وعقدوا حلفا مع ملك أرمينية وقد كان في ذلك الوقت نصرانيا بل ووعدوا النصارى إن تعاونوا معهم أن يعطوا لهم بيت المقدس الذي كان قد حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

ورأى التتار أيضا أن يسيطروا على منطقة الأناضول وهي تركية الآن ووجهوا إليها جيوشا وحاربوها وقاومهم السلاجقة هناك ولكن ما لبس أن ظهرت حكومات ضعيفة في منطقة الأناضول ما كان لهم من هم إلا إرضاء التتار فوافقت هذه الحكومات على الخضوع للتتار وأن تنطلق الجيوش التترية من تركيا لإحاطة العراق من الشمال (نعم كانت في تركيا قواعد عسكرية ليست تركية لمهاجمة العراق من الشمال ) ثم ظهر بعد ذلك رجل بشع في سنة 651هـ وهو هولاكو وقد جاء إلى إيران ليكون قريبا من الأحداث.

وشخصية هولاكو من أبشع الشخصيات في التاريخ فهو رجل ليس له أي نزعة إنسانية ويحب القتل لذات القتل ومتعطش للدماء وكان يمثل الجناح الأشد تطرفا في دولة التتار لأن هناك أناسا في التتار تعارض حروب هولاكو الدموية البشعة ولكنه كان هو الذي يسيطر على الأمور لقرابته من زعيم التتار في ذلك الوقت.

فكر هولاكو في القضاء على طائفة من طوائف الشيعة وكانت تسمى الإسماعيلية وهي طائفة شاذة جدا وكثير من العلماء يخرجون طائفة الإسماعيلية من الدين الإسلامي وهذه الطائفة كانت تتمركز في غرب إيران وعلى حدود العراق وكانت قوة عسكرية ضخمة وهولاكو لا يريد دخول العراق وفي ظهره هذه الطائفة فأراد أن يدمر هذه الطائفة وكان العنف هو الوسيلة المناسبة لهم وبالفعل تم له ما أراد وأفنى طائفة الإسماعيلية بكاملها .

الأمر الثاني الذي قرره هولاكو لاحتلال العراق أمر في منتهى الدهاء فبدلا من أن يهلك جيوشه مع جيوش المسلمين الضخمة في منطقة العراق والشام والأناضول قرر أن يحدث انقساما حادا في هذه المنطقة فقد قرر أن يتعامل بالاتفاقمع مجموعتين رئيسيتين من المسلمين ويعطيهم العهود والوعود للتمكين لهم وإغداق الهدايا عليهم ومساعدتهم فيما يريدون في الوصول للحكم والسلطان في نظير إسقاط الخلافة في العراق .

الطائفة الأولى التي تعامل معها هولاكو هي طائفة الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وقد كان كردي وقام هولاكو بمراسلة الأشرف الأيوبي ملك حمص وكذلك راسل الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق ووعدهم أن يبقيهم في أماكنهم إذا ساعدوه أو على الأقل كانوا على الحياد في حربه مع الخلافة العباسية ( نعم كان هناك اتفاقات مع الأكراد للتسهيل في دخول العراق ) ووافق الأكراد على ذلك .

والطائفة التي تعاون معها هولاكو هي الشيعة والتي كانت تعارض النظام الحاكم والمتمثل في الخليفة العباسي في ذلك الوقت والتي كانت تعيش في العراق وإن كان الخليفة لسوء فهمه للأمور وعدم تقديره الكافي للمسؤولية قد اختار أحدهم وجعله أقرب المقربين إليه وكان الوزير الأول في الدولة وهو مؤيد الدين العلقمي الشيعي واستطاع التتار أن يصلوا لهذا الرجل ودارت بينه وبينهم اتفاقات ومراسلات التي تؤدي إلى إسقاط الخلافة على أن يتولى في بغداد هذا الرجل تحت حماية تترية وتأييد من هولاكو .

وكان من نصائح التتار لمؤيد الدين العلقمي أن يعمل على إحباط معنويات الخليفة والمسلمين أو يشككهم في أمر الانتصار على التتار وقال لهم من المستحيل أن تحاربوا هذه الأعداد المهولة من البشر بهذه الإمكانيات الضعيفة (نعم كثيرا ما يقولوا إننا لا نملك سلاحا بالمقارنة مع أسلحة أعداءنا وأننا مهما فعلنا فمصيرنا الهزيمة الساحقة) بل إن مؤيد هذا طالب الخليفة بشيء عجيب جدا وكان الطلب هو أن يقلل من عدد الجيش الإسلامي كإثبات لحسن النية أمام الجيش التتري وأنه لا يريد حربا (أو أن يدمر أسلحته وصواريخه ) وفعلا قلل الخليفة من الجيش الإسلامي الموجود في بغداد والجيش التتري موجود على بعد خطوات في إيران .

لنأخذ نظره عن هذا الخليفة فاسمه هو المستعصم بالله وكانوا يصفونه بأنه رجل عالما رجل يحب العلم وكان رجلا محبا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان محبا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كريما ترى ما هذا الوضع الذي كانت فيه العراق ومثل هذا الرجل حاكمها؟ .

هذا الرجل كان جيدا في ذاته ولكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم فقد افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم وإلى الكفاءة في إدارة الأمور وافتقر في علو الهمة وإلى الأمل في الصدارة والتمكين وافتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب وافتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد الصفوف ونبذ الفرقة ورفع راية المسلمين وافتقر إلى اختيار أعوانه ففشت في بلاده بطانة السوء وكان الخليفة جيدا في عبادته وعقيدته ولكنه لم يتعدى ذلك حدود نفسه لكن أما المجتمع والدولة والشعب لم يكن بالذي يستطيع أن يتحمل المسؤولية كان باستطاعة الخليفة العباسي في ذلك الزمن أن يدبر من داخل العراق فقط مئة ألف فارس فضلا عن المشاة والمتطوعين وجيش التتار الذي كان يحاصر بغداد كان قوامه مائتي ألف جندي أي أن الأمل كان كبيرا في رد الغزاة ولكنه كان مهزوما من داخله فاقدا للروح التي تمكنه من المقاومة ولم يربي شعبه على الجهاد ولم يعلمه فنون القتال وكان لابد أن يدفع الشعب كله الثمن وكان لابد أن يدفع الحاكم الثمن مع شعبه وما أدرك الخليفة أنه كان بإمكانه أن يكون عظيما من عظماء التاريخ لو أنه اعتمد على ربه ثم شعبه ولكنه مع الأسف اعتمد على بطانة السوء التي تأخر كثيرا ولا تقدم شيئا .

ومع كل هذه المشاكل ظهرت دعوى للجهاد في العراق قادها رجل اسمه مجاهد الدين أيبك ورجل آخر اسمه سليمان شاه وكان لهما الرأي في المقاومة لكن الخليفة أخذ برأي الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي في مهادنة التتار .

اقتربت اللحظات الحاسمة وقرر هولاكو أن يأخذ الخطوات اللازمة لدخول بغداد ولتحسين الصورة أمام الحلفاء ولتسكين الشعوب التي قد تثور أراد هولاكو أن يقوم بحيلة خبيثة وهو أن يطلب من الخليفة طلبا ما فإذا رفضه كان هذا إيذانا بإعلان الحرب على بغداد ولابد أن يكون الطلب مستحيلا حتى لا ينفذه الخليفة فماذا كان الطلب؟ .

طلب هولاكو من الخليفة أن يرسل له بجيش يساعده في حرب فرقة الإسماعيلية ولكن الخليفة العباسي لو أخرج هذا الجيش لأصبحت العراق كلها بدون جيش!! فرفض الخليفة هذا الطلب وكان هذا الرفض بداية لإعلان الحرب ( وكان من الممكن أن يطلب هولاكو أن يقوم الخليفة بتدمير كل أسلحة الدمار الشامل التي لا يملكها ويكون هذا طلبا يستحيل تنفيذه أيضا ) .

ومقدمات هذه الحرب كان حصارا على بغداد لإضعاف الحالة العسكرية والاقتصادية والنفسية وشارك في الحصار حلفاء التتار والأرمن والمسلمين أيضا ( فكيف يتجرأ المسلمون ويساعدون إخوانهم في العراق وقد فرض أعدائهم حصارا على العراق؟ ) .
بدأ الحصار في 13 محرم سنة 656هـ ثم طلب هولاكو الرسل للمفاوضات وكانت الرسل التي طلبها هولاكو اثنان:

الأول : الوزير العلقمي الشيعي.

الثاني: البطريرك النصراني في بغداد.

وكان الطلب الأول الذي طلبه هولاكو تسليم مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه لأنهم كانوا يتزعمون فكرة الجهاد في سبيل الله والخليفة رفض هذه الفكرة والعجيب أن الخليفة العباسي وافق على تسليمهم استرضاء للتتار.

وأرسل الرجلين لكن هولاكو الخبيث أراد تفريغ البلد من صفوتها فأرسل بالرجلين للخليفة وقال له أرسلهم ومعهم أتباعهم لنفيهم إلى الشام فجمع الخليفة أتباع هذان الرجلان ومن على نفس فكرتهم إلى هولاكو.

وانتهز بعض الجبناء من المسلمين الفرصة وطلبوا من الخليفة يخرجوا مع الوفد حتى ينفوا إلى الشام وهذا عندهم أفضل من محاربة التتار ووافق الخليفة على هذا كله .

وخرج الوفد الكبير وفيه سليمان شه ومجاهد الدين أيبك وأتباعهما وأولئك الجبناء وتسلم الوفد هولاكو فماذا فعل بهذا الوفد؟ قتلهم جميعا فهذه كانت خيانة عظمى وإن كانت متوقعة من مثل هؤلاء .

دب الرعب في أوصال الخليفة العباسي المستعصم بالله وأدرك في لحظة ما كان واضحا لكل أهل الأرض من أن هؤلاء لا عهد لهم ولا أمان ولكن هذا الإدراك كان متأخرا جدا فقد فرغت بلاد المسلمين من الصفوة ثم جاءت رسالة جديدة من هولاكو تجدد الأمل في نفس الخليفة فقد كانت وعود جديدة للخليفة فماذا كانت؟.

1- إنهاء حالة الحرب بين الدولتين .

2- تزويج ابنة هولاكو لابن المستعصم بالله.

3- ويبقى المستعصم بالله في منصب الخلافة.

4- الأمان لأهل بغداد جميعا.

ولكن ما هي الشروط التي يمليها زعيم التتار على بلاد المسلمين؟.

1_ تدمير الحصون العراقية.

2_ ردم الخنادق.

3_ تسليم الأسلحة وهي السيوف والخيول.

4_ الموافقة أن يحــــكم خــــــليفة بغداد العراق تحت رعاية تترية.

5_ أن يخرج الخليفة هو ومن معه من كبار رجال الدولة والعلماء والفقهاء وأولاد المستعصم وخاصة الولدين الأكبر سنا لأن أحدهما سيتزوج ابنة هولاكو.

6_ وأن على الشعب العراقي عمل استقبال حافل بالتتار ( نعم كانوا متعجبين عندما قاومهم العراقيون وقالوا إننا ظننا أنهم سيسعدونبنا عندما ندخل بلادهم محتلين وأنه كان على الشعب العراقي أن يستقبلهم بالورود لأنهمجاءوالتحريرهم ) .

7_ وختم هولاكو كلامه بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان وبمجرد أن يطمئن على هذه المعاني السامية سيعود مباشرة إلى بلاده فهذه رحمه من هولاكو عليه لعنـــــــة الله ( نعم أتي لنشر لحرية والديمقراطية وقضى على الحاكم الظالم وأعوانه ليعيش الشعب العراقي في حرية تامة ولم ينسى السيطرة على موارد البترول ونهب أموال البلد ) .

ومع أن سيوف التتار لم تجف بعد من دماء المسلمين وآخرها سليمان شاه ومجاهد الدين أيبك إلا أن الخليفة العباسي لم يجد بدا من أن يسمع ويطيع.

يا أخي ماذا ستخسر لو أنك حاربت؟ ماذا ستخسر لو جاهدت وقد رأيت أن الصورة واضحة أمامك ؟ ماذا ستخسر لو مت مرفوع الرأس وإن عشت ستعيش سعيد وملك على بلادك ؟.

لكن الهزيمة النفسية الداخلية كانت أشد من أن ينتصر عليها الخليفة وأهل بغداد الآن قد تجاوزوا المليونين ولكن كانوا كغثاء السيل وجيش التتار الذي كان يحاصر بغداد كان مائتي ألف فقط ولو كانت في المسلمين حمية لفتكوا بهم بأيديهم لا بسيوفهم ولكن ماتت روح المسلمين قبل أن تموت أجسادهم والعجيب في الأمر أن الإعلام الإسلامي في ذلك الوقت كان يضاعف من المأساة ويزيد من حرجة الموقف فقد انتشرت الإعلانات عن جيوش التتار واستعدادات التتار وإمكانيات التتار ومعجزات التتار وتجد في كتابات الأدباء والشعراء وأصحاب الأقلام في ذلك الوقت كلاما عجيبا فمثلا يقولون أن التتار تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم بمعنى أنهم يستطيعون معرفة أي شيء ولكنك لن تستطيع معرفة أي شيء عنهم ( نعم كانوا يقولون إن عندهم أقمار صناعية يمكنها مراقبة كل شيء على الأرض وعندهم صواريخ تسمع الكلام الذي يقوله أهل الأرض) وكانوا يقولون إن التتار لو أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوها والتتار نساءهم يقاتلن كرجالهم ( نعم كانت عندهم مجندات في جيشهم ) والتتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها ( كانوا يقولون إن سياراتهم يمكنها معرفة مكان العدو الذي على بعد 2 كيلو متر ) وكانوا يقولون عن التتار أن الخيول تأكل أوراق النبات ولا تحتاج إلى شعير وقالوا إن التتار يأكلون جميع اللحوم ويأكلون بني آدم وهذا ما قاله الإعلام ( نعم كان الإعلام دائما ما يعمل على إحباط الروح المعنوية للمسلمين وإلهامهم أنهم مهما فعلوا فإنهم هم الخاسرون في المعركة وأن جنود أعدائهم لا يقهروا ومدججين بأسلحة لا قبل للمسلمين بها وأن الهزيمة آتية لا ريب فيها ) .

رضخ الخليفة الضعيف المستعصم بالله وخرج هو وخبراء قومه وأبناءه إلى لقاء هولاكو وهناك أمسك هولاكو بالخليفة وقتل كل من معه في لحظة واحدة فهذا غدر من هولاكو وهذا أمر قد تعودنا عليه ممن مثله ولكن هولاكو أبقى على الخليفة المستعصم بالله حتى يخبره بكنوز العباسيين يخبره بكنوز الأجداد التي جمعت على مدار خمسة قرون سابقة وقاد هولاكو الخليفة العباسي إلى بغداد وكان الخليفة في أغلاله ( نعم كان مقيدا في الأغلال في منظر غاية في الذل والهوان ) قاده إلى بغداد التي كانت عاصمة الخلافة الإسلامية في خمس قرون كاملة وكم من جيوش خرجت من بغداد للجهاد في سبيل الله وكم من العلماء جلسوا يعلمون الناس دينهم في هذا المكان لم يبقى لك أحد يا بغداد أين خالد بن الوليد؟ أين القعقاع؟ أين النعمان؟ أين المثنى بن حارثة ؟ أين سعد بن أبي وقاس ؟ أين الحمية في صدور الرجال ؟ أين النخوة في أبناء المسلمين ؟ أين الذين يطلبون الجنة ؟ أين المقاتلين في سبيل الله ؟ لا أحد لا أحد.......

فتحت بغداد أبوابها على مصراعيها لا مقاومة ولا حراك ولم يبقى في بـــغداد رجال ولكن فقط أشباه رجال ( نعم دخلوا بغداد بدون أي مقاومة وقد تعجب الناس أين جند المسلمين؟ ) واستباح هولاكو مدينة الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي واستباح مدينة الرشيد والمعتصم والرشيد الذي كان يحج عاما ويجاهد عاما والمعتصم الذي سير جيشا من بغداد إلى عمورية لنجدة امرأة مسلمة واحدة صفعها ملك الروم فقط صفعها ولم يقتلها وقتل هولاكو من أهل بغداد ألف ألف أو يزيد من المسلمين ما بين رجال ونساء وأطفال فهي حرب إبادة حماعية هائلة مأساة من مآسي التاريخ ضراوة فمثلا جندي تتري وجد أربعين طفلا حديثي الولادة في شارع جابني من شوارع بغداد قد قتلت أمهاتهم فقام الجندي بقتلهم جميعا فهذا عنف وبشاعة وقلوب أشد قسوة من الحجارة واستمر القتل في المدينة أربعين يوما أربعين يوما لا يرفع فيها مسلم سيفا فهو يعلم أن التتار لا يهزمون لا يجرحون بل لا يموتون فما الفائدة من بذل الجهد في المقاومة ونساء التتار يقتلن رجال المسلمين وإذا نادى تتري على مسلم وقال له قف وقف وقد ثبتت قدمه في الأرض إلى أن يأتي التتري ليقتله ذلة وخزي وعار .

اتجه التتار إلى كنوز العباســـــــيين واســــــــتخرجوا كنوز السنين ( استخرجوا بترول العراق فعلا ) وقد يُفهم هذا أما الذي لا يُفهم أنهم اتجهوا بعد ذلك إلى مكتبة بغداد فأخرجوا الكتب منها وألقوا بها جميعا في نهر دجلة مئات الألوف من العلوم الثمينة التي لا تقدر بثمن وتخيلوا هذا الكم الضخم من تراث الحضارة والمدينة والإنسانية يلقى بهذه الصورة حتى اسود لون النهر فهذا هو تدمير لكل ما هو حضاري واذكروا ما فعله الصليبيون الأسبان بمكتبة قرطبة حين أحرقوا كل كتبها لما سقطت قرطبة فهذه حروب إبادة لكل ما هو حضاري كل هذا ومازال هولاكو يقول أنه ما جاء إلى هذا المكان إلا لإرساء قواعد الأمن والعدل والحرية وبعد أربعين يوما توقف القتل في المدينة وقد تناثرت الجثث المتعفنة في شوارع بغداد ( نعم كنا نشاهد مثل هذه الجثث على القنوات الفضائية) وأعلن هولاكو أمانا حقيقيا ليخرج المختبئون من المسلمين ليرفعوا الجثث بعد أن انتشرت الأوبئة في بغداد فخرج الذين كانوا مختبئين في الخنادق والذين كانوا مختبئين في الديار المهجورة والذين كانوا مختبئين في المقابر خرجوا جميعا للمدينة المدمرة بغداد يرفعون جثث أهلهم وذويهم وانسحب هولاكو بجيشه خارج المدينة لتجنب الأوبئة وقتل الخليفة المستعصم بالله ووضع على رأس الحكم في بغداد الوزير العلقمي الشيعي وجعل معه مستشارين من التتر أو قل جعل معه مراقبين وأغدق هولاكو بالهدايا على البطريرك وأعطاه قصرا من قصور الخلافة وسقطت بغداد بعد أن فتحت بالإسلام منذ أكثر من 640 سنة على يد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ودب الرعب في أوصال العالم الإسلامي بأسره وفقد معظم المسلمين الأمل في قيام العالم الإسلامي وظهر اعتقاد غاية في العجب في هذا الوقت فقد ظهر اعتقاد أن هذا الأمر من علامات الساعة وأن المهدي سينزل قريبا جدا ( نعم ظهرت إشاعة بأن المهدي سيظهر بل أنه ولد بالفعل وتكلم الناس عنه ) شعر الناس أنهم لا طاقة لهم بهولاكو وجنوده فأرادوا النصر عن طريق المعجزة فإما أن يخسف بجيش التتار وإما أن ينزل المهدي فينتصر على التتار أما أن يتحرك المسلمون بدون مهدي فهذا أمر محال ( نعم ظن المسلمون أن لا طاقة لهم بهذه الجنود وكانوا يدعون الله بأن يخسف بأعدائهم الأرض وأن يهلك الظالمين بالظالمين ويخرج الله المسلمين من بينهم سالمين ) فكانت هذه هزيمة نفسية للمسلمين وغياب كامل للوعي الإسلامي الصحيح وهذا الأمر قد تزامن مع سقوط قرطبة وأشبيلية في الأندلس فقرطبة سقطت سنة 636 هـ أي قبل بغداد بعشرين سنة وأشبيلية سنة 646هـ أي قبل بغداد بعشر سنين وسقطت بغداد في صقر سنة 656هـ وملوك الشام وشمال العراق والأناضول من المسلمين ماذا فعلوا؟ .

أسرعوا إلى هولاكو يقدمون فروض الولاء والطاعة الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل والأمير قلج أرسلان والأمير كيكاوس الثاني أصحاب منطقة الأناضول والأمير الناصر يوسف أمير حلب ودمشق وحفيد صلاح الدين الأيوبي قدم ابنه ليكون في صف هولاكو فكل أمراء الشام قدموا الولاء والطاعة إلا قليل القليل فكل أمراء الشام قدموا أنفسهم لهولاكو ليبقوا في أماكنهم أو على الأقل يكونوا على قيد الحياة فهل تركهم هولاكو؟ .

أبدا فالدائرة دارت عليهم وانطلق هولاكو إلى حلفاءه من بلاد المسلمين وبدأ بحلب بلدالناصر يوسف الذي أرسل ابنه حتى يكون في جيش هولاكو أبادها هولاكو أباد حلب وقتل أهلها وذلك في صفر في سنة 658هـ بعد سنتين من سقوط بغداد ثم انطلق إلى دمشق في سنة 658هـ أيضا في ربيع الأول بعد أيام من سقوط حلب وألقى القبض هناك على الناصر يوسف الذي كان يعاونه من قبل ودخل المدينة العظيمة دمشق عاصمة الخلافة الأموية السابقة وثغر من أعظم ثغور المسلمين وتقدم صفوف التتار وقائد المقدمة التتري كان كَتْبُغا وهذا الرجل كان نصراني وفي جيش التتار وكان عن يمينه أمير أرمينية النصراني وعن شماله أمير أنطاكيا النصراني وكانت هذه أول مرة يشاهد أهل دمشق الملوك النصارى يدخلون إلى أرض دمشق يتبخترون على خيولهم أول مرة منذ فتحت هذه البلاد على يد أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودمرت دمشق بكاملها واستبيحت البلاد وقتل العباد ودمرت الحضارة الإسلامية في دمشق كما دمرت في بغداد .

ثم توغل التتار إلى الجنوب إلى فلسطين واحتلوا نابلس ثم واصلوا تقدمهم إلى غزة واحتلوها ولم يقتربوا في كل ذلك من الإمارات النصرانية الموجودة في عكا وحيفا وبيت المقدس وصيدا وأصبح معلوما لدى الجميع أن الخطوة القادمة هي مصر .

كيف كان الوضع في مصر في ذلك الوقت ؟ .

من الناحية السياسية كان الوضع متأزما جدا فأمراء مصر على صراع شديد على الحكم بين أواخر الأيوبيين وأوائل المماليك وفي وقت اجتياح التتار لمصر كان حاكم مصر طفل اسمه نور الدين علي بن السلطان السابق لمصر عز الدين أيبك وكان وزيره الأول هو الأمير قطز رحمه الله .

من الناحية الاقتصادية كان الوضع أيضا متأزما جدا فقد أنهكت مصر في سلسلة من الحملات الصليبية المتتالية وكانت آخرها موقعة المنصورة الشهيرة ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا وانتصر فيها المسلمون انتصارا باهرا في سنة 648هـ أي قبل تدمير بغداد بثمانية سنين .

ومع هذه الأوضاع الصعبة إلا أن الشعب لم يكن متأثرا تماما بهذه الظروف السيئة التي تمر بها البلاد فالشعب كان يمتلك شيئين رئيسيين لم يسقطان من عينه طول هذه الفترة وهما:-

العلم و الجهاد

فكانوا دائما ما يعظمون من أمر العلم والعلماء ودائما ما يعظمون من أمر الجهاد في سيبل الله فالشعب كان قد ألف حياة المشقة والبذل من جراء الحروب المتتالية التي مر بها .

في سنة 657هـ وبعد أن دمرت بغداد وبدأ التتار في اجتياح الشام رأى الأمير قطز رحمه الله النائب الأول للسلطان الطفل نور الدين علي أن أمر البلاد لن ينصلح وأن مقاومة التتار مستحيلة والبلاد تحت حكم طفل لا يستطيع أن يدبر أمور نفسه فضلا عن شعبه وأمته فقام قطز رحمه الله وعزل الطفل السلطان ووضع نفسه على كرسي الحكم في مصر وبدأ يعد العدة لأمر عظيم .

جمع قطز المستشارين من كبار المماليك وكبار قواد الجيش والعلماء وأشهرهم العز بن عبد السلام رحمه الله وكان قد تجاوز الثمانين بعام في ذلك الوقت ثم قال قطز لهم إنه لا يطلب الملك لذاته وإنما طلبه لحرب التتار فإذا كتب الله له النصر على التتار ترك الشعب يختار أميره بعد ذلك بإرادته .

بدأ الأمراء المماليك يترددون في مسألة حرب التتار ووصت أنباء التتار المخيفة ولكن قطز بدأ يضرب مثلا رائعا لفهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد فقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة وسيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أنه أرسل جيشا وبقي في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم يرى وسيلة أفضل من ذلك ليحمس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضطربة .

فقه قطز لما يعلمه الناس نظريا لا عمليا فقد فقه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها وفقه أن الشجاعة لا تقصر الأعمار وأن الجبن لا يخلد الإنسان في الحياة فقه أن الحياة بعزة ساعة خير من البقاء أبدا الدهر في ذلة وهوان ثم قام قطز رحمه الله وقال : ( من للإسلام إن لم نكن نحن ) فضج الأمراء بالبكاء وقاموا خلفه ينادون بالجهاد في سبيل الله وقد عُلم أنه من كانت هذه صفته فهو منصور إن شاء الله وقام قطز في نشاط بإعداد الجيش وتجهيز السلاح ويرتب الخيول ويحمس الناس ولكن واجهته مشكلة ضخمة فبيت المال يعاني من ضائقة شديدة والحالة الاقتصادية متردية وأرد قطز رحمه الله أن يفرض على الناس الضرائب لتجهيز الجيش فقام إليه العز بن عبد السلام وقال له ولأمراء المماليك جميعا إذا طرق العدو البلاد وجب العالم كلهم قتاله وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم فوق الزكاة بشرطين وهما: ألا يبقى في بيت المال شيء والشرط الثاني أن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة وأما أخذ المال من العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا .

فاستجاب قطز رحمه الله لما قال الشيخ العز بن عبد السلام وباع ما يملك وأمر الأمراء بذلك وجهز جيشا صادقا من المسلمين وقرر قطز أن يخرج بجيشه لملاقاة التتار في فلسطين ولا ينتظر حتى يقدمون عليه في مصر فقامت دعوى في أمراء المماليك بأن يبقى قطز في مصر بجيشه ولا يخرج إلى فلسطين لقتال التتار وأن يبقى لحماية مصر فمصر هي مملكته وفلسطين مملكة أخرى ولكن قطز رحمه الله جمع أمراءه وأفهمهم حقائق غابت عن كثير منهم فأفهمهم :

أولا :
أن أمن مصر يبدأ من حماية حدودها الشرقية ولا يمكن أبدا أن يحي أهل مصر في أمان والعدو الصليبي والتتري يعيش في فلسطين.

ثانيا:
أنه من الأفضل عسكريا أن ينقل المعركة إلى أرض خصمه وأن يكون له خط رجعه بدلا من أن تحدث هزيمته في مصر إن حدثت فتضيع البلاد في عمقها .

ثالثا:
من الأفضل عسكريا أن يفاجئ هو عدوه قبل أن يستعدوا له .

الأمر الرابع :
أن له دورا هاما في فلسطين والشام والعراق ولن تزول أقدامهم يوم القيامة إلا بعد أن يسألوا عن هذا الدور .

الأمر الخامس:
أن لهم دورا في حرب أعداء المسلمين حتى وإن كان أعدائهم لا يفكروا في دخول قطرهم المحدود ماداموا يفسدون في الأرض .

اقتنع المخلصون بما قاله قطز وبدأ الشيخ العز بن عبد السلام يحث الناس على الجهاد واعتلى منابر البلاد العلماء المجاهدون وألهبوا مشاعر الناس بالحمية لهذا الدين ورغبوا الناس في الجنة وزهدوهم في أمر الدنيا وعظموا الجهاد وأهله وذكروهم بأيام الله ذكروهم ببدر واليرموك والقادسية وذكروهم بحطين التي لم يمض عليها إلا 75 عاما وذكروهم بمعركة المنصورة فلم يمض عليها إلا عشر سنين ومع كل هذا كان هناك فريقا من المسلمين دب الرعب في قلوبهم وجال بأذهانهم صور ما سمعوه عن التتار فبدأ بعض الناس في الفرار إلى المغرب وإلى اليمن والحجاز فهل قيدهم قطز أو أجبرهم على الاختراق أبدا بل تركهم في غيهم يعمهون لقد فقه قطز رحمه الله أن النصر لن ينزل إلا على الثابتين الذين لا يولون الأدبار فقد قال الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (45) سورة الأنفال .

وفقه أيضا أن الجيوش لا تنصر بأعدادها ولا عتادها وإنما بطاعتها لله عز وجل واعتمادها عليه وفقه أن هؤلاء الذين فروا لو خرجوا مع الجيش لاضطرب الجيش وانهزم فقد قال الله تعالى { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (47) سورة التوبة .

وجاءت رسل التتار إلى قطز في مصر وتحمل رسالة من هولاكو وتقطر سما وتفيض تهديدا ووعيدا وهي رسالة تنخلع لها قلوب أشباه الرجال فقال هولاكو في رسالته كلاما كثيرا ما ردده لغير قطز فمثلا قال له نحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن اشتكى خلقنا الله من سخطه وسلطنا على من تكبر وتجبر من عباده ( نعم قال إن الله أرسله ليقيم الحرية في الأرض) وقال هولاكو في النهاية تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون وعن قليل تعلمون علام تقدمون وقد أعذر من أنذر ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك