الخميس، 30 أكتوبر 2008

متى تقوم وتنحدر الأمم

من البديهى أن الإسهاب فى الحديث عن قصة البطل المظفر صلاح الدين الأيوبى لا بد وأن يسبقه إيضاح لحجم الإنجاز الذى نجحت هذه الشخصية فى تحقيقه و بالتالى فإن القيمة الحقيقية لذلك الإنجاز إنما تتجلى عند مقارنة الوضع المتردى الذى كانت الأمور قد آلت اليه قبل ظهور صلاح الدين بالحال الذى تبدل نتيجة الصحوة التى قادها ذلك القائد الفذ ومن الضرورى معرفة إلى أى حد تردت الأوضاع بالأمة حينذاك حتى يكون هناك إدراك دقيق لمدى احتياجها إلى شخصية مثل صلاح الدين الأيوبى ولذلك فلسوف نعرض فى جزئين أحوال الأمة قبل تولى صلاح الدين مقاليد الأمور ففى هذا الجزء يكون الحديث عن عصر ما قبل صلاح الدين فى حين يتناول الباب القادم ملاباسات الوضع قبيل ميلاده مباشرة ولما كان عنوان الجزء الذي بين يدينا يشير إلى مقدرات و آمال و إنجازات الأمة فكان لا بد أن يكون الحديث عن سيرة صلاح الدين مسبوقا بعودة إلى مراجع السير و المغازى بما تحويه من تاريخ أمجاد الأمة الإسلامية حتى يترسخ شعور التنكر لمرحلة الضعف التى وصلت اليها الأمة حاليا لدرجة أن التصنيف الذى يلحق بنا يجعلنا من دول العالم الثالث وهل نحن فى انتظار مثلا أن ينحدر بنا التصنيف إلى أقل من ذلك ؟! فما أصعب تقبل الوضع الحالى عند مقارنته بما كان عليه فى الماضى .

ولذلك كان لابد من البحث عن أسباب الإنحدار الشديد الذى تعيشه الأمة حاليا بعد أن قدر لها سيادة العالم فى وقت من الأوقات فمن أين إذن جاءت هذه الإنتكاسة ؟ فى الواقع الإجابة على ذلك تتطلب استعراض القصة من أولها أى منذ فجر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكما نعلم بعث الرسول الكريم فى مكة ثم انتقل إلى المدينة مهاجرا ثم بدأت المناوشات والمعارك بين المسلمين وبين المشركين وكانت غزوة بدر هى أولى هذه المعارك والغزوات وفى ذلك الوقت كان المجتمع الإسلامى لا يتعدى ألف فرد وعندما أمر الرسول بالجهاد والخروج فى سبيل الله خرج معه إلى بدر 313 مجاهدا فى حين بلغ عدد المقاتلين من قريش الألف أى ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ومع ذلك كان النصر حليفا للمؤمنين أما فى أحد فقد زاد عدد المسلمين إلى سبعمائة فى مواجهة ثلاثة آلاف من المشركين وبالرغم من هزيمة المسلمين فى أحد إلا أن إنسحابهم دون وقوع أى منهم بالأسر أدى بالتاريخ إلى عدم تسجيل هزيمة حقيقية ثم كانت موقعة الخندق التى شهدت هجوم عشرة آلاف من مشركى قريش ليتصدى لهم ألف و ربعمائة مسلم و يردوهم عن آخرهم على أعقابهم خاسرين و فى خيبر وصل عدد اليهود إلى أحد عشر ألف مقاتلا فى مواجهة ألف و ربعمائة مسلم كتب لهم الإنتصار .

وعند التمعن فى كيفية انتصار فئة قليلة على فئة كثيرة يبطل العجب بالرجوع إلى قول الله تعالى :

" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " ]البقرة 2 : 249[
" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين @ وما جعله الله إلا بشرى و لتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله " ]الأنفال 8 : 9 ، 10[
" وما رميت اذ رميت و لكن الله رمى " ]الأنفال 8 : 17[

ولا شك أن قراءة هذه الآيات القرآنية تجعل الواحد منا يدرك أن الانتصارات التى حققها النبى صلى الله عليه و سلم والمؤمنون معه ما كانت إلا آيات ربانية لنتبصر ونتوصل من خلالها إلى أن الإرتباط بربنا سبحانه و تعالى والتوكل عليه وحسن النوايا هى التى أتت بالإنتصار .

ومصداقا لذلك يحضرنى موقف الصحابى الجليل عبد الله بن رواحة فى غزوة مؤتة حيث خرج ثلاثة آلاف مقاتل مسلم من المدينة لمواجهة أقوى الدول فى ذلك الوقت نظرا لتحكمها فى النظام العالمى ألا وهى دولة الروم التى حشدت وقتذاك مائتى ألف مقاتل وعلى مشارف المعركة لنتاب المسلمين شيىء من الرهبة عند إدراكهم أن الواحد منهم يواجه سبعين من الروم إلا أنهم كانوا على يقين بأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يأمرهم بإلقاء أنفسهم إلى التهلكة ولما كان هناك خلل نسبى فى ميزان القوتين المتواجهتين تبادر إلى ذهن البعض أنه ربما ينبغى الإستئذان من النبى الكريم فى العودة دون قتال وقد أثار تردد بعض المسلمين حفيظة عبد الله بن رواحة رضى الله عنه وأراد أن يذكر إخوانه ويضرب لهم ولسائر المسلمين فى كل زمان ومكان مثلا من أمثلة الإخلاص لله تبارك تعالى فقال مقولته الشهيرة " يا قوم إن التى تكرهون هى التى خرجتم من أجلها " و قد عبر بذلك عن دهشته من ضيق البعض بالموقف رغم أنه لن يثمر إلا عن إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة فإما أن يعيش المسلم بعزة و كرامة و إما أن يرزق الشهادة فى سبيل الله عز وجل وأضاف بن رواحة " يا قوم ما ننتصر بعدد و لا عتاد ولكن ننتصر بالإيمان الذى هو فى قلوبنا " ولابد أن يعلم كل مسلم أن سرية مؤتة أتت بأعظم خطة انسحاب عسكرى فى التاريخ حيث استطاع القائد العسكرى المحنك خالد بن الوليد أن ينسحب بالجند إلى المدينة محققا قدرا من الإنتصار العسكرى على الروم أقوى الدول فى ذلك الحين .

عند استعراض الأحداث التى سبقت فتح مكة نجد أن النبى صلى الله عليه و سلم قد عانى من الإيذاء الشديد حتى أنه كان على وشك أن يقتل وعند ذلك أذن الله له بالهجرة إلى المدينة ولكنه يعود ليفتح مكة حتى وإن انقضت سنين طويلة ولذلك فإن تحقيق الإنتصارات وقيام الأمم يحتاج إلى سلاح استراتيجى هو الأمضى على الإطلاق ومن خلاله يتثنى لنا النهوض كأمة مرة أخرى ألا وهو الحرص على إرضاء الله عز وجل وقد يظن البعض أن هذا الفكر مبالغ فيه ولكن لننظر إلى ما يقوله عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى جيش سعد بن أبى وقاص عند خروجه للقادسية " يا جند الله اتقوا الله " ولنلحظ أن أول أمر يصدر عن الخليفة حاكم البلاد والقائد الأعلى للجيوش كلها كان الأمر بتحرى تقوى الله عز وجل إذ يضيف " اتقوا الله فإننا لا ننتصر بكثرة عدد و لا عتاد و لكن ننتصر بالإيمان الذى هو فى قلوبنا وبطاعتنا لله و بمعصية عدونا لله فإن عصينا الله كنا مثلهم فانتصروا علينا لأنهم أكثر عددا و أكثر عتادا " .

و فى واقع الأمر هذا هو الحق بعينه والذى ضرب خالد بن الوليد مثالا عليه بعد أن خاض حروب الردة وانتصر فيها بنفس العدد والعتاد على كل الجيوش التى واجهته بالجزيرة العربية بأسرها وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه قد اتخذ موقفا حاسما من المرتدين وأمر بهذه الحروب رغم التثبيط الذى تعرض له من بعض المحيطين به وبعد الإنتصار الذى تحقق فى نهاية هذه الحروب أصدر أبو بكر أمره إلى خالد بن الوليد بفتح العراق ونجح خالد بالفعل فى فتح العراق وأخذها من الفرس الذين حكموها مئات السنين و المدهش أن ذلك تم فى مدة لا تتجاوز الخمسين يوما خاض فيها أكثر من خمسة عشر موقعة حربية منها موقعة " الجزيرة " التى واجه فيها عشرون ألف مسلم جيشا قوامه أربعمائة خمسون ألف مقاتل ودارت تلك المعركة واحتدم الوطيس ما بين قتال و طعان ولكن ما لبث أن تحقق النصر للمسلمين .

وعند مقارنة هذه الإنتصارات وتلك العزة بأحوالنا الحالية يتضح أن ثمة شيئا ينقصنا أو أمرا معينا لا نسيره كما ينبغى وهذا النقص ليس هو بالعدة أو العتاد فإن النصر يكتب لسبب آخر غيرهما والسبب الحقيقى لإنتصار المسلمين فى ذلك الوقت يصيغه لنا ربعى بن عامر الذى خرج إلى القادسية مع جيش سعد بن أبى وقاص فاتح المدائن بغرض تبليغ أهل العراق بالإسلام فقد حدث أن وقف ذلك الصحابى بين يدى كسرى المحاط بمظاهر الأبهة من خدم و حشم و ملبس و قصر فخم و كان جزءا من حوارهما ما يلى :

( كسرى ): لم جئتم إلى بلادنا ؟ .

( ربعى بن عامر ) : جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ولم نأتكم بكثرة عدد ولا عدة نحن جئناكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة .

وقد عبر الرد الذى ألقى به ذلك الصحابى الفاهم لدينه والواثق بقوة إيمانه عن حقيقة مهمة تبين معادن الرجال الذين فتحت على أيديهم البلاد وتحققت الإنجازات وجاء العز وهذا هو نفس مفهوم أبو بكر الصديق رضى الله عنه والذى كان قد أمر بهذه الحملة إلى العراق وأثناء سير المعارك بالعراق أرسل خالد بن الوليد إلى أبى بكر طالبا المدد حيث كان يواجه عدوا يفوقه فى العدد بكثير وبعد ثلاثة أسابيع من الإنتظار أرسل إليه أبو بكر صحابى اسمه القعقاع بن عمرو التميمى فأثار ذلك بالطبع دهشة خالد الذى كان يقاتل الفرس بالآلاف فكان رد الخليفة ردا تملؤه الثقة والعزة " لايهزم جيش به القعقاع بن عمرو التميمى " وبالفعل لم يمن خالد بن الوليد بأية هزيمة على الإطلاق طيلة معاركه بالعراق وفى الوقت نفسه كانت جيوش الروم بالشام قد تجمعت بموقع اسمه اليرموك فبعد أن قضى خالد على معظم جيوش الفرس فى العراق كان مطلوبا منه أن ينتقل للشام ليحقق انتصارا عسكريا غير عادى على أكبر دولة فى تلك الفترة الزمنية ولم يتحقق ذلك الإنتصار المدوى إلا بأربعين ألفا من الجند مقابل نصف مليون من الروم .

ليس بمقدورنا أن نتناسى كل هذا التاريخ و كل هذا الزخم الذى عاشته أمتنا فهل فعلا هذه الأمة هى نفسها التى اغتصب بيت مقدسها و صارت أراضيها مستعمرة وحل بها من الضعف ما يندى له الجبين خزيا ؟ هل من الممكن أن يكون الحديث فى الحالتين عن نفس الأمة ؟ .

إنما الأمة العزيزة هى التى كانت قائمة أيام اتساع الأرض الإسلامية فى عهد هارون الرشيد مما دعاه إلى مخاطبة إحدى السحب وهو يطل إليها من شرفة قصره فيقول لها " اذهبى شرقا أو غربا اذهبى أينما شئت فسيأتى خراجك لبيت مال المسلمين " و هو ما يعنى أن المطر الذى تسقطه تلك السحابة لا مناص له إلا وأن يسقط على الأرض الإسلامية المترامية الأطراف و فى نفس الفترة كان الأمير البيزنطى نكفور حاكما لدولة الروم ودافعا للجزية كل سنة ليحمى حدوده من المد الإسلامى وفى أحد الأعوام رفض دفع الجزية عن يد وهو صاغر بل أنه طلب من هارون الرشيد أن يرد إليه كل الأموال التى كانت قد دفعت فى السنوات الماضية فما عاد ذلك عليه إلا وبالا حيث قتل فى عامورية وكانت موقعة حاسمة سقطت فيها تلك المدينة رغم كونها ثانى أهم المدن الرومية بعد القسطنطينية فى ذلك الوقت و بذلك خرج رد هارون الرشيد عن الخط التقليدى من مفاوضات وتبادل المراسلات إلى الحيز العملى فنظم المتنبى قصيدة فى ذلك الخصوص جاء فيها بيت الشعر التالى :

" السيف أصدق إنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد و اللعب"

و تزداد حسرتنا لما حدث ولازال يحدث لنساء المسلمين من هتك للعرض وبقر للبطون فى البوسنة والهرسك ثم الشيشان ثم أفغانستان ثم العراق ومن قبلهم فلسطين فهل من المعقول أن نقارن ذلك الهوان بما كانت عليه الأمة فى وقت من الأوقات من غيرة على الأعراض ؟ كيف يتثنى لنا التنكر لرد فعل الخليفة المعتصم عندما وصلته الأخبار بأن أسيرة مسلمة فى أسر قيصر الروم قد أسىء إليها بمنع مياه الوضوء عنها فما كان منه إلا أن أرسل إلى القيصر مكتوبا بدأه بالعبارة التالية " من أمير المؤمنين المعتصم بالله إلى كلب الروم " ... فلنتأمل لغة الخطاب التى لا تخلو من العزة و الإدراك التام للرسالة التى يراد توجيهها من خلال حجم الكلمات ووقعها على المرسلة إليه واستطرد المعتصم خطابه كالتالى " قد علمنا ما صنعت مع الأسيرة المسلمة فإن لم ترسلها معززة مكرمة فى قافلة من النساء محملة بالهدايا و الإعزاز لأمة الإسلام لنأتينك برجال أولهم عندك و آخرهم عندى والرد وقتها ستراه بعينك ولن تسمعه بأذنك " فماذا فعل قيصر؟ بالطبع لم يسعه إلا الإمتثال لأوامر المعتصم فعادت الأسيرة المسلمة إلى بغداد يوم قالت " وااسلاماه " فوجدت من يسمعها .

مهما تطرق بنا الحديث فمازال يراودنا شعور الصدمة من التدهور الحالى لأمتنا بعد أن كانت الفتوحات الإسلامية تتنامى شرقا وغربا كاللؤلؤ المنثور فالشرق يشهد فتح إيران وأفغانستان وباكستان حتى تنسمت كل من الهند والصين نسيم الإسلام فها هو قتيبة بن مسلم الباهلى يصل إلى بحر الصين ليقول " لو أنى أعلم أرضا وراء هذا البحر لخضته حتى أفتحها للإسلام " أما شمال أفريقية فقد شهد اكتساح المد الإسلامى عبر تونس والجزائر والمغرب حتى أن عقبة بن نافع اعتلى صهوة جواده على ضفاف البحر و قال محدثا إياه " لو أنى أعلم أرضا خلف هذا البحر لخضته معك " وامتد الفتح شمالا لتكوين دولة الإسلام بالأندلس بما حوته من مدارس وجامعات يفد إليها أبناء أمراء أوروبا وعلى سبيل المثال فعندما أراد هارون الرشيد فى يوم ما أن يكرم ملك فرنسا بعث إليه بساعة لقياس الوقت ولما لم يكونوا على دراية بذلك الإختراع ظن البعض منهم أن بداخلها جنى يحركها ولم يكتف المسلمون وقتئذ بذلك بل وصلوا إلى مدينتى بوردو و ليون الفرنسيتان فكيف يدور بخلد المرء أن ينسحب ذلك المد الإسلامى ويتبدل هذا العز إلى النقيض ؟ .

و للرد على هذا السؤال فلنتتبع الأحداث التى استطاع عبد الرحمن الغافقى فى بدايتها أن يصل إلى حدود ألمانيا على أثر فتحه لمعظم أراضى فرنسا من أجل تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية وإذا ببوادر الإتحاد الإستراتيجى بين ألمانيا وفرنسا تتجلى من خلال المباحثات وتبادل الآراء بينهما لإيجاد حل للمأزق الذى يواجهانه فكان على هاتين الدولتين الإختيار ما بين الإستمرار فى مواجهة المسلمين عسكريا أو مفاوضتهم لعقد المعاهدات معهم وتجنب الاصطدام بهم وأتاحت تلك المباحثات الفرصة لشاب عسكرى فرنسى فى الثلاثينيات من عمره يدعى شارل مارتال أن يعرض ما توصل إليه بعد دراسته لأسباب انتصار الأمة الإسلامية ونقاط ضعفها والتى من الممكن أن تؤدى إلى هزيمتها ولقد اكتشف مارتال أن قوة أعدائه ترجع إلى توحدهم ففى أحد تلك الإجتماعات شرح مارتال للحاضرين سبب تفضيله لمهاودة المسلمين فيقول " الرأى عندى ألا نواجههم فهم كالسيل العرم يجرف كل ما أمامه وقلوبهم متوحدة حتى صاروا كالحصون المنيعة ولذا فالأفضل أن نتركهم حتى تدخل الدنيا فى قلوبهم فيتنافسوها على قطعة أرض أو قصر منيف أو كرسى حكم وساعتها تتفرق القلوب فتكون نهايتهم " .

و عند تناول كلام شارل مارتال بالتحليل نجده ينم عن ذكاء الشخص المفكر فى الأحوال المحيطة به والبعيد عن الغفلة المضرة لصاحبها فلقد درس ذلك الشاب الفرنسى فكرالإسلام وتعلم منه أهمية التفكر فى الأمور الهامة وتدبر حسن التصرف فيها وفى الواقع فإن جوهر هذا الكلام لا يختلف عما رواه ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال: ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت ) رواه أبو داود .

حقيقة هو بالفعل هذا الوباء الذى استشرى فى الأمة فى الوقت السابق على ظهور صلاح الدين فكم كانت هناك من انقسامات شديدة دعواها " نفسى نفسى " أما دعوى " أمتى أمتى " فلم يعد له وجود وقتذاك وتطل علينا " بلاط الشهداء " كموقعة ما بين عبد الرحمن الغافقى وشارل مارتال وكان ذلك بعد فترة انتصارات عبد الرحمن الغافقى الأولى التى أخذ على أثرها مارتان فى تدبر الأمر كما سبق أن أفضنا انتصر عبد الرحمن و جنده فى بداية المعركة و لكن الكارثة تكمن فى أننا كمسلمين نغفل عن أخذ العبرة من الهزيمة ففى أحد انهزمنا فانزل الله سبحانه و تعالى قوله :

" منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " ] آل عمران 3 :
152
[

فى أحد نتجت الأزمة عن إختلاط القلوب بشائبة حب الدنيا وللأسف تكرر الحال فى " بلاط الشهداء " حيث انتصر جند عبد الرحمن فى مطلع الأمر فما لبثوا أن تركوا المعركة و التفتوا إلى الغنائم فتفرقوا و بدأ مارتال فى إعادة تجميع قواته وفى أربعة الأيام التالية أجهز على المسلمين دفعة واحدة ولم يترك أحدا من جيش عبد الرحمن الغافقى فقد أبيدوا جميعا عن بكرة أبيهم وكانت آخر كلمة يتلفظ بها عبد الرحمن الغافقى حال استشهاده " وا اسلاماه " .

حقيقة الإسلام يحتاج إلى رجال فماذا حدث للرجال وأدى بهم إلى حالة الضعف المستشرية حاليا ؟ .

الرد المباشر على هذا التساؤل يكمن فى الإنصياع للفردية والبعد عن الله عز وجل وذلك هو الحق بعينه دون أدنى بعد عن الموضوعية والتاريخ يروى لمن يريد أن يعتبر أن أسباب الإنتصار فى المقابل تجلت فى التمسك بحبل الله والقرب منه تبارك و تعالى .

وبالعودة إلى أسباب الخيبة التى تعصف بنا نجدها تبدأ ببعدنا عن الله الواحد القهار وحرصنا على الإتجاه شرقا وغربا دون تحديد هدف نسعى للوصول إليه أو الاهتمام بما سوف يؤول إليه مصيرنا وفى الواقع إن أهم ما أطلبه من كل قارىء الشاب والفتاة الأب والأم والجد أو الجدة أن يشعر أن هذا الحديث وهذه الدعوة موجهان إلى كل منهم بصفة شخصية حتى نعى تماما كل سبب من أسباب تأخر عودة الإنتصارات للأمة أم أن هذا الأمر لم يعد يخص كل فرد على حدى ؟ ويجدر بنا إذن التعرض لبعض مظاهر ضعف الإيمان حتى إن وجد القارىء أحدها ينطبق عليه تنبه له وعمل على التخلص منه حتى تتكون المقدمات المؤهلة لإستقبال الفكر السليم والسلوك الصحيح لصلاح الدين الأيوبى .

أول مظهر لضعف الإيمان يصب فى سهولة إرتكاب المعاصى حيث يقدم الواحد منا على ارتكاب المعاصى دون أن يكون هناك تأنيبا للضمير وإذا كان الخطأ تجاه شخص مهم فى حياة الفرد مثل رئيسه المباشر بالعمل أو من هو ذو سلطة أو تأثير عليه فإنه يحجم عن ارتكابه أما إذا كان هذا الخطأ مستورا عن أعين الناس ولا شاهد عليه سوى الله فيتم ارتكابه دون أن يشعر مرتكبه بالذنب .

كما تعد قسوة القلب مظهرا آخر لضعف الإيمان حيث يقل تأثير وقع آيات الله على عباده والغريب أن البعض قد يتأثر لدرجة البكاء عند سماعه لأغنية أو متابعته لمشهد تمثيلى مصور فى حين أنه لا يبالى بآيات القرآن التى تتحدث عن الجنة والنار أو بآيات الله المستنبطة من الأحداث و المجريات الحياتية .

ثم يأتى ذكر التقصير فى إتيان المناسك التعبدية حقها فى الخشوع كمظهر شائع للضعف الإيمانى وعلى سبيل المثال يميل الواحد منا إلى تكرار سماع مقطع موسيقى أثار إعجابه مرات و مرات ولكنه يتعجل الإنتهاء من الصلاة أو يؤخرها أو يجمع ما بين فرضين أو أكثر أما إذا كان الأمر متعلقا بالالتزام نحو انسان ذى أهمية معينة كصاحب العمل مثلا فإن الإهتمام والإتقان يحلان محل التقصير طالما أن هناك عائدا ماديا محسوس كالمرتب الشهرى .

أما أحد مظاهر الضعف الإيمانى الأكثر تفشيا فى وقتنا الحالى فهو يتمثل فى الشكوى الدائمة و ضيق الصدر من أمور الحياة وفى المقابل قلما نجد من يغضب لمحارم الله فإذا أقدم أحد الأشخاص على ارتكاب معصية على مرأى من الناس فهو للأسف لا يجد من ينهاه عن ذلك ولكن عندما يكون الخطأ فى حق شخص معين فغالبا ما يكون رد الفعل قويا وطالما أن أغلبنا أصبح لا يعبأ بالأمة وإنما يصب كل اهتمامه على نفسه فلا أحد يهتم بما حدث ويحدث فى فلسطين والبوسنة وكشمير والعراق فهل هناك من يعبأ بكل ذلك أم أن الأمر المهم أصبح ما يخص النفس ذاتها فقط ؟ وعندما تصير الدنيا هى الشغل الشاغل للمسلم حتى أنه ينسى آخرته فبم يجيب الله عندما يسأله تبارك و تعالى يوم القيامة عما فعله فى دنياه ؟ .

فى الواقع إن مظاهر ضعف الإيمان المذكورة وغيرها الكثير ترجع فى جملتها إلى البعد عن الله عز وجل وكيف لا نكون بعيدين عن بارئنا إذا كنا لا نقوم له ليلا تضرعا وانكسارا تقربا واستسلاما طالبين منه العفو والسماح والتوبة و العون؟ وللأسف لم نعد نشعر بحاجتنا لفعل ذلك لإننا بعدنا عن الأجواء التى تقربنا من الواحد الأحد وبالتأكيد فإن القدوة الصالحة تعد من أهم ما نفتقده من أجواء معينة على تقوى الله تبارك وتعالى وإذا سألت أى شاب عن قدوته يخبرك بأنه رسول الله صلى الله عليه و سلم إذن فلنراقب أفعالنا وأسلوبنا وطول أملنا فهل نحن متبعون للنبى الكريم فى كل ذلك بالفعل أو أننا نعيش وكأننا مخلدون غافلين عن البغتة التى يأتى فيها الموت ومن أخطر آثار الغفلة وطول الأمل أنهما يشعران الإنسان أن الدنيا مقبلة عليه فينسى أو يتناسى أنها مجرد دار فناء فى حين أن الآخرة هى دار بقاء .

ولكن طريق القرب من الله ليس بعيدا فمفتاحه التوبة النصوح الخالصة لوجهه الكريم وعنوانها الانكسار لله تعالى و الخضوع له فلتقبل إذن على خالقك باكيا راكعا و ساجدا له فى مكان وزمان لا يراك فيهما الا هو السميع البصير أقبل على ذكر الله و دعائه تكون منه قريبا و برحمته سعيدا فى الدنيا و الاخرة .

إن التقرب من الله لابد له وأن يؤدى بنا إلى النهوض بأمتنا من جديد فهو بمثابة القاعدة الصلبة التى يحتاجها كل بنيان عال ومن أمثلة الرحمة التى تتنزل على العبد المخلص لله ما قاله ربعي بن عامر عن المسلمين فى عصره بأنهم رجال يحبون الموت كما يحب غيرهم الحياة ففى حبهم الموت فى سبيل الله ينالون رضوان الله عليهم و يدخلون الجنة .

المطلوب إذن هو أن يتفاعل كل منا مع ما سبق ذكره وأن يسترجع مع نفسه أسباب النجاح والفشل فى أمور الحياة الدنيا والآخرة وتطبيقا لذلك فمن المفيد عمل جدول لكتابة الطموحات التى يسعى كل منا لتحقيقها وتدوينها فى جانب أسباب نجاح أى مشروع و التمسك بها و فى الجانب الآخر الأسباب الشخصية للفشل والإنحدار بهدف البعد عنها وذلك كله يكون الغرض منه الشروع فى اتباع بداية صحيحة لإننا لن نحقق أى إنجاز ما دمنا نتبع نفس الأسلوب الذى أدى بنا إلى هذا المنحنى الخطير و ليبدأ كل فرد إذن بالبحث عن الأسباب ليضعها فى جدول بغرض الإبقاء على الإيجابى منها واصلاح السلبى عملا بهذه الدعوة لإصلاح شئوننا كلها فى الدنيا والاخرة .


هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك