أقدم إليكم هذه السلسلة المعنونة بفجر أمة وأقصد بهذا العنوان الفترات التى أفرزت فيها شمس الإسلام شخصيات استطاعت بإسلامها أن تضئ الدنيا و تبرهن على عظم قدر الإسلام بما يتيح له أن يكون دائما فى الصدارة ولنتعلم منها ولنتخذ منها قدوة لنا فالشاب قد يتخذ ما شاء من شخصيات هذه السلسلة قدوة له والفتاة ستتعلم كيف تربي أبنائها كصلاح الدين مثلا أو كبطل من أبطال المسلمين عندما تكون أما وكذلك الحال للآباء والأمهات .
والفترة التي سندرسها هي الفترة التي تم فيها احتلال فلسطين من قبل الصليبيين الحاقدين إلى تحريرها على يد البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وسنتعرض في هذه السلسلة لغيره من الشخصيات الإسلامية العظيمة .
وبلا شك إن الحديث عن صلاح الدين يعود بنا إلى صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا ولكن سرعان ما نصاب بحسرة عند العودة إلى الأمجاد التى عاشتها الأمة فى وقت من الاوقات ومقارنتها بما نحن عليه الآن وبالتالى قد يتساءل البعض لم أنغمس فى قراءة سلسلة مثل هذه ؟ فماذا عساها أن تزيدنى سلسلة عن صلاح الدين الأيوبى ؟ ... لا داعى لزيادة ما نحن غارقون فيه من إحباط ! فى حين يكتفى البعض الآخر بعدم اهتمامه بالتاريخ على وجه العموم وعلى أى حال ليس الغرض من هذا السلسلة دراسة التاريخ و لا تقديم فقه دينى بحت و لا سرد أحداث و تواريخ تثقل كاهل القارىء وإنما كل أملى أن يبزغ فجر الأمة من جديد مثلما بزغ من قبل وبالفعل نحن نشعر بمرارة الظلمة الشديدة المحيطة بنا و بالليل الدامس الذى يحاصرنا من كل اتجاه متى تسطع الشمس؟ ومتى يبزغ فجر هذه الشمس؟ أعتقد أنه ليس لدينا أدوات تمكننا من إعادة الفجر من جديد سواكم أنتم قراء هذه السلسلة والحقيقة أنتم الفجر الذى ننتظره منذ أمد طويل وفى الواقع تثير هذه المقدمة تساؤلات ومواقف كثيرة وقصص وروايات المقصود منها إثارة فضولكم حتى يتضح مدى احتياجنا للقراءة والتعلم وخاصة بالنسبة لشباب القراء الذين يمثلون الشريحة المهمة والتى تقوم عليها الأمة ككل .
ولذلك فمن الجدير بالذكر أن يعرف هؤلاء الشباب أن صلاح الدين لم يكن قد اكتسب شهرته بعد حتى سن الثلاثين ولا كان يخطر على بال بشر أن يتحول هذا الرجل إلى قائد مسلم ذائع الصيت وأن يستطيع قلب الأوضاع رأسا على عقب ! و عليه فيا شباب العشرين ربيعا وأيضا من هو أكثر أو أقل من ذلك قليلا فإنه بإمكان أحدكم أن يشحذ همته بل أن يصبح بالفعل صلاح الدين هذا القرن بكل تأكيد أنت أيها القارىء تستطيع ذلك فالحديث موجه إليك! ولكن بالطبع عليك أن تتعرف على الملابسات التى جعلت من ذلك الرجل صلاح الدين وهل يجول بخاطرك أن توجه صلاح الدين لله سبحانه وتعالى لم تعتره بعض فترات الضعف مقابل فترات الإلتزام الغالبة ؟! بالله عليك لم يكن صلاح الدين يوما من الأيام أسطورة بل كان رجلا مثلى ومثلك محاط بأناس يساعدونه و يشدون من أزره حتى كتب الله له تحقيق الإنتصارات واحدا تلو الاخر فإن راودتك نفسك للوصول إلى مرتبته وإنجاز ما أنجزه فلا بد لك إذن من تصفح أجزاء هذه السلسلة .
ومن المهم بمكان الانتباه إلى الحدث الضخم الذى غير مسار حياة صلاح الدين و هو فى الثلاثين من عمره فبدلا من كونه مجرد يوسف بن أيوب أصبح لا ينادى إلا بلقبه صلاح الدين الأيوبى صاحب السيرة العطرة المستمدة من انتصارات حطين وعودة فلسطين والمسجد الأقصى ! وما أدراك أن يكون ذلك الحدث قد وقع فى حياتك أنت أيضا أو لعله يقع فى أى وقت ؟ المهم تستفيد منه و أن يكون ذات الحدث عونا لك على بلوغ ما كتبه الله سبحانه و تعالى لك من مراتب و درجات و لا زالت الفرصة متاحة شريطة أن تسأل نفسك " لماذا لا أصير مثل صلاح الدين ؟ لماذا ينبغى أن يكون صلاح الدين هذا العصر شخصا آخرا غيرى ؟ " ولعلك تستطيع بذلك مواجهة نفسك دون النظر إلى آخرين ثق فى ذاتك ثق فى قدراتك وعندها سوف تحقق ما تصبو إليه .
مقارنة بين صلاح الدين والشباب الحالي .
أما صلاح الدين أبان شبابه فكان يقضى وقت فراغه فى الرياضة مثله مثل عامة الشباب فقد كان يمارس لعبة كرة القدم .... نعم كان يلعب الكرة مثلكم أيها الشباب فقد كانت هذه هوايته كما لكم هواية من الهوايات و تمارسون رياضة من الرياضات و لا تفاجئوا لمعرفة أن صلاح الدين كان يشارك فى دورى الكرة حتى أنه برع فى تلك الرياضة و كان عضوا بارزا فى أشهر فرقها فى ذلك العصر كان الممارسون لهذه الرياضة يلعبون الكرة وهم علي ظهر الجواد تماما كما هو الحال بالنسبة للعبة الPolo التى تمارس بالهند وباكستان فى وقتنا الحالى ولم يحقق صلاح الدين انتصاراته بالنوم طوال ساعات النهار أو بالانقطاع عن الدنيا لحفظ آيات القرءآن والأحاديث النبوية الشريفة ، صحيح أن صلاح الدين كان حافظا للقران الكريم كما تعلم الأحاديث على أيدى أساتذته لكنه فى ذات الوقت كان يمارس الرياضة وبطبيعة الحال كان لصلاح الدين أصدقاء مقربون يلجأ اليهم يستفتيهم فيفتوه فقد حدث وأن شعر مرة كما يشعر حديثى الالتزام بالدين عندما يقل ورعهم و خشوعهم فى مناسكهم التعبدية فبعد أن يكون أحدهم قد تقرب إلى الله يدرك فجأة أنه ابتعد عنه فنجد صلاح الدين يمر بأزمة نفسية وهو فى السابعة عشر من عمره حتى أنه يسأل عمه إذا كان ما يشعر به من ضيق يعتبر علامة إيجابية أم سلبية .
وليكن الأمر واضحا لم يكن صلاح الدين أكثر تعبدا من الصحابة رضوان الله عليهم ولا من السلف الصالح رحمهم الله وإنما قائدا مسلما جاء بعد أكثر من خمسمائة عام من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن فما زال بالإمكان إعادة الأمور إلى نصابها ومهما تدهور بنا الحال فما زال بامكاننا استعادة الوضع الذى كانت عليه الأمة أبان عصر الصحابة ثم السلف الصالح .
وفى الواقع فإن للشباب نصيب الأسد من الخطاب الموجه إليهم من خلال هذه السلسلة حيث أنهم المعنيون بالعمل على نهضة الأمة من جديد وعسى أن يبرز منهم من يعيد إلينا فلسطين والمسجد الأقصى و أن يحرر كل أراضى الاسلام المغتصبة حاليا .
ومع ذلك فإن خطابنا هذا لا يقتصر على الشباب و إنما يخاطب كل أم و كل أب نحن كآباء وأمهات هل فعلا نحن متبعون لأسس سليمة لتربية أبنائنا ؟ هل نحن حريصون على غرس القيم فيهم ؟ هل لدينا القدرة على تحفيزهم لتحقيق أهداف سامية تصل بهم إلى درجات عالية ؟ ما هى آمالنا من تربيتنا لأبنائنا ؟ هل هى محدودة بحلقات الدورة الحياتية الشائعة من إلحاق الأبناء بالمدارس والحرص على تخرجهم الجامعى ثم ترقب إلتحاقهم بالعمل و زواجهم وتهنئتهم عند الإنجاب؟ هل هذه هى كل الطموحات التى أرادوا أن يحققوها فى حياتهم ؟ .
ولكن كانت لصلاح الدين أهداف مختلفة ، فماذا كانت أهدافه بالتحديد ؟ و كيف وجدت طريقها إلى قلبه ؟ وكيف تمكنت والدته على وجه الخصوص من غرسها فى نفسه ؟ الأسئلة كثيرة فلا بد إذن أن تحمل الحلقات المخصصة فى هذه السلسلة لإلقاء الضوء على نشأة صلاح الدين العديد من تفاصيل الإجابات المرجوة .
وبناءا على ما تقدم فالدعوة قائمة للآباء والأمهات حتى يتعرفوا على النقاط الخمس الرئيسية الواجب غرسها فى الأبناء و التى تؤدى إلى تنشئتهم النشأة السليمة ومن الأحرى أن يكون المربون لأولادهم على علم بوسائل التربية السليمة التى من شأنها أن تولد لدى أبنائهم الإهتمامات النافعة وتغذيهم بالقدوة الحسنة وتنمى مهاراتهم و تزيد من قدرتهم على التفكير الإيجابى وتعينهم تدريجيا على ما هو مطلوب حاليا من تحمل المسئولية وهناك أيضا الحاجة الماسة إلى التأكد من أن أولياء الأمور أنفسهم و أولادهم كذلك بإمكانهم إقامة علاقات سليمة .
أيها الأباء والأمهات إن مسئوليتكم تشمل ضمن ما تشمله بذل هذا الجهد لأن القضية لا تلقى بحملها على الشباب وحدهم وإنما هى قضية أسرة متكاملة تستطيع أن تنجح فى تربية أبنائها و إفراز شخصية كشخصية صلاح الدين الأيوبى .
وعلى سبيل المثال هل لدى كل أم من الأمهات الإدراك الحقيقى لقيمة القصة التى تروى للطفل قبل النوم ؟ لقد توصل علماء النفس لحقيقة علمية ثابتة مفادها أن أكثر شىء يستقر فى عقلية ونفسية الطفل هو آخر شىء يصل إلى مسامعه قبل النوم ولذا نجد والدة صلاح الدين تروى له القصص متى يحين ميعاد نومه فهل أنتن يا أمهات اليوم تميزن بين ما يروى لطفل السنتين و ما يروى له عند الأربعة ثم عند الستة ؟ وما هى الشخصيات التى تردن إبرازها فى نفوس أبنائكم ؟ هل هو قتيبة بن مسلم الباهلى أم عقبة بن نافع ؟ أم هم الأميرة والأقزام السبعة وميكى و بندق و ا يلقى إلينا به حاليا ؟ ألم يحن الأوان بعد أن تاخذن فى الإعتبار نوعية القصة التى كانت أم صلاح الدين تغرسها فى نفسيته و أن تتعلمن دور هذه الأم فى تربية إبنها ؟ .
وهل أنتم يا آباء يا مسئولون يا رعاة الأسرة ويا رعاة الأمة ألم تعدوا العدة للحظة وقوفكم بين يدى المولى عز و جل و سؤاله لكم عن تنشئتكم لأبنائكم و رعايتكم لهم ؟ ألا تشتاقون إلى التميز فى تلك اللحظة ؟ ألا تبغون الجزاء الحسن ؟ ألا تقدرون قيمة أن يشار إليكم بعبارات مثل " هذا والد صلاح الدين الأيوبى" أو " هذا جد صلاح الدين اليوبى " ؟ .
وقبل الإنتقال إلى النقطة التالية فمن المهم بمكان أن يستقر الكلام السابق فى قلوبكم فتعم الفائدة نظرا لحاجتنا الكبيرة إلى تنفيذ ما سبقت الإشارة إليه و إلى ما يلى :
القدوة و تأثيرها فى تكوين شخصية صلاح الدين المتكاملة .
إن شخصية صلاح الدين لم تمت بموته فهى شخصية إسلامية من الممكن تكرارها مرة و مرات و كما برز قائد قاد الأمة و إنتصر لها فمن الممكن أن يبرز أفراد كثيرون لو إنتهجنا نفس النهج و سرنا على نفس المسار الذى سار عليه صلاح الدين الأيوبى ولقد تميزت شخصية صلاح الدين بتكاملها و لذلك أكررسؤالى على الشباب ( ما هى إهتماماتكم ؟ أترغبون حقا فى معرفة إهتمامات صلاح الدين حتى تشرعون فى إتباعها ؟ ) فإذا أردتم تفنيد إهتماماتكم الحالية فما عليكم إلا أن تسترجعوا بأذهانكم نوعية البرامج التى تشاهدونها بالتليفزيون و الصفحات الخاصة التى تسارعون إلى قراءتها بالصحف و المواضيع المتداولة خلال حواراتكم مع أصدقائكم .
أتريدون فعلا التعرف على كيفية سير الأمور فى عصر صلاح الدين و ما مدى تأثير شخصية صلاح الدين فى الأمة ككل ؟ إذن فلنواصل معا الإهتمام بالقدوة فى تشكيل شخصية الإنسان و ليسأل كل منا نفسه ( من هو قدوتى ؟ ما هى الشخصية التى أضعها نصب عينى فى كل تصرف من تصرفاتى ؟ ) والعكس صحيح فمن الممكن أن يتعرف كل منا على قدوته من خلال مراجعته لأسلوب تصرفاته و أفعاله و على سبيل المثال لو سألت أى مسلم ( من قدوتك ؟ ) فسريعا ما تنطلق الإجابة ( قدوتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ) لأن للحديث خلفية دينية لكن عند الرجوع إلى حقيقة ما يتم فى المنزل فى الشارع فى العمل فى أى مكان فمن ذا الذى تتخذه قدوة عند تصرفك فى مختلف المواقف ؟ من الشخص الذى تتبع أسلوب تعامله مع الناس أو حديثه أو أفعاله ؟ من هو قدوتك بالفعل ؟ لا شك أن الإجابة على هذه الأسئلة سوف تحدد شخصيتك وأهدافك فى حياتك و من هنا نعود إلى صلاح الدين و قدوته فى الحياة بالطبع كان الرسول صلى الله عليه و سلم خير قدوة لصلاح الدين و من أكثر ما أخذ القائد المسلم عن النبى الكريم هو قيام الليل فإنه لم يترك هذا النسك التعبدى مهما يكن قد أصابه من تعب أو جهد أثناء النهار فكان يسجد لله ليلا و ينكسر له و لو فاته نفل الليل تنفل فى الضحى .
وفى حقيقة الأمر فقد تأثر صلاح الدين أيضا بمجموعة من القدوة المعاصرة له و من أهمها نور الدين محمود الذى تميز بتقواه و نقائه و لما كان صلاح الدين مقربا لنور الدين فقد تعلم منه الكثير وبالتأكيد كان أيضا لشخصية عماد الدين زنكى والد نور الدين محمود أكبر الأثر فى نفسية صلاح الدين فقد إتخذه مثالا للتضحية والجهاد فى سبيل الله حتى و لو إضطر إلى مواجهة بعض الظروف القاسية منفردا و لا نغفل دور نجم الدين أيوب والد صلاح الدين و الذى أخذ عنه صلاح الدين ترجمة الأقوال إلى افعال هذا بالإضافة إلى أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين .
أما يا شباب هذه الأيام فمن قدوتكم ؟ هل هو مجرد لاعب كرة يباع بالملايين ؟ أم ممثل يؤدى دوره فى فيلم متقاضيا الآلاف المؤلفة ؟ أم هو المظهر الذى يظهر من خلاله هذا اللاعب أو ذلك الممثل ؟ إنما القدوة الحقيقية هى القدوة التربوية فى المقام الأول و لذلك ينبغى مراجعة تصرفاتنا حتى يعرف كل منا الأساس الذى تقوم عليه هذه التصرفات و تلك القدوة التى نتبعها فى حياتنا .
قد تكون من دواعى الدهشة أن شخصية صلاح الدين الأيوبى مازالت عالقة حتى وقتنا هذا بأذهان الأشخاص الفاعلين فى الحياة الغربية و المصير الأوروبى فهل لكم أن تتخيلوا أن اللورد اللينبى وهو لورد إنجليزى دخل بيت المقدس عام 1917 ليعبر عن مشاعره بالجملة التى لا تخلو من الغرابة فقال " اليوم إنتهت الحروب الصليبية " أليس غريبا أن يظل هذا الرجل متعلقا بذاكرة الحروب الصليبية التى وضعت أوزارها منذ أكثر من ثمانمائة عام حتى أنه تلفظ بهذه الجملة حال دخوله بيت المقدس فى مطلع القرن العشرين ؟ هل هذا الأمر مجرد حدث فردى ؟ أم أنه قول صدر عن رجل عسكرى ملم بالأحداث التاريخية ؟ .
الإجابة على تلك الأسئلة إحتاجت إلى ثلاثة أعوام عندما دخل دمشق عام 1920 جنرال فرنسى هو الجنرال جيرار أبان وقوع سوريا تحت الإنتداب الفرنسى و تأتى المفاجأة مدوية هذه المرة إذ أنها تكمن فى طبيعة المكان الذى أسرع ذلك الرجل الحربى الفرنسى إلى زيارته فهل كان مشتاقا لمشاهدة جبال دمشق أو أوديتها أو سهولها ؟ أم أنه بحكم طبيعة عمله هرع إلى تفقد المعسكرات الحربية ؟ كلا لم يدر أى من ذلك بخلد هذا الرجل الذى طلب على عجل أن يأخذوه إلى قبر صلاح الدين و كأنه أراد أن يقضى على أى داع من دواعى الدهشة حين وقف أمام قبر القائد المسلم فخرجت من فمه جملة رغم الحسرة التى تولدها فى القلوب إلا أننا فى أمس الحاجة للإستفادة من كلماته " ها قد عدنا يا صلاح الدين فهل من صلاح ؟ " لقد خاطب هذا اللورد الفرنسى صلاح الدين الأيوبى فى قبره ليخبره أن كل ما بذله من عطاء فى عصر مضى بالإضافة إلى مشاعر العزة للأمة و الدروس المستفادة كل ذلك ذهب أدراج الرياح غير أن المستفيد الوحيد منه كان الغرب فى حين أن المسلمين قد أهدروا تاريخهم ولقد أراد أن يبرهن أن الغرب إستفاد و تعلم من صلاح الدين حتى عرفوا بالضبط ما ينبغى عمله لكسر أمة الإسلام و هزيمتها و إعادة الإستحواذ على الأرض التى طردهم منها صلاح الدين منذ ثمانية قرون .
لقد كانت الجملة التى تلفظ بها ذلك اللورد الفرنسى بمثابة الدافع القوى للعودة إلى كتب التاريخ التى أكدت أن حالة التفكك التى نعانى منها كمسلمين حاليا هى بالضبط التى كانت سائدة قبيل سطوع نجم صلاح الدين بل إن الحالة أيامها كانت أسوأ من الآن ولذلك فمن الأهمية بمكان استعادة بعض الحقائق التاريخية ليس بغرض الإحباط و لكن على العكس من ذلك لإعطاء الأمل و سوف يدرك القارىء مدى إمكانية تحقيق ذلك عند تعرفه على الأدوات التى سوف تمكننا من النهوض من جديد و عندها تثمر التربية السليمة بإخراج شباب مهيئ للعمل لدينه و مهما تردى بنا الحال من ضعف إلا أنه لابد لنا من النهوض و الإنتصار مرة أخرى على أيدى رجال ينتمون لهذا الدين و لسوف ينتصرون كما إنتصر صلاح الدين الأيوبى ! .
ولعله من الضرورى التوضيح بأن أى شخصية تاريخية لابد أنها كانت عبارة عن جزء من منظومة كبيرة و قصة صلاح الدين الأيوبى خير مثال على ذلك فقد إستلم الراية من مجموعة من المسلمين العاملين لدينهم مثل نور الدين محمود و للتعرف على مدى قوة شخصية ذلك الرجل و تأثيرها على الصليبيين الذين إعترفوا له بالتقوى بالرغم أنهم على غير ملته فلنأخذ فى الإعتبار أن المخابرات الحربية الصليبية إكتشفت أن سر إنتصار ذلك القائد المسلم كان يكمن فى ركعات الليل التى كان يسجد فيها لله تعالى رافعا يديه يدعو ربه ولقد كان ذلك هو السلاح الحقيقى لنور الدين محمود فما إنتصر على الصليبيين بكثرة العدة و لا العتاد و إنما بسره مع الله تبارك وتعالى و لسوف نتعرض لهذه الشخصية فى أحد الحلقات .
كما يلزم الأمر الحديث عن شخصية عماد الدين زنكى لنعرف كيف كان لهجوم القائد المسلم على الّرها ردة فعل جعلت الأمير الصليبى يطلب الإستسلام فجرى بين الرجلين الحوار التالى :
- ما هى شروطك يا عماد الدين ؟ .
- شروطى أن أسترد كل الأراضى التى تحت أيديكم .
- أنت تعلم جيدا أن ما تطلبه خارج حدود مقدرتى فلست سوى أميرا لإمارة غير ذات بال .
- و لكنه فى متناول أيدينا إنما المسألة مسألة وقت ليس إلا .
فانظر كيف كان يقين هؤلاء الأفراد المحيطين بصلاح الدين الأيوبى ولذلك فإن الإنتصارات التى حققها ذلك القائد المسلم ترجع إلى منظومة من الأشخاص و ليس إلى شخصه منفردا و بالتالى فلا ينبغى أن يكون دور صلاح الدين هو وحده الدور المستهدف من قراء هذا السلسلة و إنما هناك عدة أدوار ينجذب إليها كل أب كل أم كل معلم كل معلمة كل مشترك فى تربية النشئ حتى فى تدريبهم رياضيا أيا كان موقعك فهو مفيد طالما تنوى إتباع الأسس السليمة للتربية .
إن للإخلاص أمثلة عديدة فى سيرة صلاح الدين الأيوبى و لكن أصحاب كل هذه الأمثلة يشتركون فى رغبتهم فى العمل لأهداف عليا ترضى الله سبحانه وتعالى وليس لكى تذكر أسماؤهم بين الناس .
وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك قصة الشاب الدمشقى و هو أحد الشباب الذين تعلموا من صلاح الدين كيف يكون الإخلاص وهل من قدوة معاصرة فى ذلك الوقت خير من صلاح الدين الذى أمضى سبع و عشرين عاما على ظهر جواده ولم يكن له فيها مأوى سوى الخيمة المتنقلة رغم أن القصور كلها كانت مفتوحة أمامه و ما كان كل ذلك الجد و التفانى إلا إبتغاء مرضاة الله عز و جل وكان من الطبيعى إذن أن يقتاد به الشاب الدمشقى الذى أدرك أنه كانت هناك أزمة حربية عبارة عن أبراج شيدت فى إنجلترا و أتى بها الصليبيون عالية قوية لا تؤثر فيها النيران ولكون هذا الشاب كيميائيا فكان معنيا بالتعامل مع الأخشاب المصنوعة منها الأبراج و ظل طيلة ثمانية أشهر يدرس فى معمله الخواص الكيميائية لتلك النوعية من الأخشاب بما فى ذلك من إرهاق وسهر وإنفاق مادى وبعد هذه الأشهر الثمانية أسرع إلى معسكر صلاح الدين حول عكا وطلب مقابلته وقدم له السلاح الذى إستخدمه صلاح الدين فيما بعد لتدمير هذه الأبراج وإنتهت المعارك بإنتصار صلاح الدين الذى أراد مكافأة ذلك الشاب الدمشقى وجاء الشاب يشق طريقه وسط الجموع التى أنبأته بتكريم صلاح الدين له فما كان من هذا الشخص المخلص إلا أن قال لصلاح الدين عندما وقف بين يديه " ما صنعت ذلك السلاح من أجلك فما أنتظر أجر منك وإنما صنعته لله تبارك وتعالى وإنى انتظر أجري من الله تعالى يوم القيامة " وبالطبع لم يكن ذلك الشاب أكثر تعبدا من الصحابة أو السلف الصالح وإنما كان منتميا إلى مجتمع فى حالة غفلة شديدة ثم أفاق من غفلته وأبرز تلك النوعية من المخلصين .... إذن فالأمر لا يبدو بعيدا على أمتنا حاليا حال إرتقاء أوضاعها أن تخرج منها شباب على ذلك النهج .
ومثال آخر للإخلاص يطل علينا من نافذة الماضى المجيد وهو يتمثل فى شاب مسلم آخر اسمه عيسى العوام ... نعم لا تندهشوا كان عيسى العوام شابا مسلما ولم يكن نصرانيا كما صوره لنا أحد الأفلام السنيمائية وبالقطع لا يستقى التاريخ من أفلام والمسلسلات ! ولم تكمن قيمة ذلك الشاب المسلم فى براعته فى السباحة وإنما فى قلبه لقد تم تكليفه بمهمة عبارة عن توصيل أمانة إلى أهل عكا فربط على بطنه حزام يحتوى على أربعة الآف دينار ذهبية و كان مطلوبا منه المرور ما بين سفن الأسطول الإنجليزى حتى يصل الى أسوار عكا و أثناء سباحته أصيب بسهم معاد فمات وبالطبع كان الناس فى عكا ينتظرون الأموال فبدأت الأخبار ترد إلى صلاح الدين أن عيسى العوام لم يصل إلى عكا و طال الإنتظار يوم إثنين ثلاثة و فى اليوم الرابع تم العثور على جثة عيسى العوام حيث ألقاها البحر على ضفافه وللدهشة الكبيرة وجد الناس الحزام ثابت فى مكانه ففتحوه و وجدوا ما كان به من أموال ولنتعظ من هذه العبرة فبعد موت عيسى العوام يقدر رب العالمين ويأمر البحر أن يلفظ عيسى العوام إلى ضفافه و لكم أن تتخيلوا قيمة هذا الشخص عند الله حتى أنه عز و جل جعله يؤدى الأمانة التى أؤتمن عليها حتى بعد موته .
وفى واقع الأمر هذا هو المثال الذى أطمح أن يصل شبابنا إليه فمازال الأمل يراودنى أن يشعر الشباب بعد قراءته للعشرين جزءا التى تتكون منها هذا السلسلة بأن القلوب بدأت تتحرك فى إتجاه تكوين فكرة ثابتة وهدف ثابت فى حياتنا ألا وهو الإقدام على خدمة الأمة على أمل الوصول بها إلى مرحلة نشعر فيها بالعز من جديد و بأنه فى مقدورنا النهوض مرة أخرى كأى مارد يقوم فى أى وقت من الأوقات و العالم بأسره فى حالة إنتظار لنهوض المارد الإسلامى من جديد حتى أن أرنولد توينبى المؤرخ الغربى و الكاتب يقول أن الصحوة الإسلامية غافلة وعلينا أن نزيد غفلتها وإلا فالمارد الإسلامى سيقوم و لن نستطيع أن نقف أمامه و لذا فنحن فى انتظار الزلزال مثل ما حدث بحطين لإن ما إستخدمه المستشرقون فى كتبهم للتعبير عن ذلك الحدث المهيب كان لفظ " الزلزال " و ليس " حطين " حيث كان زلزالا بالفعل زلزل كيان أوروبا بأسرها حتى وصلت مسامع الأمور هناك إلى أكبر كبير وأصغر صغير .
أحمد الله تبارك وتعالى أنه سخرنى فى تقديم شخصية صلاح الدين التى تثير فى نفسى شجون و أفراح وإحساس بأننا فى أمس الحاجة لتعلم الكثيرمنها و من ثم فإنى أهديها لكل أفراد الأمة الوزير فيهم والخفير وذلك لإن صلاح الدين هو ذلك الشخص الذى وصلت مسامعه إلى مشارق الأرض ومغاربها و هو الذى رصد من أجل القضاء عليه عشرة بالمائة من الدخل القومى الأوروبى وكمثال من أمثلة إخلاص هذا الرجل أسوق إليكم ما حدث بعد وفاته و فتحت خزانته الشخصية فلم يجدوا بها بدلا من الجواهر والماس والنقود المتوقع وجودها سوى سبعة وثلاثين درهما ناصرية أى ما لا يزيد عن جنيه مصرى واحد كان ذلك كل إرث صلاح الدين المالى أما إرثه الحقيقى فهو ما تركه صلاح الدين الأيوبى للأمة ككل و لقد تفاعل الشاعر مع شخصية صلاح الدين حيث يقول :
" هل من صلاح يعيد السيف فى يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا "
الحق يقال هناك شخصيات توفى أصحابها منذ أمد طويل ولكن الإنسان يشعر بقشعريرة عند ذكرها كما لو كانت حية بيننا وهناك فى المقابل شخصيات معاصرة يتم ذكرها فتكون سببا لقسوة القلب والإبتعاد عن الطريق القويم ولذلك فقد أردت من هذا السلسلة أن يكون سببا فى إيقاظ الشعور بالمهمات التى يتعين علينا القيام بها وهى تتلخص فى تسعة عشر مهمة وعليه بدءا من الباب القادم مطلوب إتباع الدرس العملى المقدم فى آخر كل حلقة حتى تكون هناك نقلة على المستوى القلبى و الشعورى لدى الأمة ككل عسى الله سبحانه و تعالى أن ينفعنا و ينفعكم بما نكتب .
هذا ملخص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك