الخميس، 30 أكتوبر 2008

الأمة قبل صلاح الدين

قبل عرض بعض جوانب سيرة البطل الناصر صلاح الدين الأيوبى من الجدير بالذكر التأكيد على أهمية الربط بين عوامل الصعود والهبوط فى حياة كل فرد وبين علاقته بالله سبحانه وتعالى وذلك من المهم بمكان لإنه ما ينطبق على الفرد يصح أيضا بالنسبة للأمة فكما أن صعودها لا يتأتى إلا بارتباطها بالله فإن هبوطها ليس إلا نتيجة لفقد الصلة بينها و بين خالق السموات والأرض .


إذا كان تفرق المسلمين سببا ثانيا لسقوط أمتهم فان القضاء عليه أمر من الله العلى القدير الذى أوضح لنا وجوب ارتباط كل مسلم بأخيه المسلم بما يؤدى إلى أن تعتصم الأمة كلها فى نسق واحد و نسيج واحد يقول الله تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " [ آل عمران 3 : 103[ .

ويقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . رواه مسلم .


وعليه فإن توحد المسلمين ليس مجرد فكرة تنبع من مخيلة أحد الأشخاص وإنما هو ارتباط بالدين الارتباط الأسمى والارتباط بأمة الإسلام يعنى ارتباط الدول ببعضها فى وحدة واحدة اتباعا لأحد الأسس الرئيسية لهذا الدين الحنيف الذى لا يجوز التفريط فيه على الإطلاق ولذلك عندما تضعف الرابطة بيننا وبين المولى عز و جل يطغى حب الذات فينفرط العقد ويعود كل جزء من الأمة إلى أصله الجاهلى وأثناء إقامته بالمدينة خاطب الرسول صلى الله عليه و سلم الأنصار من أوس و خزرج قائلا لهم ( ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة ) السلسلة الصحيحة .


وقد جاء نهى النبى الكريم ليضع حدا للعصبية لغير الإسلام فلا داعى أن يتفاخر الوحد منهم " أنا أوسى صاحب الأمجاد " فيرد عليه الاخر" وأنا خزرجى أمجادى أكثر من أمجادك " وذلك لإن الأمجاد الحقيقية هى أمجاد الإسلام الذى يربطنا بالله سبحانه وتعالى يقول الله فى محكم آياته :


" إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ]الحجرات 49: 13[


عندما ضعفت رابطة المسلمين بدينهم ظهرت الإنقسامات فبعد أن كان هناك خليفة واحد أيام الخلفاء الراشدين ثم الدولة الأموية ثم بداية الدولة العباسية طغت الإنقسامات على الإنتماء للإسلام حيث استأثرت ثلاث دول متعاقبة بمصر عن الدولة العباسية كانت أولى هذه الدول الطولونية وأعقبتها الإخشيدية ثم الفاطمية التى حكمت مصر طيلة مائتى عام واستقطعت حوالى نصف أراضى الدولة العباسية بما فيها الشام وأصبح هناك دولتان العباسية و الفاطمية ثم ظهرت الدولة الحمدانية فى شمال الشام وتكونت أيضا الدولة السمانية والدولة الغزناوية والدولة البويهية وبذلك بدأت كل دولة وكل مدينة تستأثر بنفسها وأصبحت مصلحة كل منها مختلفة عن مصالح الدول الأخرى ففقدت الرابطة الأساسية والأهم على الإطلاق ألا وهى رابطة الوحدة بين الأصول المختلفة لتنصهر فى بوتقة الإسلام وتم كل ذلك فى غفلة عن قول الله عز وجل :


" ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ]ال عمران 3 : 105[ .


" ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " ]الأنفال 8 : 46[ .


وعاش المسلمون على ذلك الأسلوب من الفرقة و العصبية الأصولية حتى صار كل واحد منهم يقدم نفسه بأنه سعودى أو كويتى سورى أو لبنانى تونسى أو مغربى وبالتالى انشغل كل منهم فيما كان عليه قومه أيام الجاهلية بدلا من أن ينتمى إلى الإسلام ولذلك وجدنا من يتحدث عن الفرعونية أو البابلية أو الفينيقية مما أدى إلى بعد كل ذى أصل جاهلى عن ذوى الأصول الأخرى حتى أن مجموعة من الشعراء فى الدولة الفارسية شرعوا فى الخروج عن الدين وقال أحدهم :


هل من رسول مخبر عنى جميع العرب

من كان حيا منهم و من طوى فى التراب

جدى الذى أسمو به الذى أفتخر به كسرى


ومن هنا بدأت العنصرية تطل برأسها وتحن إلى سالف مجدها فهل يعقل أن يمدح كسرى الذى مأواه النار وبئس المصير؟ أيمدح من كان يعبد النار و يشهر عداوته لرسول الله صلى الله عليه و سلم وللإسلام ؟ للأسف هناك الكثير من أبيات الشعر التى تسير على هذا النهج مما يشير إلى انفصال عرى الإتصال بين الأفراد وبين الأمة وها هى مجموعة أخرى من الأبيات التى تدل على مدى العودة إلى الأصولية الجاهلية :


قومى استولوا على الشمس ضحا وبنوا أمجادهم فى الشهب

وأبى كسرى على إيوانه ومشى فوق رؤوس الحقب

وضممت المجد من أطرافه سؤدد الفرس و دين العرب


وقد أدى ذلك التفرق إلى أن تبحث كل دولة عن حماية نفسها بالأسلوب الذى يناسبها حتى و لو كان فيه بعد عن الإسلام و بغض النظر عن مصلحة الدولة المجاورة لها و بالتالى تفرق الشمل وضعفت الأمة .


وبالطبع كانت الدول الأوروبية تترقب ما يحدث فى الشرق وبعد أن كانت فى وقت سابق تخشى المد الإسلامى الذى كان قد زحف على أطراف وحدود فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبدأت تلك الدول تطمع فى كنوز الشرق لاسيما أنها استشعرت بفقدان الرابط بين الأقطار الإسلامية بعضها البعض وتنامى لدى الغرب الأوروبى الشعور بأن الشرق فاتح ذراعيه لمن يبحث عن الثراء السريع وبالفعل أصبح هناك أمل لكل عاطل عن العمل أو قاطع طريق أو أمير باللقب فقط دون تولى أية إمارة فى أن يحقق أحلامه من خلال اغتنامه لجزء من الغنائم التى يمكن الإستحواذ عليها من الشرق ومن منطلق الجشع و الطمع نشأت فكرة الحملات الصليبية التى ليس لها فى واقع الأمر أية صلة بالدين أو الصليب تماما كما قال المؤرخ الألمانى هنرى فون عندما تحدث عن بطرس الناسك الذى حرك أول حملة صليبية والتى أطلق عليها " حملة بطرس الناسك " وأوضح فون أن الموضوع برمته كان كذبا على العامة من الناس حتى أن كل من كان له هدف دنيوى يسعى لتحقيقه فى الشرق أعطى لهدفه صبغة دينية زائفة وانضم للقوات الصليبية التى تنوى الإستيلاء على بيت المقدس وتحرك بالفعل بطرس الناسك بالحملة الصليبية التى اتخذت من الدين شعارا تغرى به من يرغب فى تحرير بيت المقدس وزيارة كنيسة القيامة و الإنتقام من المسلمين الذين يضطهدون المسيحيين وما يدل على زيف الإدعاء الدينى الذى روج له بطرس الناسك فقد أمر قواته بالإغارة على المجر و القسطنطينية والإستيلاء على أموال النصارى من أبناء ملتهم وقتلهم حتى تحرك قسطنطين بجيشه وقضى على حملة بطرس الناسك التى انتهت دون تحقيق أى نوع من المكاسب وصدق ربنا إذ قال [ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ] (179) سورة الأعراف .


فى تلك الأثناء بدأت دولة سلاجقة الأتراك فى شمال سوريا تتنبه للخطر القادم من الغرب وانطلق منها المبعوثون إلى ملوك وحكام ووزراء بغداد و القاهرة ودمشق والحجاز واليمن يخبرونهم بالخطر الذى يتربص بهم وتذرعت كل دولة بسبب مختلف لعدم الإستجابة لدعوة التوحد لدرء الخطر فمنهم من تذرع بالحالة الإقتصادية المتدهورة ومنهم من ادعى وجود مشاكل سياسية داخلية فى الدولة وأيضا منهم من استهان بالأمر وظن أن الخطر لن ينالهم بأى حال من الأحوال .


وبدأت الحملة التى تعرف تاريخيا بالحملة الصليبية الأولى تحت قيادة ثلاثة من القادة هم جودفرى الألمانى وريمون الفرنسى وبوديموندو الإيطالى وكانت تلك القوات تتألف من ستمائة ألف من المشاة ومائة ألف فارس وعند تحرك القادة الثلاثة من وسط أوروبا وصلت الأخبار إلى سمع أرسلان أمير الدولة السلجوقية الذى أرسل المبعوثين ليحذر الدول الإسلامية من الخطر الذى يهدد العالم الإسلامى وللأسف لم تقدم هذه الدول أية مساعدة عسكرية أو مادية و إنما تملص حكامها من المسئولية وادعوا بأنها مشكلة خاصة بالدولة السلجوقية وحدها دون أن يفكروا فى إخوانهم الذين يقتلون ويتعرضون للمخاطر و كان ذلك بمثابة الإشارة بأن العقد قد انفصمت فصوصه بعضها عن بعض ولم يعد الإسلام هو الرابط بين المسلمين وإنما أصبحوا ينتمون إلى دول مختلفة وبدأت بالفعل الحملة الصليبية الأولى ونجحت الدولة السلجوقية فى صد الهجمات الصليبية لمدة عام بأكمله ولكن عدد وعدة الغربيين كان كبيرا فى حين كانت إمدادات المسلمين ضعيفة وحقق الصليبيون الإنتصارات وتكونت أول امارة صليبية فى أراضى العالم الإسلامى إمارة الرها التى كانت بمثابة الخنجر فى القلب وبذلك أصبح الخطر الناتج عن تلك الحملات واضحا ألا وهو الإستيلاء على بيت المقدس والمسجد الأقصى .


ورغم ذلك الخطر المحيط بالأمة فلم يتحرك أحد إذ كانت الغفلة مسيطرة على الأفراد والحكام كان كل منهم مشغول بنفسه غير عابىء بما يحدث لإخوته المسلمين فى بقعة أخرى من بقاع الأرض طالما أن تلك البقعة بعيدة عنه ولكن فى واقع الأمر تهون المسافات فى أعين المعتدين عندما تكون الأهداف استعمارية وهو ما حدث بالفعل حيث نزل الصليبيون على أنطاكيا وحاصروها تسعة أشهر وعندها خرج المبعوثون من قبل الدولة السلجوقية إلى الحجاز والقاهرة وكل مقر إسلامى طالبين النجدة والعون ولكن للأسف دون جدوى فالشعور قد تبلد والقلوب والأعين والآذان قد تعطلت عن تقوى خالقها سبحانه وتعالى وما أشبه اليوم بالبارحة أليس ذلك ما يحدث الان ؟ ألسنا نشاهد بالتلفزيون منذ فترة ليست بالقصيرة مناظر قلوب الأطفال وقد اخترقها الرصاص أو الجرحى والمعذبين الذين لا يجدون من يهب إلى نجدتهم من أهل بيت المقدس والعراق ومواقع أخرى كثيرة ؟ لقد حلت حالة اللامبالاة حتى أن المسلم أصبح يعيش حياته ويمارس أنشطته اليومية دون أى رد فعل ونفس ملامح هذه الحالة الحالية كانت شائعة فى ذلك العصر فلم يكن أحدا متنبها لآيات الله عز وجل .


فرق تسد ... مبدأ غفلنا عنه .


وعلى العكس من ذلك كان الغرب مدركا لأهمية التوحد حتى أن الفيلسوف الألمانى ديدبة كان يروى لأمير فى الهند اسمه توبشليم قصة الثيران الثلاثة ليشعره بالقيمة العظيمة للوحدة وقد تنطبق هذه القصة على واقع الأمر حاليا كما تنطبق على أحداث تلك الفترة من الماضى وتروى أحداث القصة أن الثيران الثلاثة كانوا بألوان مختلفة أحدهم أبيض اللون والثانى أحمر والثالث أسود وكان الأسد قد حاول فى كثير من الأحيان أن يأكل أحد الثيران الثلاثة ولكنه لم ينجح فى ذلك لأن الثيران كانوا يتواجدون سويا بصفة دائمة ويحمى كل منهم الآخران فأخذ الأسد يفكر فى حيلة تمكنه من تحقيق مأربه فأخبر الثور الأبيض بأنه أجمل من الثور الأسود ثم أخبر الثور الأحمر أنه أجمل من الثورالأبيض وأخبرالثور الأسود أنه أجمل من الثور الأحمر وبعد أن كان الأسد قد بث بذور الفتنة بين الثيران الثلاثة هجم على الثور الأبيض ولكن الثورين الأحمر والأسود لم يدافعا عن ابن جنسهما بسبب الخلافات التى أشعلها الأسد بينهم وتمكن الأسد بالفعل من أكل الثور الأبيض ثم الثورالأحمر وعندما جاء الدور على الثور الأسود ليأكله الأسد نطق بالحكمة المستخلصة من هذه القصة : " لم ياكلنى الأسد اليوم لقد أكلت يوم أن أكل الثور الأبيض " .


وعلى مستوى الدول فإن الخطر الذى يتربص بدولة ما لابد وأن يلحق بدول أخرى إذا لم تحرص مجموعة الدول ذات المرجعية الواحدة على التوحد لدرء ذلك الخطر وعليه نجد أن الأمراء المسلمين فى ذلك الوقت لم يفقدوا دولهم تباعا وإنما خسروها عند أول لحظة سلموا فيها أبناء ملتهم لعدوهم فإذا احتاج المسلم لمساعدة أخيه فى الإسلام فلا بد أن تتم الإستجابة فى الحال وإذا لم يقم المسلم بمد يد العون لأخيه فإنه يحق عليه قول الرسول صلى الله عليه و سلم ( .... ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني .


فإن اعتذرالقطر الإسلامى عن تقديم العون خوفا من التعرض لأزمة إقتصادية فلسوف يأتى من يستولى على الإقتصاد بأكمله .


الحروب الصليبية أمس واليوم أيضا .


وسقطت أنطاكيا بعد تسعة أشهر من استغاثتها ببغداد وكان من المفروض أن يستعد أمراء دمشق وبغداد والقاهرة لصد الهجمة على الدول الإسلامية طالما أن المسئولية تحتم عليهم القيام بذلك ورغم أن الألقاب التى اخذوها مثل مجير الدين ومعين الدين والمسترشد بالله والمستظهر بالله كانت توحى بحميتهم للدفاع عن المحارم الإسلامية إلا أن الواقع كان مخالفا لتلك الألقاب وعلى عكس المفترض حدوثه .


بدأ هؤلاء الأمراء فى إبرام اتفاقيات و معاهدات بعدم الإعتداء مع الأمراء الصليبيين القادمين لإنتزاع أراضى الإسلام ونتيجة لذلك الواقع المرير ظلت طرابلس محاصرة 11 سنة دون أن يغيثها أحد فوقعت فى أيدى الصليبيين وكانت الخطة الصليبية قد بدأت بالإستيلاء على أنطاكيا ثم طرابلس و بعدها بداوا يتحركون فى اتجاه بيت المقدس وما كان من الأمراء المزيفون إلا أن هربوا عندما علموا بقرب وصول الصليبيين تاركين خلفهم سبعين ألفا من الأطفال والنساء والشيوخ وفى تلك اللحظة تنكشف كل أكاذيب وادعاءات الصليبيين من سماحة ورحمة عندما يأمر ريمون جيشه بذبح أولئك السبعون ألفا من الأبرياء وإن لم تكن حرب الصليبيين دينية على حد زعمهم فماذا كان عساهم أن يفعلوا أكثر من ذلك ؟ وما أشبه اليوم بالبارحة ؟ أليس ذلك ما يحدث فى فلسطين وأفغانستان والعراق وبقاع عديدة غيرها ؟ .


قصة ميسون الدمشقية .


فى وسط كل تلك التفاصيل المحبطة تطل علينا قصة الفتاة الدمشقية ميسون والتى تترك أكبر الأثر فى نفس كل من تعرف على ملاباسات موقفها الإيمانى تجاه ما كانت الأمة تواجهه من مأساة وإمتثالها لأوامر الله عز وجل وإنتماءها للإسلام على النقيض من الذين يتقاعسون عن ذلك وفقا لما ورد عنهم فى القرآن الكريم إذ يقول الله تعالى :


" يا أيها الذين امنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض " ]التوبة 9: 38 [


من خلال الآية الكريمة يوجه الله سبحانه وتعالى اللوم الشديد للمؤمنين لعدم امتثالهم للأمر الإلهى بالخروج لنصرة الدين والجهاد فى سبيله وإنما التصقوا بالأرض ورضوا بعيشتهم على ما كانت عليه من ذل وظلم وضياع .


وتعد ميسون إحدى المؤمنات اللاتى لم تلتصقن بالأرض ولقد كان لتلك الفتاة الدمشقية أربعة أشقاء كانوا من ضمن مجموعة المجاهدين الذين خرجوا من دمشق ضمن الجيش المكلف بحماية أنطاكيا واستشهدوا كلهم عن بكرة أبيهم وذهب الناس لتعزية ميسون فى أشقائها الأربعة وكان أبوها وأمها قد توفيا و بالتالى أصبحت بلا عائل وعندما اجهشت النساء فى البكاء كان لدى ميسون رسالة أبى ضميرها إلا وأن تبلغها لذوات جنسها فوقفت لتقول لهن : " إن كنتم قد جئتم لتعزيتى فى أشقائى فارحلوا وإن كان بكاؤكم وعزاؤكم على ضياع الأمة والأرض ففكروا معى فيما يمكننا أن نقدمه لأمتنا " ولم يكن لدى ميسون المال الذى تستطيع أن تتبرع به ومع ذلك فلم تتردد فى تقديم أغلى ما عند المراة من زينة فقامت ميسون بقص شعرها وقالت للنساء: " نحن معشر النساء لا قبل لنا على الحرب ولا الخروج للجهاد ولكن مازال بوسعنا توفير الحبال التى يستخدمها المجاهدون لربط الخيول " و طلبت ميسون من الحاضرات أن يقدمن ما هو فى استطاعتهن فأقدم الكثير من النساء على قص شعرهن وهكذا تكون المرأة المسلمة قد قصت شعرها على سبيل اتيان ما هو بوسعها لرفعة شأن دينها و تكون بذلك مثالا لكل منا لتقديم ما لديه لنصرة دينه .


ثم ذهبت ميسون لابن الجوزى فى جامع دمشق وقالت له : " ليس باستطاعتنا نحن نساء الإسلام أن نقدم أكثر من ذلك فانظر ما بوسع الرجال أن يقدموا " وما كان من ابن الجوزى إلا أن خطب خطبة و قال ابن الجوزي على منبر المسجد الأموي ( أيها الناس ما لكم نسيتم دينكم وتركتم عزتكم وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم ؟ أحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، يا ويحكم أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم مرأى عدو الله وعدوكم يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم ، يذلكم ويستعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا ، أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم مرأى إخوان لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف فتأكلون وتشربون وتتمتعون بلذائذ الحياة وإخوانكم هناك يتسربلون اللهب ويخوضون النار وينامون على الجمر ؟ يا أيها الناس : إنها قد دارت رحى الحرب ونادى منادي الجهاد وتفتحت أبواب السماء فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فافسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل فإلى الخيول وهاكم لجمها وقيودها، يا ناس أتدرون مم صنعت هذه اللجم والقيود ؟ لقد صنعتها النساء من شعورهن لأنهن لا يملكن شيئا غيرها ، هذه والله ضفائر المخدّرات ( النساء المستترات في خدورهن) لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظا قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة ، الحرب في سبيل الله ثم في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض ، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها فخذوها فأجعلوها ذوائب لكم وضفائر، لإنها من شعور النساء ، ألم يبق في نفوسكم شعور ؟ ) وألقى ابن الجوزي اللجم من فوق المنبر على رؤوس الناس وصرخ : ميدي يا عمد المسجد وانقضي يا رجوم وتحرقي يا قلوب ألما وكمدا، لقد أضاع الرجال رجولتهم.


" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " [ سورة الأحزاب : 23 ] .


لقد كان سقوط بيت المقدس إيذانا بتحويلها إلى إمارة صليبية رابعة بعد إمارات الرها و أنطاكيا وطرابلس ولكن الله سبحانه وتعالى قدر أن يلوح فى الأفق أمل لإنقاذ الأمة مما كانت عليه من ضياع فلقد شهد عام 522 هجرية مولد عماد الدين زنكى تلك الشخصية المؤثرة فى إعادة رفع راية الإسلام من خلال الكفاح لتحرير الأراضي الإسلامية وبيت المقدس و نظرا لأن عماد الدين قد استمد أصوله من رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه الكرام رضوان الله عليهم فقد أخذ بأسباب الإنتصار التى عرضنا لها فى الجزء السابق وأثناء قيامه بالتعرض للصليبيين ومناوشتهم عسكريا طلب العون من الأمراء المسلمين فى دمشق وبغداد والقاهرة وكسابق العهد إذا بهم رفضوا تلبية طلبه متعللين بأعذار واهية واستعان عماد الدين بالله العلى القدير وبدأ فى مهاجمة الإمارات الصليبية القائمة فى ذلك الوقت ومن هول المفاجأة أنه كلما خرج عماد الدين لمقاتلة الصليبيين خرج جيش مسلم من بغداد أو دمشق أو حلب أو حمص لمنعه من قتال الصليبيين وكان الأمراء المسلمون يخشون أن يغضب الصليبيون عليهم فيستولوا على أراضيهم ولذا كان لكل أمير مسلم تفكيره المنفصل عن الجماعة وللأسف فلا ينطبق على موقفهم هذا سوى ما نجد من وصف الله تعالى لليهود إذ يقول فى كتابه الكريم :


" بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " ]الحشر 59: 14[


وما أغرب أن يتكرر هذا الموقف فى وقتنا الحالى وتنطبق عليه أيضا الآية الكريمة بالنظر إلى ما هو جار الآن من خلافات بين المسلمين بعضهم و البعض الآخر والغريب أن نفس الخشية من الغرب والتودد إليهم فى ذلك الوقت هو بعينه ما يحدث فى أيامنا هذه .


إذن كان لابد لعماد الدين زنكى أن يعتمد على الله ثم على نفسه وينطلق بثمانمائة من الجنود ليفتح بهم حلب وحمص مما شجعه على إحداث زلزال كبير بالصليبيين بفتحه لإمارة الرها وانتصاره على جوسلان ووبالتالى تحمس عماد الدين زنكى لمواصلة تحقيق طموحاته وآماله بفتح إمارة أنطاكيا فأرسل مبعوثيه مرة أخرى إلى أمراء المسلمين بعد أن أصبح واضحا لهم أن النصر حليفه وكما أشرنا من قبل كانت أسماء هؤلاء الأمراء فارغة من المضمون ومع ذلك بعث عماد الدين برسائله إلى مجير الدين ومعين الدين والمسترشد بالله والمستظهر بالله وكانت فيما يلى رسالته إلى مجير الدين :


من عماد الدين زنكى إلى الأمير مجير الدين


أما بعد

قد وصلتكم أنباء انتصاراتنا على الفرنج بعون الله وتوفيقه وقد عقدت العزم على المضى قدما فى سبيل تحرير كل حبة رمل من أرض الإسلام ولكن ينقصنا العتاد والمال هلموا إلى تجارة رابحة تنجيكم من عذاب أليم لقد انقطعت السبل فهلموا وقدموا يد العون لإخوانكم المرابطين فى سبيل الله .


ومن المفترض أن يكون لمثل تلك الرسالة أثر يحرك فى نفوس المسلمين نخوة الإسلام ولكن للأسف كان رد مجير الدين عبارة عن ورقة بيضاء ولم يصل كذلك أى رد لعماد الدين زنكى من الأمراء الآخرين بل على العكس من ذلك وصلته الأنباء أن مجير الدين ومعين الدين قد تضامنا مع ملك بيت المقدس .... فهل هذا معقول ؟ و فى تلك الأثناء وبعد سقوط الرها أخذت أوروبا فى الإعداد لحملة صليبية أخرى بغرض القضاء على عماد الدين زنكى وبدلا من أن يتجه الأمراء المسلمون إلى مساندة أخيهم فى الإسلام تعاهدوا مع عدوه ولذا فلا تتعحب أيها القارىء أن يحمل التاريخ ذكرى عطرة لأناس موضعهم فى أعماق القلوب و أن يحمل كذلك البغض لمن لا يستحقون الذكر .


وفى ذلك الوقت كان عماد الدين على مشارف قلعة اسمها جعبر التى كانت بمثابة الخطوة الباقية لفتح أنطاكيا الإمارة الثانية من الإمارات الصليبية وفجأة تصاب الأمة بفجيعة اغتيال عماد الدين زنكى ليلا وسط جيشه وعتاده وقيل أن خادمه قد سمه ولكن من كان صاحب المصلحة فى موت عماد الدين زنكى ؟ ومن الذى أصابه فى ظهره بسهم مسموم ؟ ويجيب على هذه التساؤلات أصحاب العقول التى تعى أن النفوس المريضة هى التى أحدثت تلك الخيانة المتمثلة فى اغتيال عماد الدين زنكى ولكن شاء الله تعالى برحمته أن يكون لعماد الدين ولدين هما سيف الدين ونور الدين .


واقتفاءا للموقف الإيمانى للفتاة الدمشقية ميسون تلح علينا الحاجة لمراجعة أنفسنا بغرض الإقبال على عمل صغيرا كان أو كبيرا يكون من شأنه المساعدة فى نهوض الأمة وليكن ذلك العمل فى محيط الأسرة أو المجتمع والمهم أن يصب فى صالح المسلمين ورغم صعوبة المهمة إلا أن الأمل معقود على أن ينجح الكثير منا كما نجحت ميسون فى مساعدة الأمة ولو بشىء بسيط .


هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر


أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف

  2. الي ( الفارس !. الذي لم يولد بعد !! )) والى : نجم الدين أيوب ..
    ................ ..........
    يـا الصنديد !. يـا التريس !. يـا الفارس !.
    يا صحرة العرب والمسلمين والآســــــــلام غارس !.
    يا شــــــوق !. يا وحم !. يا مكتوب علي بياض العظم !.
    يا نطفة في علم غيب العارف !.
    يا ســـــــعد ي : هـيــــــه !. قـوم !. بلكي أتجيبا !. غير يا شـــــمعة وين ؟ وطاة نارك !. بعيــــــــد ا ..
    طريقك مســارب .. وبلادك والعه .. و غريقا !.
    والبـعل ألي نيـــرانه هذيبا .. و أوطانه ركيزا !.
    مو داريبا !.
    بالله عليكم .. دزوله رديــــدا !.
    قولولا : (( أيحوم عليها !. أيحارس !. ))
    all_thebest37@yahoo.com
    ليبيا ..
    ....................................

    ردحذف

إتحفني برأيك