الخميس، 30 أكتوبر 2008

بأيدينا دماء أطفالنا رخيصة

تُعتَبَر قصة أطفال ليبيا الأربعمائة المصابين بالإيدز، ومااستتبعها من الحكم بالإعدام ثم تخفيفه إلى المؤبَّد الذي صدر على الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذي مُنِحَ الجنسية البلغارية، ثم الجهود الحثيثة للإفراج عن هذا الفريق الطبي المتهم بنقل الإيدز لهؤلاء الأطفال، ثم التوصل لاتفاق تم بموجبه الإفراج عنهم مع وعدٍ بسجنهم في بلغاريا ، تعتبر هذه القصة فصلاً جديدًا من فصول الاستهزاء بدماء المسلمين مارسته بلغاريا وعديد من الدول الأوروبية، بل والعربية، ومنها ليبيا التي حدثت فيها المشكلة بكل تفاصيلها .

أمّا موقف بلغاريا فهو موقف الغرب الصليبي المستهزئ بدماء المسلمين المستبيح لها منذ ظهور الإسلام، وبدء الصراع بينه وبين الصليبية، فما حدث من تراجعٍ بلغاريٍ عن أحد بنود الاتفاق مع ليبيا بأن يُسجَن الممرضات والطبيب في بلغاريا بعد إخراجهم من ليبيا، وإصدار السلطات هناك عفوٍ عامٍّ عنهم، ومنح الطبيب الفلسطيني الجنسية البلغارية ، كل ذلك يمثل استهانة كبيرة بالمسلمين، واطمئنان شديد لرد فعلهم - وخاصة ليبيا - والغريب في القضية أن يصدر هذا من دولة كبلغاريا ضعيفة في كل الجوانب الاقتصادية والسياسية، والعسكرية، والثقافية، وهذا يدل على أن المسلمين قد بلغوا حالة من الضعف والهوان جرَّأت عليهم كل الناس القوى منهم والضعيف.

ويتسق موقف أوروبا عامةً، وفرنسا خاصةً مع هذا الموقف الصليبي ، فهذه الدول التي ما فتئت تتحدث عن حقوق الإنسان، وانتهاكات الطفولة، وكثير من المبادئ التي صدعوا بها رءوس العالم كانوا أول من انتهك كل هذه الحقوق حينما لم يهتموا ببحث القضية بمنظور صحيح، فالثابت لدينا أن هناك حكمًا قضائيًا من الواجب على حُماة حقوق الأطفال أن يحترموا هذا الحكم، وإن كانوا يرون المحاكمة غير عادلة لانتفاء ضمانات العدالة، أو أن النظام في ليبيا لا يعطي القضاء استقلالاً حقيقيًا ؛ فكان من الواجب عليهم أن يحاكموا هذا الفريق الطبي بمجرد وصوله محاكمة حرَّة عادلة علنية ؛ لتظهر الحقيقة ، أمّا أن يعفوا عنهم دون محاكمة فهي رسالة واضحة بأن الدم المسلم لا يساوي عندهم شيئًا، مهما أظهر الرئيس الفرنسي - المتعصب ضد المسلميناستنكاره الزائف للتصرف البلغاري .

إنَّ السلوك الغربي الصليبي في هذه القضية يقودنا تلقائيًّا إلى مقارنة موقفهم هذا بموقفهم من قضية ( لوكيربي )؛ حيث فُرِضَت العقوبات ضد ليبيا سنين طوالاً ذاق فيها الشعب الليبي الأَمَرَّيْن، حتى قبلت السلطة الليبية بتسليم بعض مواطنيها المتهمين من قِبل الغرب بتفجير الطائرة، وتمت محاكمتهم محاكمة غير عادلة على مرأى ومسمع من العالم كله ، ورغم أنه لم يثبت ضدهم شيء إلا أن المحكمة الغربية أدانتهم، وهم يقضون حكمًا بالسجن مدى الحياة، كما أرغمت أوربا النظام الليبي على دفع تعويضاتٍ بعشرات الملايين لضحايا التفجير، فأوربا الصليبية لم تترك ما تراه حقوقًا لرعاياها، بل أعلنت الحرب الاقتصادية، وجوَّعت الملايين من أبناء الشعب الليبي المسلم من أجل عدد من رعاياها، ولكنها تتسابق في إهدار حقوق مئات الأطفال الليبيين الذين كُتِب عليهم الموت بعد حياة مريرة سيقضونها هم وذووهم يعانون مرض الإيدز القاتل .

وأمّا الموقف الليبي فهو رغم غرابته واستنكارنا له يتفق مع سوابق له متعددة لا مجال لذكرها الآن، فبعد أن أدانت المحاكم الليبية ذلك الفريق الطبي إذا بالنظام يتراجع فجأة عن تنفيذ الحكم بهم، وفجأة يتم اتفاق مع بلغاريا وغيرها من الدول الأوروبية، وفجأة يتغير رأي أسر الأطفال ضحايا الإيدز، فيقبلون التعويض بعد رفضٍ حاسمٍ سابقٍ - ونحن نعرف كيف يتم تغيير رأي الضحايا في العالم العربي- ويتنازلون عن حقوقهم وحقوق أبنائهم مقابل مبالغ مالية.

كماخرج الإعلام الليبي يبشرنا ببنود الاتفاق مع أوروبا من حيث تحديث المستشفيات والنظم الطبية على نفقة فرنسا ، وغيرها .

ولكن ما يثير السخرية هو أن يستنكر النظام الليبي العفو البلغاري الصادر عن الفريق الطبي، وكأنه كان ينتظر منهم أن يعاقبوهم أو حتى يحاكموهم .

أمّا ما يثير الاشمئزاز حقًا، فهو تصريح مسئول ليبي رفيع مؤخرًا أن ليبيا هي التي اختلقت قضية الممرضات، وهذا التصريح جريمة في حدِّ ذاته، فهو إمّا أن يكون كاذبًا وفي هذه الحالة يصير التصريح إهدارًا لحقوق هؤلاء الأطفال البائسين وأسرهم، وإما أن يكون صادقًا، فيكون إدانة بالكذب والتلفيق للنظام بأكمله، وإدانة بالسكوت على الظلم لذلك المسئول الذي كتم الشهادة طوال هذه السنوات .

والموقف العربي لا يقلُّ سوءًا عن الموقف الأوروبي والليبي ، فبينما لم نجد تعليقًا لأية دولة عربية على القضية طوال السنوات الماضية، وجدنا بعض الدول تكثف جهودها لإقناع النظام الليبي بإتمام الاتفاق، حتى وجدنا دولة عربية تشارك في دفع مبلغ التعويض الذي من المفترض أن تدفعه بلغاريا .

إن هذه القصة لابد أن تثير فينا غضبةً قويةً لدماء المسلمين كافَّة التي انتهكها الغرب، ولابد أن تصل للغرب رسالة مفادها : إنكم بذلك تزرعون عداوتكم في قلوب المسلمين الذين سيرون دماءكم رخيصة كما ترون دماءهم ، وهذا ما قد يفتح بابًا لن يستطيع أحدًا إغلاقه، كما يجب على النظم العربية أن تدرك واجبها نحو حماية دماء رعيتها وكرامتها، وأنها عندما تفرِّط في ذلك فإنها تهدر شرعيتها – إنكان ثمة شرعية لها - ، أما النظام الليبي فلابد أن يدرك أن ما يكثر تقديمه منتنازلاتٍ مجانية ( كالإعلان عن إيقاف البرنامج النووي الليبي، أو تسليم المتهمين في قضية لوكيربي، ودفع التعويضات لأهالي الضحايا، مع إنكار ارتكاب الجريمة ) ، كل ذلك لن يجعل النظام صديقًا للغرب، فالغرب الصليبي عدو دائم للمسلمين، ولكن على النظام تعزيز علاقته بشعبه بنشر الحرية الغائبة، وإرساء الشورى، والحفاظ على كرامة ودماء أبناء الوطن، ذلك فقط ما يجعل للنظام قيمة كبيرة في أعين العالم كافَّة .

هذه مقالة للدكتور راغب السرجاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتحفني برأيك