يشترك الأفراد والجماعات والدول أيضا فى ضرورة أخذهم بالأسباب حيث قال الله تعالى فى كتابه الكريم :
" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ]الرعد 13 :11 [ .
وبالتالى فعندما تكون هناك رغبة فى إنجاز أمر معين فهذا الأمر يستطلب بالقطع جهدا مبذولا لتحقيقه ولا يجوز السكون إعتمادأ على التوفيق الإلهى فى تدبير الأمور فإن الله يحب العبد المجتهد الذى ما أن بذل ما فى وسعه حتى أدركته رحمة الله وبركاته فى حسن إتيان ما أقبل عليه وبذل له الجهد المستطاع .
فى صباح معركة " حطين " وبعد صلاة الفجر تحديدا إستعرض صلاح الدين الأيوبى قواته وأخذ يتأكد من ترتيبات الخطة التى كان هدفها إنهاك العدو بإجباره إلى هبوط منحدر " حطين " بما فى ذلك من مشقة وإرتباك .
ولكن صلاح الدين كان قد إهتم منذ سنوات طويلة بأمر أهم وأدق وهو الإعداد النفسى للجند المسلمين لأنه كان يعلم أنه بقدر الإهتمام بالجانب المعنوى و النفسى للفرد بصفة عامة وللجندى بصفة خاصة بقدر ما تزيد قدرة تحمله للمواقف الصعبة وعلى سبيل المثال هل يمكن لرجل لا يغض بصره عن محارم الله أن يشترك فى موقعة الغرض منها إبتغاء مرضاة الله ؟ أو أن يسهم فى إستعادة بيت المقدس ؟ أو أن يكون ممن يطهرون المسجد الأقصى من أيدى أعداء الدين وأن يصلى فيه ركعتين ؟ وهل يجوز لشاب لا يصلى الفجر أن ينال شرف الجندية فى معركة عزة للإسلام مثل معركة " حطين " ؟ الإجابة واحدة فمن لا يغض بصره ومن لا يصلى الفجر لن يجوز ضمه لصفوف الجند وهذا يعنى أنه إذا أراد شابا أن يحظى بإختيار الله عز وجل له ليكون ضمن المقاتلين فى المعركة الفاصلة فعليه أن يلتزم بتحرى تقوى المولى تبارك وتعالى من خلال البعد عن المعاصى والإكثار من الطاعات و كذلك الأمر بالنسبة للفتاة التى لا ترتدى الزى الإسلامى للمرأة فكيف لها أن تقوم بتربية إبنها تربية ربانية مثل تلك التى تلقاها صلاح الدين الأيوبى ؟ و أيضا كيف يمكن للشاب الذى لا يبر والديه أن يتحكم فى مقدراته وأن يوجه نفسه التوجيه السليم ؟ ألم يقرأ الآية الكريمة : " فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما " ]الاسراء 17 :23 [.
والأسئلة التى تطرح فى هذا الخصوص ليس المقصود منها التعجيز وإنما المرجو هو مواجهة الواقع بكل تفاصيله حتى تتم المعالجة الصحيحة للسلبيات القائمة ودائما ما يلقى اللوم على الحكومات أنها لا تعمل على تحرير فلسطين والمسجد الأقصى ولكن القضية لا تخص السياسات العامة ولا مقدرات ملوك ورؤساء وإنما الأمر يتعلق بإرتباط الشخص بربه حتى يختاره الله سبحانه وتعالى لمعركة مثل التى دارت بسهل حطين وهذا هو بالضبط ما فعله صلاح الدين والمجموعة المعاونة له وفى الحقيقة القضية هى كيفية إعداد أمة تنصر الله فينصرها الله ويعزها ويكون ذلك من خلال التربية على الأسس الإسلامية وغرس المعانى الإيمانية فى الصغار حتى تكون لهم زادا يسلكون من خلاله الطريق القويم .
ومع بزوغ فجر يوم 24 من ربيع الآخر لعام 583 هجرية كانت أول هجمة صليبية على جيش صلاح الدين فى سهل حطين ونزل من الهضبة ستون ألفا من الجند الغربيين لم يعد منهم سوى ثلاثون ألفا فقط أى أنه خلال ست ساعات أبيد ثلاثون ألف جنديا صليبيا بينما عاد الآخرون يخبرون عن الأهوال التى شاهدوها فى سهل حطين وعندما رأى ابن صلاح الدين ما حدث قال " إننا إنتصرنا " ولكن صلاح الدين قاطعه بقوله " اصمت فوالله لا ننتصر حتى تسقط خيمة جايل أمير بيت المقدس " ثم بدأت الهجمة الصليبية الثانية والذى كان هجوم شبه انتحارى لأنهم كانوا قد إستنفذوا أجسامهم وأعصابهم طوال اليوم والهجمة الثانية كانت أيضا بستون ألف مقاتل لم يرجع منهم سوى ثلاثون ألفا فقط وهذا يدل على أن نصف الجيش قد أبيد فى خلال إثنتى عشرة ساعة فحسب ويتضح بذلك أن الخمسون ألف جندى المؤلف منهم جيش صلاح الدين كان يقاتلون بمعونة من قبل رب العالمين سبحانه وتعالى ولكن تلك الحقيقة الواضحة لم تدر ببال الأمراء الصليبيين فارتكبوا الخطأ الفادح بالإقدام على شن هجمة ثالثة ولما أراد هؤلاء القادة أن يشعلوا حماس جنودهم أمروا بعضهم برفع صليب ضخم اسمه " صليب الصلبوت " ومشوا فى مقدمة الهجمة الثالثة وبدأوا الإنحدار الشديد ليواجهوا المسلمين مواجهة شرسة حيث كانت فرصتهم الأخيرة وفى المقابل أدرك قادة أفرع الجيش المسلم حماس الصلبيين فأخذوا يحفزون جندهم ويذكرونهم برضا الله و الجنة وبناءا عليه إحتدم الوطيس وتفوق المسلمون حتى أتوا خيمة الصليبيين ومزقوها إربا وسقط " صليب الصلبوت " فى أيدى الجند المسلمون ولم يبق من الجيش الصليبى بأكمله إلا الأسرى أما أرناط وجايل فقد حاصرهم مائة وخمسون فارسا مسلما .
وانتهت المعركة بانتهاء اليوم فكانت معركة اليوم الواحد ولكنها في الواقع احتاجت إلى إعداد الأمة على مدى واحد وتسعين عاما على يد أمراء بنى أرطق ثم عماد الدين زنكى ومرورا بنور الدين محمود وإنتهاءا بصلاح الدين الأيوبى وهذا يدل على ضرورة عدم اليأس من الأوضاع الحالية حيث أن المسجد ظل تحت سيطرة الصليبيين لمدة واحد وتسعون عاما اتخذه أثناءها الصليبيون حظيرة للخنازير فى حين أنه يخضع للإحتلال حاليا منذ 1948 أي تسعة وخمسون وتقام فيه الصلاة حتى الآن وبالتالى لازال الأمل معقودا على عودة المسجد الأقصى وتحرير كل ديار المسلمين بشرط خروج قائد جديد من بين صفوف شباب المسلمين مثل صلاح الدين الأيوبى .
وفي الحقيقة تتضاءل مشاعر الإنتصار أمام الموقف الذى إتخذه صلاح الدين عندما تحقق من الإنتصار إذ أنه نزل من على فرسه وسجد سجدة شكر وظن من حوله أن روحه قد قبضت فيها من طول السجدة ولذا فإن دعاء صلاح الدين قبل المعركة وسجدة الشكر بعدها يدلان على نوعية القائد الذى نحتاج إليه ليقودنا إلى العزة .
إنتهت المعركة ولكن تبقى الدروس المستفادة منها وعلى سبيل المثال أخذ صلاح الدين يبحث عن أرناط وسط الأسرى حتى وجده وكان قد أقسم على قتله وقد فعل وذلك لأن أرناط كان من الأشخاص الذين يقتلون الأطفال لمجرد حملهم الحجر فأنى لنا برجل يقسم على الله فيبره مثلما حدث مع البراء بن مالك وصلاح الدين الأيوبى ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك " رواه الترمذي وقال حديث حسن ، وقتل أرناط وانتهى عهده وظهر عهد جديد هو عهد القوة والعزة للإسلام .
أخذ صلاح الدين الأيوبى يتفقد الأعداد الغفيرة من الأسرى سواء الأمراء أو الجند الصليبيين الذين أتوا إلى الشرق بأطماع الثراء ودون أن يفكروا فى اليوم الذى سيذوقون فيه مرارة الذل كيوم حطين واسترجع صلاح الدين الأيوبى ذاكرة بعض أبيات الشعر التى كان نور الدين محمود يحتفظ بها ثم وصلت إليه وتقول هذه الأبيات :
يا أيها الملك الذى لمعالم الصلبان منكس
جاءت ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفى منجس
وإذا كانت الأبيات جاءت على لسان المسجد الأقصى فذلك لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وأحد ثلاثة مساجد فقط يشد إليها الرحال والصلاة فيه بخمسمائة صلاة فى غيره من المساجد وهو المسجد الذى بناه آدم عليه السلام وقد أثبت الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم أن البقعة التى بنى عليها المسجد الأقصى هى حكر لهذا المسجد ولا يجوز لأى شخص أن يبدل أو يشوه شكل هذا المكان فيقول الله تعالى : " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " ]الإسراء 17 :1 [ .
ولذلك ينبغى أن يتأصل فى عقيدة كل مسلم فى كل زمان ومكان أنه ليس لأحد حق فى أرض فلسطين إلا المسلمين وأن هذه الأرض ملك لله تبارك و تعالى يورثها لمن يشاء ولقد أطلق الصهاينة اسم إسرائيل على تلك القاعدة الصهيونية الموجودة على أرض فلسطين رغبة منهم فى إخفاء معالم التاريخ غير أن رب العالمين لم يترك موضعا يحاولون به تزييف الوقائع إلا أظهر حقيقته بآية من القرآن الكريم وأكد على أنه ليس لليهود حق فى أرض فلسطين وليس من دليل أقوى على ذلك إلا الآية القرآنية التى تذكر لحظة إحتضار يعقوب عليه السلام والمسمى ب " إسرائيل " وتوضح أن ملته هى الإسلام : " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبآئك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون " ]البقرة 2 :133 [ .
ولنتأمل كذلك الآية القرآنية التى تورد مناجاة يوسف عليه السلام لرب العزّة تبارك وتعالى : " رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي فى الدنيا والآخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين " ]يوسف 12 :101 [ .
ولننظركيف يأصل موسى عليه السلام لدى قومه الإسلام كعقيدة ومنهج :
" وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " ]يونس 10 :84 [ .
وقد إعترض اليهود زاعمين أنهم بنوا الهيكل فى عهد داود وسليمان فيفضح القرآن الكريم أكاذيب هؤلاء الصهاينة بتبيان الحقبة وطبيعة الملة والدين التى كان يدعو إليها داود وسليمان عليهما السلام وذلك من خلال ما ورد برسالة سليمان إلى الملكة بلقيس : " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين " ] النمل 27 : 30 – 31 [ .
ويجادل اليهود إذ يفسرون لفظ " مسلمين " على أنه إستسلام وليس إعتناقا لدين الإسلام فترد عليهم بلقيس بقولها لربها : " قالت رب إنى ظلمت نفسى و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين " ]النمل 27 :44 [ .
ويلاحظ بكل وضوح فى الآيات السابقة تأصيل عقيدة الإسلام لكل نبى ورسول من لدن آدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن فالعقيدة التى إعتنقها كل الأنبياء والرسل واحدة أما التحريف الذى أجراه الصهاينة فلا قيمة له عندنا نحن المسلمين لأننا نعتقد ما يعتقده الأنبياء والرسل ولم يترك القرآن ولا الأحاديث الشريفة فرصة لتزييف الحقائق حتى ولو ذكرت الموسوعة الأمريكية المطبوعة سنة 1980 أنه كان هناك هيكلا يهوديا قائما فى بيت المقدس وقت من الأوقات وحتى لو ذكر ديورانت صاحب موسوعة الحضارة أن سليمان وداود كانا نبيان يهوديان فلا نصدقه لأن القرآن ينفى ذلك و لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء والرسل جميعا فى المسجد الأقصى من ضمن ما حدث خلال رحلة الإسراء والمعراج وبالتالى ليس لليهود حق فى أرض فلسطين حتى أن التاريخ يثبت أنهم لم يقيموا بفلسطين أكثر من مائتى عام وقد ظل اليهود بمصر ثلثمائة عام فلم لا يطالبون بحكم مصر .
إن أسباب الإنتصار فى حطين لا تتغير بتغير الزمان والمكان وإذا كان الهدف هو إعادة أمجاد الأمة فينبغى البحث عن القيادة السليمة التى تؤدى إلى بيت المقدس والإلتزام بأصول التربية وأصول إختيار القيادات .
وبعد الإنتصار الذى حققه فى حطين شرع صلاح الدين فى فتح الحصون المختلفة مثل الناصرة وقيصرية وحيفا وعكا وصافورية وعسقلان والطور ويافا ونابلس وغيرها من المدن وإقترب صلاح الدين من بيت المقدس فى 20 رجب عام 583 هجرية وظل صلاح الدين محاصرا لهذه المدينة أسبوعا بأكمله حتى جرت مفاوضات فى خيمته بينه وبين القائد الصليبى ليليان لبحث ظروف تسليم الصليبيين لبيت المقدس إلى المسلمين ولأننا أبناء عقيدة الإسلام ونستمد أصول معارفنا من القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمفهوم هذه العقيدة وقف صلاح الدين الأيوبى أمام ليليان ودار بينهما الحوار التالى :
(ليليان) : إن الموت أيسر علينا من أن يملك المسلمون بيت المقدس ودون ذلك بذل النفس والمال والولدن حتى نحفظه منهم .
(صلاح الدين) : إن هذه البلاد التى تسكوننها هى بلاد الإسلام وأنتم الذين أتيتم من وراء البحر وأطلقتم على أنفسكم إسم " الصليبيين " وأصبح وجودكم عار على شرفنا ولن يخمد لنا جفن أو يرتاح لنا قلب حتى تجلوا عن هذه الأرض .
وكم كان رد صلاح الدين الأيوبى مليئ بالحماس والثقة بالله ثم بالنفس ونظرا لغطرسة ليليان وعناده لم يجد صلاح الدين بدا من قذف أسوار المدينة بالمنجنيق حيث كان التركيز على باب عمر وتم فتحه .
سماحة الاسلام .
وعند هذه اللحظة تفاوض ليليان مرة أخرى مع صلاح الدين طالبا منه أن يسمح للصليبيين بالرحيل بسلام ولكن صلاح الدين كان له رأيا آخرا حيث أنه كان ما زال يدور بخلده المذبحة التى راح ضحيتها سبعون ألفا من النساء والأطفال والشيوخ عند إستيلاء الصليبيين على بيت المقدس ولذلك أصبح من الطبيعى إعتبار الصليبيين أسرى حرب لأن ليليان كان قد رفض الرحيل فى المفاوضات الأولى .
وكانت الفدية للرجل الصليبى قدرها عشرة دنانير وخمسة للمرأة وثلاثة للطفل بل إن صلاح الدين ظل فاتحا لأبواب المدينة يوما كاملا لخروج من لم يستطع من الشيوخ أن يدفع الفدية ثم جاءته النساء تتشفعن لأزواجهن فانطلاقا من تعاليم الإسلام الكريمة فك صلاح الدين أسر رجال الصليبيين .
وإذا كان صلاح الدين قد تعامل مع الصليبيين بهذا القدر الهائل من السماحة فلم لا يتعامل كل منا تجاه الآخر بمبدأ العفو عند المقدرة ؟ ولذلك فالمطلوب منا إستنفار مشاعر التسامح الموجودة بداخلنا حتى يسود الوئام بين كافة أفراد الأمة.
هذا تلخيص لأحد دروس الدكتور ياسر نصر
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
إتحفني برأيك