الأحد، 25 يناير 2009

المقدمة

إنه في يوم 2 ربيع الأول سنة 897 هجرية الموافق 2 يناير سنة 1492 ميلادية ، وقَّع أبو عبد الله محمد الصغير - آخر ملوك الأندلس من المسلمين - معاهدة الاستسلام ، وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت بين ربوع غرناطة - آخر معاقل المسلمين في الأندلس - وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة ووقف على تل من التلال القريبة من قصر الحمراء قصر الحكم في غرناطة وهو يبكي وينتحب ، فقالت له أمه عائشة الحرة ( أجل فالتبكي كالنساء ملكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال ) ، وخرج المسلمون بذلك خروجا نهائيا من الأندلس بعد أن حُكمت بالإسلام ثمانية قرون غير أن الأيام تحمل معها مفاجئات كثيرة ، فتلك البلاد التي حُكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا قليلا ، فقد كانت من أقل البلاد في تعداد المسلمين ، وهذا درس لابد أن يفقهه المسلمون ، وقد يتسائل البعض هل قد نسيت أن هذه المقالات خاصة بفلسطين ؟! .
لا لم ولن أنسى قضية فلسطين ، ولكن العلاقة وثيقة بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية , ومع تباعد الزمان وتباعد المكان ، فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين وسنعرف الرابط بينهما بعد قليل .
هناك ملحوظة في غاية الأهمية في تاريخ الأندلس , وهي لماذا لم يعد للإسلام ذكرٌ في هذه البلاد ؟ إلا آثارا قديمة وبعض المساجد التي حُولت إلى كنائس ، بينما احتلت بلاد إسلامية كثيرة غير بلاد الأندلس ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام , فلقد احتلت مصر وسوريا والجزائر والسودان وليبيا والعراق ومعظم بلاد العالم الإسلامي ، ولكن البلاد مازالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل أما إسبانيا فالوضع فيها مختلف , لماذا؟ .
ذلك لأن الاحتلال الإسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالا استيطانيا ، إحلاليا ، سرطانيا ، بمعنى أن الأسبان ما كانوا يدخلون مدينة إسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعا في مذابح جماعية في كل مكان أو يطردونهم خارج البلاد ، وهكذا مع الوقت يتحول سكان البلد المسلمين إلى شهداء أو لاجئين ، ثم يستجلبون الأسبان من كل مكان حتى يستوطنوا فيه هذه البلاد التي أخرجوا منها المسلمين ، وهكذا مع مرور الوقت أصبح سُكان الأندلس كلهم من الأسبان ، وليسوا من المسلمين ، واختفى المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس , فيا ترى كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس وقت سقوطها ؟ .
كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف ، ولا شك أنهم فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس ، ولكنهم لم يستطيعوا هذا لضعف قوتهم ومن المؤكد أن اللاجئين الذين خرجوا من بلاد الأندلس عند السقوط فكروا يوما ما في العودة ، ولكن لم يستطيعوا لضعف إمكانياتهم وقلة حيلتهم ، وهكذا مر شهر أو شهران وعام أو عامان وقرن أو قرنان بل خمسة قرون وضاعت الأندلس – أو إسبانيا والبرتغال - من ذاكرة المسلمين فمن من المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس ؟! .
الأندلس الآن عبارة عن دولتين تربطهما مع بلاد المسلمين علاقات حميمة ، وكان المؤرخون قديما عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون أعادها الله للمسلمين ، كما تحدث مؤرخ فيقول : ( فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس - أعادها الله للمسلمين - في سنة 92 من الهجرة ) ، ذلك لأنها كانت دائما في الذاكرة أما مع تقادم العهد فقد اختفت كلمة " أعادها الله للمسلمين " من أفواه المؤرخين .
وانظروا إلى زيارة قام بها سفير مغربي للأندلس بعد سقوطها بأكثر من مائة عام ، وكان السفير اسمه الغزاي الفاسي رحمه الله سفير سلطان المغرب إلى ملك إسبانيا كارلوس الثالث ، وزار في هذه السفارة مسجد قرطبة الجامع العظيم فقال عنه وهو من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو ( ومنذ عبرنا هذا المسجد لم تفتر لنا عبرة مما شاهدنا من عظمته ، وتذكرنا ما كان عليه في عهد الإسلام وما قرئ فيه من العلوم وتليت فيه من الآيات وأقيمت فيه من الصلوات ، وقد تخيل في فكري أن حيطان المسجد وسواريه تسلم علينا وتهش إلينا من شدة ما وجدنا من الأسف ، حتى سرنا نخاطب الجمادات ونعانق كل سارية في المسجد وجدار ) ، وسبحان الله ما أشبه اليوم بالبارحة فالأندلس تتكرر من جديد ولكن أين ؟ .
في فلسطين , نعم نفس طريقة الاحتلال الإسباني من قتل أو طرد للمسلمين وتحويل الشعب إلى لاجيء أوشهيد ، وهدم للمباني والديار وإقامة للمستوطنات اليهودية في كل مكان ، وهذه عملية إحلال مُنظمة للشعب الفلسطيني بالشعب اليهودي ، وإن تُرك الأمر على حاله في تراخ ودعة من المسلمين ، فإن المصير واحد وهو نفس مصير الأندلس ، فإذا تقادم العهد على عملية الاستيطان والاحلال سيصبح المكان مع مرور الزمان اسمه إسرائيل ، كما أصبحت الأندلس بعد مرور الزمان اسمها إسبانيا والبرتغال ، وإذا تقادم العهد على احتلال فلسطين فقد يأتي زمان يزور فيه المسلمون المسجد الاقصى كما كانوا يزورون مسجد قرطبة ويقبلون السواري والجدران ، ويسمعون بآذانهم شكوى المسجد وهو يقول لهم أين المسلمون ؟! .
يا إخوة ، قضية فلسطين من أخطر قضايا الإسلام بل لعلها الأخطر على الاطلاق , فقضية فلسطين أخطر من كل القضايا الداخلية والخارجية لكل أقطار الإسلام ، وهي بالتبعية أخطر من كل قضايا الأفراد الشخصية , فقضية فلسطين هي قضية أمة تُذبح ، وشعب يُباد ، وأرض تُغتصب ، وحرمات تنتهك ، وكرامة تهان ، ودين يضيع ، وقد يراها البعض قضية معقدة أشد التعقيد ، وهي بالنسبة لآخرين واضحة كالشمس في وسط النهار , والفارق بين الناس هو المنظور الذي ينظر به إلى القضية , وأضرب لكم مثالا مشهورا  عن ثلاثة مكفوفين أمسكوا بفيل كي يصفوه ، فأمسك الأول بذيل الفيل وقال إن الفيل طويل ورفيع ، وأمسك الثاني بخرطوم الفيل وقال بل طويل وثخين ، وأمسك الثالث بأُذن الفيل وقال بل عريض ومفلطح ، وصدقوا فيما يصفون على قدر علمهم لكن هل وصفوا الفيل حقا ؟ .
يختلف الأمر كثيرا حسب الزاوية التي تنظر منها إلى الموضوع , ويذكرني ذلك أيضا برجل يريد إصلاح جهاز التليفزيون مثلا وأتى بكتيب الإرشادات الخاصة بالدفاية وحاول الإصلاح وبالطبع فشل ، ثم جاء بكتيب المروحة وحاول إصلاح التليفزيون وبالطبع فشل وهكذا وهو يتعجب من صعوبة القضية ، وسبحان الله فلو أنه أمسك بكتيب خاص بالتليفزيون لهان الأمر كثيرا , وهكذا بدأ المسلمون بحل ألغاز قضية فلسطين فوجدوها في غاية الصعوبة ، فمرة تمسكوا بكتاب الاشتراكية والمعكسر الشرقي ، ومرة تمسكوا بكتاب الرأسمالية والمعسكر الغربي ، ومرة يبحثون عن كتاب المجتمع الدولي والأمم المتحدة ، ومرة يتمسكون بكتاب القومية العربية ، ومرة يتمسكون بكتاب مجلس الاتحاد الاوروبي ، وقلما تمسكوا بالكتاب الصحيح لقضية فلسطين وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه [ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ] رواه الترمذي وابن ماجه .
لذلك لما بعُد الناس عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، تخبطوا كثيرا وتاهوا وتشتتوا ، حتى من كان في قلبه حماسة للقضية ورغبة في الإصلاح وأمل في التغيير لا يدري ماذا يفعل حتى يؤدي ما هو واجب عليه ، فهو لا يدري لأنه لا يُمسك بالكتاب الصحيح , فيا ترى ما هو دور الشعوب في حل قضية فلسطين حلا صحيحا عادلا مستقيما على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ .
عندما تسأل المفكرين من أبناء الأمة المخلصين أو تسأل عموم الناس تكون الإجابات متباينة ومختلفة وكثير منها جميل ورائع ، فهناك من يقول إن الجهاد هو الحل الوحيد وعلى الفلسطينيين أن يستمروا في مقاومتهم وعلى الحكومات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أن تفتح الأبواب لجهاد اليهود ، وهناك من يقول إن العرب لابد أن يتحدوا جميعا في كلمتهم ويقفوا أمام اليهود وقفة واحدة في مفاوضات واحدة بدلا من أن يكونوا شرذمة في لقاءات متفرقة ، وهناك من يقول أن على السلطة الفلسطينية أن تضع يدها في يد الفصائل المختلفة داخل فلسطين وأن يتعاونوا على طرد اليهود بدلا من تركيز السلطة على تحجيم قوة المقاومة للاحتلال ، وهناك من يقول لابد من وقف التطبيع وقطع العلاقات مع اليهود سواء علاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية أو غيرها من العلاقات ، وهناك من يقول لابد من الضغط على مصالح الدول الغربية وتوحيد الكلمة في إجتماعات الأمم المتحدة والمحافل الدولية وغير ذلك ، وهناك من يقول لابد من تمويل المقاومة الفلسطينية بالسلاح الحقيقي بدلا من الحجارة ليستكملوا جهدهم بصورة أكبر وأشد ، وهناك من يقول لابد للسعي لمحاكمة شارون وألمرت وغيره كمجرمي حرب وفتح ملفات غزة وصبرا و شاتيلا ، ولكن هذا يوحي بأن من قبلهم كانوا من الملائكة !! ، كما نسي الناس أن شارون انتخب من عموم اليهود بأعلى نسبة إجماع منذ سنوات .
وما سبق كانت حلولا كثيرة جدا يذكرها المفكرون ويشعر بها عموم الناس ، ولكن سبحان الله فإن جميع هذه الحلول تتفق في شيء واحد وهو أنه ليس في مقدور الشعوب أن تقوم بها ، فأنا لا أخاطب الحكومات والهيئات السياسية في هذه المجموعة من المقالات بل أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية ، فأخاطب الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأعمال , وأخاطب الحداد والنجار والسواق والحلاق وأستاذ الجامعة ، فأنا أخاطب عموم الناس الذين ليس بأيديهم قرار تسيير الجيوش ولا قطع العلاقات ولا غلق السفارات ولا وقف التطبيع ولا وحدة قادة المسلمين , أخاطب الرجل البسيط العادي الذي لا ينتمي إلى حزب من الأحزاب ولا إلى هيئة من الهيئات ، ماذا يفعل لفلسطين ؟ .
بمعنى مختصر ما هو دوري ودورك في قضية فلسطين ؟ حتى إذا جئت لتخلد للنوم تجد نفسك مرتاح البال وتقول ( يا رب تألمت لما يحدث هناك ففعلت ما في وسعي ) , ترى ما هو وسعك ؟ وما هي طاقتك ؟ .
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه السلسلة من المقالات إن شاء الله مع ملاحظة أن الخطاب لأهل فلسطين سيكون مختلفا بالكلية عن هذا الخطاب الذي أتحدث به الآن ، فهو لمن لا يملك أن يجاهد في هذه الأراضي المقدسة ، وإلا فلا شيء يعدل الجهاد ضد اليهود .



هذه المقالة تكاد تكون منقولة بالنص من درس للدكتور راغب السرجاني

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته






هناك 6 تعليقات:

  1. بارك الله فيك أخي الكريم
    وجزاك الله خيرا
    فعلا هم يبحثون عن وطن((ليسرقوه))و((يستوطنوه))
    لا حول ولا قوة إلا بالله
    لكِ الله يا غزّة

    ردحذف
  2. أختي " أم البنين " ، جزانا الله وإياك خير الجزاء .

    ليست غزة وحدها يا أختنا بل كل فلسطين لها الله .

    أما نحن فعلينا واجبات جمة ومنها فهم تلك القضية فهما صحيحا والله المستعان .

    ردحذف
  3. ماشاء الله
    والله يا اخى مش عارف اقولك إيه

    كلامك تمام 100%

    فهناك علاقة وطيدة بين سقوط الأندلس وفلسطين والعراق والله أعلم فيمن يأتى بعد ذلك من بلاد الإسلام..
    فغير المسلمين فى محاولة دائبة لإبادتنا ولكن الله هو الحافظ ولكن إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم
    فليس القضية قضية غزة وحدها أو فلسطين وحدها بل قصية الإسلام

    بارك الله فيكم

    ردحذف
  4. أخي " الدكتور إبراهيم " ، نعم هناك علاقة وطيدة بين الأندلس وفلسطين ، فالأمور تتكرر بطريقة عجيبة ، حتى أن المقاومة هناك من يحاول وئدها تماما كما حدث في غرناطة ، أما العراق فهي احتلال جيش لبلد وليس احتلال شعب لشعب آخر وتهجيره وتقتيله .

    نحتاج لأن نصلح أنفسنا أولا ، ونربي أبناءنا على ما يجب عليهم أن يتربوا عليه ، فالأمر جد خطير ، والمواجهة آتية لا محالة ، فلنعد العدة لذلك ، والله المستعان .

    ردحذف
  5. جزاك الله خيرا

    ها قد عدت لنبدأ المسيرة ان شاء الله


    -

    ردحذف
  6. جزانا الله وإياك .

    عودا حميدا إن شاء الله تعالى ، أسأل الله أن يكتب لي ولك التوفيق والإخلاص فيما نعمل .

    ردحذف

إتحفني برأيك